أعادت مسألة التشويش على بعض القنوات التلفزيونية مؤخرا للأذهان أهمية دعم التلفزيون الوطني في مواجهة "الحروب التلفزيونية" التي تستهدف تشويه المشهد المصري. وفيما باتت التلفزة موضع دراسات ثقافية عميقة في الغرب بقدر ماهي جذابة، رأى الدكتور محمد عبد الشفيع عيسى أستاذ العلاقات الاقتصادية الدولية في معهد التخطيط القومي بالقاهرة أن المشهد المصري بعد ثورة 30 يونيو مشوه لدى الرأي العام الخارجي . وإذا كان الدكتور محمد عبد الشفيع عيسى قد أكد على أن هناك حاجة لتقديم صورة أكثر توازنا لواقع الحال المصري، فإن الحروب التلفزيونية التي تتعرض لها مصر من الخارج تسهم في عملية التشويه الجارية على قدم وساق. وكانت عدة قنوات تلفزيونية مصرية خاصة هي (النهار، وسي بي سي، والمحور) قد تعرضت في الآونة الأخيرة لعمليات تشويش وصفت بأنها "متعمدة"، فيما أثارت تساؤلات حول مصدرها والهدف منها. وفي هذا السياق، أسهبت بعض الصحف في الحديث عن أنواع التشويش ما بين مداري وأرضى، ومزجت ما بين النواحي الفنية والتقنية والحالات التاريخية على مستوى العالم، موضحة أن هذه الحالات تعود إلى النصف الثاني من ثمانينيات القرن العشرين غير أن أغلب دول العالم تجرم عمليات التشويش التلفزيوني. وتذهب بعض الكتابات إلى أن القنوات الفضائية التلفزيونية يتجاوز تأثيرها على رجل الشارع تأثير بعض الأدوات التقليدية للحكم والإدارة في عالم اليوم وأن الفراغ السياسي وغياب المؤسسات التي تدير المجتمع أمر يحول التلفزيون إلى قوة تأثير هائلة في المجتمع. وإذا كان من الجائز استعارة عنوان كتاب جديد للكاتب جلين جرينوالد عن العميل السابق لوكالة الأمن القومي الأمريكي إدوارد سنودن "لا مكان للاختباء" فإن التلفزيون لم يكن بعيدا عن صنع عالم لم يعد بمقدور أحد أن يختفي فيه أو يتوارى عن الأنظار فيما أضحت القنوات التلفزيونية طرفا فاعلا في قضايا التسريبات ببلدان عدة. وعلى إيقاع ما يعرف "بجبروت التلفزة" كظاهرة لا تفرق بين غرب وشرق ولا بين بريطانيا ومصر تتوالى الأسئلة ومن بينها: هل تحول المصريون إلى أمة مقعدها الدائم أمام الشاشة الصغيرة، وما توصيف هذه العلاقة؟.. آتكون علاقة حب أم استسلاما سلبيا؟.. وهل بات المصري مجرد متلق لما تبثه التلفزة على مدار الساعة؟. يتبع وإذا كان الأمر كذلك فلا مناص من التسليم بالقوة الجبارة للتلفزيون، ولابد من محاولات جادة لتوظيف هذه القوة بما يخدم التطور الثقافي للمصريين، كما أن هناك حاجة لدعم التلفزيون الوطني في مواجهة حروب الدعاية السوداء لبعض الفضائيات القادمة من الخارج التي قد تجيد أحيانا التستر وراء قناع زائف من الاحتراف لكنه سرعان ما يتمزق. وإلى جانب شبكة الجزيرة الفضائية أفادت تقارير بأن قطر تسعى لإطلاق قناة فضائية جديدة من لندن تحمل اسم "شبكة العربي التلفزيونية"، وتسعى لجذب جمهور جديد من مشاهدي القنوات الآخرى. وتحفل الصحف بآراء وتوصيات لخبراء في الإعلام تؤكد على أهمية التخلص من الممارسات البيروقراطية في التلفزيون الوطني المصري بإحلال نظام مؤسسي متطور محل النظم العتيقة لمطلع ستينيات القرن العشرين، منوهين بأن لهذا التلفزيون تاريخه العريق كما أنه مازال يحظى بكثير من الكفاءات التي يتوجب الاستفادة منها على النحو الأمثل. وعلى الصعيد الثقافي، فإن الأمر يتجاوز بكثير ما يسمى بالقنوات الثقافية وينبغي أن ينطلق من رؤية عميقة بقدر ما هي رحبة لبحث التأثير الثقافي للتلفزيون بخصائصه على وجه العموم في الحياة الثقافية المصرية، وعلى ثقافة المصريين ونظرتهم للذات والحياة والعالم في سياق ما يسمى "بزمن الفرجة حيث تلعب الصورة دورا بالغ الأهمية في تشكيل الإدراك". وهذه القضية تتجاوز حتى الجدل الذي يثار من حين لحين حول تأثير التلفزيون على الكتاب أو الكلمة المطبوعة، وهو جدل يمتد أيضا لتأثير الشبكة العنكبوتية الشهيرة بالإنترنت، وتلك مسألة تحتمل التفاعل والتأثير المتبادل وإمكانية التطويع بصورة إيجابية إن خلصت النوايا وصحت العقول. وفي الوقت ذاته، فقد بات واضحا لكل ذي عينين أن بعض القوى الكارهة لمصر أو الراغبة في تعطيل مسيرة المصريين للحرية والكرامة والعدالة استغلت وتستغل إمكانات التلفزة في سعيها الحاقد، ولو اتخذ زي المهنية الكاذبة وادعى أنه يعبر عن الرأي والرأي الآخر. ودعت الدكتورة عواطف عبد الرحمن الأستاذ بكلية الإعلام في جامعة القاهرة للإسراع في تأسيس نقابة للإعلام المرئي والمسموع وتفعيل دورها في حماية حق الجمهور في المعرفة والاتصال، فقد رأت في مقابلة صحفية أن الإعلاميين والإعلام هم الضحية الأولى للصراعات والتجاذبات السياسية والتناقضات الاجتماعية والثقافية، علاوة على اختراق أباطرة السوق والمعلنين، معتبرة أن الخاسر الحقيقي هو الجمهور الذي أهدرت حقوقه في المعرفة والمشاركة. والحقيقة أن الأمر ليس وقفا على مصر كما تكشف نظرة على كتاب صدر بالإنجليزية بعنوان (أمة على مقعد.. تاريخ حميم لبريطانيا أمام شاشة التلفزيون) لجوي موران الذي يسترجع أياما لم يكن متاحا فيها للبريطانيين سوى الاختيار بين ثلاث قنوات تلفزيونية. ذلك ما كان في بريطانيا ستينيات القرن العشرين، وقد يسترجع البعض في مصر تلك الأيام التي لم يكن عدد القنوات التلفزيونية المصرية يزيد عن قناتين، ولعل مسألة التأريخ والرصد لدور التلفزيون في تشكيل ثقافة المصريين بحاجة لباحثين على طراز جوي موراي مؤلف هذا الكتاب الجديد فهو بروفيسور شاب متخصص في "التاريخ الثقافي" وصاحب عين لاقطة وذهن متوثب بقدرة إعادة بناء التفاصيل والوصول لنتائج واستنتاجات بما يخدم الثقافة البريطانية. ولم ينح جوي موراي في كتابه ذلك المنحى الجاف والفظ باسم الأكاديمية مع أنه نجم من نجوم الحياة الأكاديمية في بريطانيا، وإنما جاء الكتاب جذابا مشوقا للقاريء أينما كان وأيا كان مستواه، ولم يسع البروفيسور الشاب للتعالم على القاريء، وإنما راح يقص له قصة التلفزيون في بريطانيا ومدى تأثير التلفزة على ثقافة البريطانيين بأسلوب "خطاب الصديق للصديق ومضى يعالج الظاهرة بروح بعيدة عن التربص والرغبة في الهجوم لمجرد الهجوم والنيل من الآخرين". ولا يختلف الحال كثيرا بين بريطانيا ومصر في جبروت التلفزة عندما يجلس الملايين والملايين أمام الشاشة في مباراة مهمة لكرة القدم أو مسلسل درامي مبهر، وبعض هذه المسلسلات أمست علامات تميز ثقافة جيل عن جيل وباتت علامة على ذكريات حميمة في مرحلة ما من الحياة الإنسانية. ولكن هذا الكتاب الجديد يؤكد أيضا أن قطاعات مهمة في المجتمع البريطاني تشعر بالقلق أنه لم يكن الغضب حيال هذا الدور المتعملق للتلفزيون وبعض الشرائح في المقابل تشعر بأنها مهمشة في ظل جبروت التلفزة، ناهيك عن المخاوف الأخلاقية مع استشراء النزعة الحسية البصرية الصارخة. وإذا كانت مصر تقف في مفترق طرق وتمر بلحظات فارقة فما هو دور التلفزيون بالضبط في تلك اللحظات، وهل يمكن تصويب هذا الدور إن كان بوضعه الراهن يلحق أضرارا بالمصريين تصل لحد تهديد أمنهم القومي؟. ويشير الدكتور محمد عبد الشفيع عيسى إلى أن استراتيجيات الإعلام العالمي تابعة بصورة عامة للاستراتيجية العامة للدول الغربية الكبرى، وفي مقدمتها الولاياتالمتحدة، فيما لفت إلى اعتياد أجهزة الإعلام على نقل "الشكل العام" للحدث أي تضاريسه الظاهرية دون القدرة، وربما دون رغبة في تجسيد التفاصيل العميقة لجوهر الظاهرة. يتبع ولا مناص من تمحيص لطبيعة القوى التي تمتلك القنوات التلفزيونية بمصالحها وأهدافها مع مجموعات الضغط الإعلانية، وهذا لا يعني انتهاج سياسة الإغلاق أو الإنغلاق بقدر ما يعيد للأذهان مقولة "فهم الواقع هو السبيل لتغييره"، وليس الأمر في بلد عريق في الديمقراطية مثل بريطانيا ببعيد عن ذلك كله، كما يكشف الكتاب الجديد لجوي موران والأهم أنه يكشف عن سبل قد لا يتصورها البعض عن كيفية تعامل الدولة مع التلفزة في أوقات التهديدات الجسيمة للأمن القومي. ويؤكد هذا الكتاب الجديد على أن هناك في بريطانيا من يعتريهم القلق حيال تأثير المتغيرات كما يظهرها التلفزيون على التماسك المجتمعي، كما أن هناك اهتماما بتعزيز التلفزة البريطانية عبر البحار في الحروب الإعلامية العالمية والتنافس بين الثقافات فيما يرغب البعض في تحويل هذا التنافس إلى صراع له أبعاد دموية. وفي تلك الحروب وسواء بالأصالة أو بالوكالة باتت التلفزة السلاح الجبار في سياقات معولمة وسواء رضى البعض أم لم يرض فإن الكثير من نتائج هذه الحروب يتوقف على مدى كفاءة النخبة التلفزيونية.. وغني عن القول أن غياب التكوين الثقافي الراسخ لهذه النخبة لا يعني سوى الانحطاط والهزيمة في حروب تفرض فرضا على الأمم كما هو الحال الآن في الحرب المفروضة على المصريين. فهل حان الوقت لمراجعة ثقافية شاملة لتلك القضية في مصر بجد لا هزل فيه؟، وهل حان الوقت ليقوم التلفزيون بالدور المأمول في بناء الغد الأفضل للمصريين وفي بناء الوعي لا تزييفه؟.. نعم التلفزيون قوة جبارة لكنها يمكن أن تكون قوة للبناء أو قوة للهدم، ومن هنا فالشأن التلفزيوني شأن مجتمعي بامتياز وقضية ثقافية بالدرجة الأولى. مصر روحها لن تكون رمالا ولن تسير من موت إلى موت ولو اختلط الأمر على طول الطريق الصعب.. سينكسر الشر المتلفز.. سينتصر شعب مصر على من يقف وراء الحروب التلفزيونية التي تصفق لقتلة المصريين وتهلل وتصخب مع الدم المسكوب.