ربما كان من أسوأ ما يميز الفكر الإسلامي المعاصر أنه فكر لا يريد أن يفارق ما يسميه الدكتور محمود زقزوق «عصر الاجترار الثقافي». والاجترار هو إعادة الكلام مرارا من غير الإتيان بشيء جديد. وقد قيل في ذلك: لما أخذ العرب يجترون تراثهم نضب معين المعرفة عندهم. ويمضي الدكتور زقزوق مضيفا إلي ما سبق أن هذه النتيجة قد تصدم الكثيرين من المشتغلين بالدراسات الإسلامية بصفة عامة، ولكن الحقيقة في أحيان كثيرة تكون مرة، فليس هناك في واقع الأمر تجديد في هذا المجال إلا فيما ندر. ومعظم الدراسات التي تصدر في هذا المجال غالبا ما تكون رسائل علمية تقدّم للجامعات الإسلامية للحصول علي ألقاب علمية، أو الحصول علي ترقيات، ويغلب عليها طابع التقليد والاجترار، أي أنها تجتر مما سبقها من دراسات أو كتب دراسية دون أي إضافة ذات قيمة للعلم تشفي غليل الباحث المتطلع لآفاق معرفية جديدة. وطبيعي أن يذكر الدكتور زقزوق الشيخ محمد عبده في هذا المجال، علي أساس أن محمد عبده كان يرفض التقليد بكل أشكاله وصوره، فالتقليد ضلال يعذر فيه الحيوان، ولكنه لا يصح بحال من الأحوال من الإنسان القادر علي التفكير والتمييز، إذ يعد (التقليد) بمثابة إلغاء للعقل وقضاء علي شخصية الفرد وكبت لقدراته وامتهان لكرامته. هذا الكلام من الدكتور محمود زقزوق يدل علي أن الأزهر يضم بين جنباته من يرفض التقليد ويدين الاجترار ويلح علي ربط الدين بالحياة المتجددة، ومن ثم يفتح أبواب الاجتهاد علي مصاريعها، ويمضي مع النزعة العقلانية إلي ما يزيد النصوص إضاءة في الأفهام، ويجمع بين العقل والنقل بما يؤكد حيوية الفكر الديني الذي لا يكف عن التجدد والإضافة إلي ما قاله القدماء. ولكن هذا النوع من العقول المنفتحة أندر من الكبريت الأحمر في الأزهر، فالغالب علي علمائه التقليد، ولذلك يصعب عليهم أخذ قضية تجديد الخطاب الديني التي يطالبهم بها رئيس الجمهورية مأخذا جادا مستجيبا، فالعقول التي اعتادت علي التقليد لسنوات عديدة، يصعب عليها أن تفارق ما اعتادت عليه، والأزهر الذي ناصب تجديد الشيخ محمد عبده العداء، وانتقم من تلميذه علي عبد الرازق حين مضي في طريق أستاذه، وانتهي إلي أن الخلافة ليست أصلا من أصول الإسلام، لأن الله سبحانه وتعالي ترك للمسلمين حرية اختيار النظام الذي يحقق مصالحهم، فكان جزاؤه سحب شهادة العالمية منه، والطرد من وظيفته، هذا الأزهر لا يزال باقيا كما هو في أغلبه، رغم كل ما فعله أمثال الشيخ شلتوت من الذين كرهوا التقليد ودعوا إلي فتح أبواب الاجتهاد. ويكفي أن نذكر ما نال الشيخ شلتوت ومن بعده الشيخ طنطاوي نتيجة ما وصل إليه اجتهاد كل منهما فيما يخص معاملات البنوك وصناديق الادخار، فقد تعرض كل منهما للنقد اللاذع الذي وصل إلي حد الاتهام بالخضوع للسلطة الحاكمة وإملاءاتها، فيما يقول الدكتور زقزوق في رصده أزمة الفكر الإسلامي المعاصر. وترجع أغلب أسباب هذه الأزمة، إذا قصرنا كلامنا علي الأزهر، إلي منهج التفكير السائد الذي لا نجد محاولة جذرية لتغييره، فالغالب علي منهج الأزهر في مواجهة قضايا الحياة والأحياء هو التقليد والاجترار، ويظهر المأزق حين تفرض قضايا الحياة المعاصرة وجودها علي العقول التي يغلب عليها التقليد. ولن تدرس هذه العقول الظروف والشروط الجديدة التي أدت إلي هذه القضايا، مستضيئة بما تراه مفيدا، وليس ملزما، في كتب القدماء، وإنما تواجه قضايا العصر الجديدة بالبحث في كتب المذاهب الفقهية القديمة لاستخراج الرأي المناسب لقضايا لم تكن معروفة في الماضي، أو معروفة بطريقة مغايرة فتكون النتيجة الموقف السلبي الرافض للقضايا المعاصرة، ومثال ذلك قضية البنوك الحديثة وأرباحها، فالفتوي فيها تحتاج إلي تعمق في دراسة تطور الاقتصاد ودور البنوك الحديثة، والفارق بين الاقتصاد البدائي الذي كان يناسب أوضاع القبيلة والاقتصاد المعاصر الذي يتعدي الدولة إلي غيرها من الدول في عصر العولمة..إلخ. وهذا ما فعله الشيخ سيد طنطاوي، رحمه الله، فيما كتبه عن البنوك الحديثة، ولم يرض عنه أهل التقليد لأنه خرج علي ما اعتادوا عليه. ومن جهل شيئا عاداه كما ذهب عقلاء التراث. ويمكن أن نضيف إلي قضية معاملات البنوك الحديثة قضية اشتغال المرأة بالقضاء التي انتهت عقول التقليد إلي رفضها لأنها لم تفعل شيئا سوي البحث في كتب المذاهب الفقهية القديمة فحسب، وذلك دون أن تكلف هذه العقول نفسها مشقة البحث أو إجراء دراسات حديثة عن أوضاع المرأة في العصر الحاضر وما وصلت إليه من علم ومعرفة في كل التخصصات العلمية والخبرات الحياتية ومقارنة ذلك بأوضاع المرأة في عصر نشأة المذاهب الفقهية منذ أكثر من ألفي عام حتي يمكن الوصول إلي الرأي الصحيح بعيدا عن أي تقليد. وهذا ما يمليه العقل السليم وصحيح الدين وما يتفق مع مبدأ الاجتهاد فيما يقول الدكتور محمود زقزوق الذي أنقل عنه. وكانت النتيجة رفض مجلس الدولة تعيين المرأة في منصب قاض في مجلس الدولة. ولعل هذا الرفض- فيما يقول الدكتور محمود زقزوق- يعتمد علي فتوي الفقهاء التي ترفض اشتغال المرأة بالقضاء مطلقا لدي الشافعية والمالكية والحنابلة. أما بعض الحنفية فيجيزون اشتغالها في القضاء في الأحوال المدنية فقط. وطبعا يمكن أن نضيف إلي ذلك كل ما يتصل بالمرأة التي يبدو أنها لا تزال تعاني من حالة تمييز فقهي ضدها، سواء كنا نتحدث عن زيها أو ختانها، أو مساواتها بالرجل في كل الحقوق والواجبات. الأمر الذي دفع الدكتور زقزوق إلي طرح السؤال المهم: «أين نحن من فقه الواقع الغائب عن أذهان الكثير من فقهائنا؟ وأين نحن من فهم الواقع الحالي للمرأة؟ وهل المرأة اليوم هي نفس المرأة التي كانت في عهد مؤسسي المذاهب الفقهية؟ وأين الاجتهاد المتجدد الذي فتح بابه واسعا صاحب الشريعة؟ وأين نحن من فهم مقاصد الشريعة وجوهر الدين؟ وإلي متي سنظل عالة علي فقهائنا الأقدمين؟». هذه أسئلة عقل أزهري مستنير يذكرنا بسلفه الصالح الذي يفخر به الجامع الذي أغرقته كثرة من أبنائه في مستنقعات التقليد والاجترار، وهؤلاء لن نجد عندهم جديدا أو تجديدا، ولا ينبغي أن نعوّل عليهم في إعادة فتح أبواب الاجتهاد والتجديد الذي ينتج، إن تحقق، مذاهب فقهية جديدة، مرتبطة بمتغيرات عصرنا. تخيلوا أن الشافعي الذي عاش ما بين القرنين السابع والثامن الميلاديين (150-204ه) قام بتغيير ثلاثين مسألة من فقهه، عندما انتقل من العراق إلي مصر. تري ماذا كان يمكن أن يقوم به من تغيير لو انتقل من القرن الثامن الميلادي إلي القرن الحادي والعشرين. المؤكد أنه كان سيغضب من أهل التقليد في الأزهر، ويسألهم عن السبب في أنهم لم يكونوا مثله، ولم يغيروا من فقهه هو أو غيره، حتي إلي درجة ابتداع مذاهب فقهية جديدة، تتناسب ومتغيرات الحياة، ومن منطلق الاجتهاد الذي ينفي عن نفسه صفة اليقين أو الصواب المطلق. فقد قيل لأبي حنيفة: إن هذا الذي تفتي به هو الحق الذي لا مراء فيه: فرد قائلا: لا أدري! لعله الباطل الذي لا مراء فيه. نعم. نحن في حاجة إلي مذاهب فقهية جديدة، وإلي فقهاء يؤمنون بما قاله الشافعي نفسه: « رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب». ومن الحق أن نقول إن التقليد الذي هو شائع في العقول الأزهرية، كالاجترار، هو أكثر شيوعا في الخطاب الديني للسلفية، ولذلك تبدو الصلة وثيقة بينها، من حيث عدم الاختلاف في الإلحاح الواعي علي عقلية التقليد والاجترار، والانطلاق منها في كل تفكير ديني، وفي تقديري أن هذه العقلية انتقلت من مجال الفكر الديني إلي الفكر العام بسبب ما أشرت إليه عن التأثير السلبي للفكر الديني الجامد علي الفكر العام في عصور التخلف الثقافي كالعصر الذي نعيش فيه. ولكن يبقي السؤال الأهم عن الكيفية التي تبرر بها عقلية التقليد والاجترار حضورها وهيمنتها علي الوعي حتي خارج مجال الفكر الديني. الإجابة مرتبطة بالمبدأ السلفي الذي يؤكد أن السلف أفضل من الخلف دائما، وأن التاريخ لا يتطور صاعدا، وإنما ينحدر هابطا، فالبداية هي عصر ذهبي، لحظة ضوء ساطع وخير مطلق، وكلما تباعدنا عن هذه اللحظة في الزمن انحدرنا إلي الظلمة والخلل والفساد. ويعني ذلك، في الأصول السلفية، أن الرسول -صلي الله عليه وسلم- خير من صحابته، وصحابته الذين عاشوا بعده خير من التابعين، والتابعون خير من تابعيهم، وهكذا دواليك. ولتأكيد هذه النظرة يتم تأويل الحديث «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم». ويعني ذلك أن القرن الأول الهجري أفضل من القرن الثاني، والثاني أفضل من الثالث، والثالث أفضل من الرابع. وقد عزي ابن تيمية (661-728ه) في سياق إيمانه بهذه النظرة من كثرة مخالفة الكتاب والسنة- فيما يتصور- إلي أن عهد السلف قد بعد، وأن الزمان قد طال، فخفي علي كثير من الناس ما كان ظاهرا جليا للسلف. لذا كان المنهج القديم عنده هو ترك القرون المتأخرة الفاسدة والعودة إلي القرن الأول، خير القرون. ولذلك كثر عند الحنابلة المتأخرين الكتابة عن «فضل السلف علي الخلف». كما فعل ابن رجب الحنبلي (736-795ه) في رسالته التي تحمل هذا العنوان. وكان ابن رجب يضع زمنه ضمن «الأزمنة الفاسدة» التي لا نجاة منها إلا بكتابه «كلام أئمة السلف المقتدي بهم إلي زمن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد» أما بعد ذلك فالحذر كلما اقتربنا من الأزمنة الفاسدة، أو دخلنا فيها. وهذا كلام كان يقال عن زمن عاني فيه المسلمون معاناة قاسية بسبب ضعف حكامهم وفسادهم من ناحية والوطأة القاسية للمخاطر الأجنبية التي تمثلت في غزوات الصليبيين والتتار والمغول الذين كانوا وراء المذابح الفظيعة التي شهدتها بغداد وغيرها من العواصم العربية. ومن يراجع تفاصيل الحملات الصليبية التي بدأت من سنة 489ه إلي القرن الثامن للهجرة، يدرك معاني مأساة الغزو الوحشي الذي تعرض له العرب باسم الصليب الذي كان بلا شك بريئا من الجرائم التي ارتكبت باسمه. وقل الأمر نفسه علي المجازر الوحشية التي ارتكبها التتار والمغول. صحيح أنه كانت هناك لحظات فرح، حقق فيها العرب النصر علي أعدائهم الصليبيين في معركة حطين بقيادة صلاح الدين الأيوبي، في موازاة لحظات أخري حقق فيها المماليك النصر في معركة عين جالوت التي انتصر فيها قطز علي التتار، ولكن الخطر الخارجي ظل ماثلا، مهددا، إلي درجة دفعت الفقهاء من أمثال ابن تيمية إلي مواجهة غزو التتار لبلاد الشام سنة 699ه. وقد خرج هو نفسه لمواجهة قازان ملك التتار، واشترك في معركة شقحب سنة 702 ه محرضا ومشجعا ومقاتلا. وفي مثل هذا المناخ الذي عاش فيه فقهاء مثل ابن تيمية (661-728ه) وابن رجب الحنبلي (736- 795ه) وأمثالهما، يصعب الرضا عن أيام الحاضر القاسية وأزمنتها الفاسدة علي السواء، فيعود العقل الفقهي إلي القرن الأول للهجرة بوصفه واحة الأمان والحلم المستحيل والعصر الذهبي علي السواء، وذلك مقابل الأزمنة الفاسدة والأيام السوداء التي واجه فيها المسلمون وفقهاء الحنابلة أمثال ابن تيمية وابن رجب الحنبلي وغيرهما أسوأ ما توقعوا، فكان لابد من الآلية الدفاعية لوعيهم الجمعي بحضورهم وسط الأزمنة الفاسدة أن تستبدل بهذه الأزمنة نقيضها. وهكذا نصل إلي تصور أن السلف خير من الخلف، وأن خير القرون هو قرن النبي صلي الله عليه وسلم، ثم الذي يليه، والذي يليه... إلي أن نصل إلي الأزمنة الفاسدة التي ابتلي فيها المسلمون بالتتار والمغول والصليبيين.. إعمالا للقاعدة» من أعمالكم سلط عليكم». والتشدد والمبالغة وذم الحاضر نتيجة طبيعية لنوع الفقه الذي لابد أن يشبه زمنه والمكان الذي عاش فيه الفقيه واكتوي بناره. والدليل علي ذلك أننا لو بحثنا في زمن مختلف ومكان مختلف وجدنا فقها مغايرا تماما، ونفيا لإطلاق مقولة فضل السلف علي الخلف. وحسبي أن أتوقف عند الإمام محمد بن علي الشوكاني اليمني (1173-1250ه) الشافعي، وذلك في كتابه «البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع» الذي يفتتحه- بعد حمد الله والصلاة علي نبيه وآله وصحابته- بقوله: «شاع علي ألسن جماعة من الرعاع اختصاص سلف هذه الأمة بإحراز فضيلة السبق في العلوم دونَ خَلفها، حتي اشتهر عن جماعة من أهل المذاهب الأربعة تعذر وجود مجتهد بعد المائة السادسة كما نقل عن البعض، أو بعد المائة السابعة كما زعمه آخرون. وكانت هذه المقالة بمكان من الجهالة لا يخفي علي من له أدني حظ من علم، وأنزر نصيب من عرفان.. لأنها قصر للتفضل الإلهي، والفيض الرباني علي بعض العباد دون البعض، وعلي أهل عصر دون عصر... بدون برهان ولا قران علي أن هذه المقالة المخذولة والحكاية المرذولة تستلزم خلو هذه الأعصار المتأخرة عن قائم بحجج الله، ومترجم عن كتابه وسنة رسوله، ومبين لما شرعه لعباده. وذلك هو ضياع الشريعة بلا مرية، وذهاب الدين بلا شك. وهو تعالي قد تكفل بحفظ دينه. وليس المراد حفظه في بطون الصحف والدفاتر، بل إيجاد من يبينه للناس في كل وقت وعند كل حاجة. وقد حداني ذلك إلي وضع كتاب يشتمل علي تراجم أكابر العلماء من أهل القرن الثامن ومن بعدهم مما بلغني خبره إلي عصرنا هذا ليعلم صاحب تلك المقالة أن الله، وله المنة، قد تفضل علي الخلف كما تفضل علي السلف، بل ربما كان في أهل العصور المتأخرة من العلماء المحيطين بالمعارف العلمية علي اختلاف أنواعها من يقل نظيره من أهل العصور المتقدمة». وما كان يقصد إليه الشوكاني بهذا النص الطويل ( الذي حرصت علي نقله كاملا للإفادة والتأكيد) هو تحرير العقول من التقليد والاجترار، أو ما عبر عنه الشوكاني بأنه يريد لكل عالم أن « يحل عن عنقه عري التقليد». ويقودنا ذلك كله إلي أن كلامهم اجتهادات أرادوا بها الخير. ولأنها اجتهادات بشر، فيجوز عليها ما يقع لاجتهادات البشر من صواب أو خطأ. وهذا هو ما عبر عنه الشافعي عندما قال إن اجتهاده صواب يحتمل الخطأ واجتهاد غيره خطأ يحتمل الصواب. ويلازم هذه الملاحظة غيرها الذي يؤكد مغايرة فقه المسلمين بتغير حياة المسلمين حسب مقتضي الزمان وشروط المكان، فتشدد ابن تيمية في التقليد كان نتيجة ظرف تاريخي عاشته بلاد الشام ومصر. وإذا تغير الظرف التاريخي لم يعد للتشدد من معني، وكان لابد للفقهاء من أن يحلوا عري التقليد. ويتبع ذلك أخيرا أن الاجتهاد واجب علي كل فقيه، وإلا ما استحق هذه الصفة التي لا معني لها إلا بما يلزم عنها وهو الإسهام في فتح أبواب الاجتهاد علي مصاريعها، خصوصا في مستحدثات الأمور التي لم يرد فيها نص. وما أكثرها في هذا الزمان وما أندر الاجتهاد بسبب ترسخ عقلية التقليد والاجترار وافتقاد الشجاعة التي انطوي عليها أمثال محمد عبده وعلي عبد الرازق ومحمود شلتوت، وما أندرهم في الأزهر الذي يحتاج الكثير من رجاله إلي شوكاني جديد يحل عن أعناقهم عري التقليد. هكذا نصل إلي المعني الذي أتصوره للحديث النبوي «إن الله يبعث لهذه الأمة علي رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها». (رواه أبو داود: (رقم/ 4291) وصححه السخاوي في «المقاصد الحسنة» (149)، والألباني في «السلسلة الصحيحة»: رقم/599). وأول مدلول للحديث أن التجدد سنة الحياة وقانونها، وأن أشكال التجدد تتراكم في كل قرن بما يدفع الفقهاء إلي إعادة النظر فيما ورثوه، والإضافة إليه بما عاينوه وعاصروه في حياتهم، وذلك بما ينتج عنه تراكمات كمية. هذه التراكمات تظل في حاجة إلي المفكر الإسلامي الشجاع الذي ينظر في عمق وشمول إلي ما تراكم قبله، فيعيد بناءه في صيغ مبتكرة، مختلفة كيفيا، تضيف إلي حيوية الإسلام، وتؤكد أنه دين الحياة المتجددة والعقول المجتهدة المنفتحة علي كل ما يكشف عن أفق المستقبل الواعد لكل المسلمين وكل من يعيش معهم- تحت مبدأ المواطنة- في بلد شعاره: «الدين لله والوطن للجميع». والبداية هي استبدال عقلية الاجتهاد والابتكار بعقلية التقليد والاجترار. لمزيد من مقالات جابر عصفور