"ترحيل أو تهجير الشعب الفلسطينى هو ظلم لا يمكن أن نشارك فيه"، بهذه العبارة الموجزة عبر الرئيس عبد الفتاح السيسى عن ثوابت الموقف التاريخى تجاه القضية الفلسطينية الداعمة لحقوق الشعب المكلوم منذ أكثر من 7 عقود، وزادت محنته منذ السابع من أكتوبر 2023 وكانت مصر دوما السند والداعم له. ومنذ اندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين فى قطاع غزة فى السابع من أكتوبر 2023، عقب العملية المفاجئة التى شنتها حركة حماس ضد المستوطنات الإسرائيلية فى غلاف غزة، برز الدور المصرى كأحد أهم الأدوار الإقليمية فى التعامل مع الأزمة الإنسانية والسياسية والعسكرية التى عصفت بالمنطقة. وبحكم الجغرافيا والتاريخ، وجدت القاهرة نفسها فى موقع محورى بين طرفى الصراع، مضطرة إلى تحقيق توازن دقيق بين الوساطة الدبلوماسية من جهة، والأمن القومى المصرى من جهة أخرى. تشترك بحدود برية بطول نحو 14 كيلومترًا مع قطاع غزة عبر معبر رفح، كانت ولا تزال البوابة الرئيسية لدخول المساعدات الإنسانية وخروج الجرحى والنازحين. ومنذ الأيام الأولى للهجوم الإسرائيلى على القطاع، بادرت مصر إلى إطلاق تحركات دبلوماسية مكثفة تهدف إلى وقف إطلاق النار، وحماية المدنيين، وفتح ممرات آمنة لإدخال المساعدات. وكان لوزارة الخارجية دورا هاما فى هذا الأمر، حيث قام وزير الخارجية السابق سامح شكرى بجولات مكوكية شملت قطر، الأردن، السعودية، والولاياتالمتحدة، كما استقبلت القاهرة وفودًا من الأممالمتحدة والاتحاد الأوروبي، فى محاولة لحشد دعم دولى لمطلب التهدئة الفورية. واستكمل الدكتور بدر عبد العاطى وزير الخارجية والهجرة وشئون المصريين بالخارج، ما بدأه "شكري"، وكانت له جولات مكوكية فى شتى بقاع الأرض فى محاولة لإيصال رسائل واضحة وحشد التأييد للفلسطينيين ودفع الأكاذيب الإسرائيلية وتوضيح الصورة الصحيحة لما يجرى من إبادة جماعية فى غزة. وشددت القاهرة، فى جميع مواقفها الرسمية، على أن الحل لا يمكن أن يكون عسكريًا، وأن استمرار العمليات الإسرائيلية يهدد الاستقرار الإقليمى بأسره، كما أعادت التأكيد على موقفها الثابت من ضرورة إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967، باعتبار ذلك الحل الجذرى لأى صراع مستقبلي. ومن أبرز الجهود المصرية الدبلوماسية، المؤتمر الدولى "القاهرة للسلام" الذى عُقد فى أكتوبر 2023 بمشاركة عشرات الدول والمنظمات الدولية. كان هدف المؤتمر وقف العدوان الإسرائيلى وإطلاق مسار سياسى جديد ورغم أن المؤتمر لم يحقق نتائج مباشرة، إلا أنه ثبّت الدور المصرى ك"قائد المساعي" فى الأزمة. الوساطة المصرية منذ سنوات، تُعد مصر الوسيط الأكثر قبولًا لدى الطرفين، لما تملكه من قنوات اتصال مع حركة حماس وإسرائيل. وخلال الأزمة، لعبت القاهرة دورًا محوريًا فى تبادل الرسائل غير المباشرة بين تل أبيب وحماس، خاصة فيما يتعلق بملفات الهدنة المؤقتة، وتبادل الأسرى والمحتجزين، وإدخال المساعدات. بحلول نوفمبر 2023، ساهمت الجهود المصرية — بالتعاون مع قطروالولاياتالمتحدة — فى التوصل إلى هدنة إنسانية مؤقتة استمرت أسبوعًا، تم خلالها تبادل عشرات الأسرى والمحتجزين وإدخال كميات كبيرة من المساعدات الإنسانية عبر معبر رفح. لكن المفاوضات اللاحقة تعثرت بسبب تباين المواقف بين حماس وإسرائيل حول ضمانات وقف إطلاق النار الشامل، وجدول انسحاب القوات الإسرائيلية من غزة. ورغم ذلك، استمرت القاهرة فى استضافة جولات تفاوضية متكررة بين الوفود، سواء بشكل مباشر أو عبر الوسطاء الدوليين. الدور الإنسانى والإغاثي منذ بداية الحرب، أصبحت سيناء مركز العمليات الإنسانية المصرية تجاه غزة، حيث أُنشئت منطقة لوجستية ضخمة فى العريش لتجميع وتوزيع المساعدات القادمة من مختلف الدول العربية والأجنبية. ووفقًا لتقارير الهلال الأحمر المصري، فإن أكثر من 70٪ من المساعدات الدولية إلى غزة مرت عبر الأراضى المصرية. كما استقبلت المستشفيات المصرية فى شمال سيناء والإسماعيلية مئات الجرحى الفلسطينيين، خاصة الأطفال والنساء. وتم نقل بعض الحالات الحرجة إلى مستشفيات القاهرة الكبرى لتلقى العلاج المتخصص. ورغم أن إسرائيل كانت تفرض قيودًا مشددة على مرور المساعدات، إلا أن القاهرة نجحت فى إبقاء معبر رفح مفتوحًا نسبيًا أمام القوافل الإنسانية، بالتنسيق مع الأممالمتحدة والهلال الأحمر الفلسطيني. كما قامت مصر بإرسال قوافل طبية وميدانية إلى داخل غزة بالتعاون مع منظمات الإغاثة الدولية، فى ظل تدهور النظام الصحى فى القطاع. مصر تجهض مخطط ترامب كانت مصر هى الشوكة فى حلق الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، الذى أعلن مرارا رغبته فى تهجير سكان غزة، متوافقا مع رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، إلا أن رفض القاهرة كان الصخرة التى تحطمت عليها كل هذه المخططات، ويبدو أن الاتفاق المتوقع تنفيذه بين حماس وإسرائيل هو "نصر بلا حرب" حققته مصر ضد واشنطن وتل أبيب، بعدما فشل مخطط التهجير إلى الآن. وأعلنت القيادة المصرية مرارًا رفضها القاطع لأى مخططات تهدف إلى تهجير سكان غزة إلى الأراضى المصرية، مؤكدة أن ذلك يمثل تصفيه للقضية الفلسطينية. وأصدرت بيانات رسمية تؤكد أن سيناء ليست بديلًا عن غزة، وأن أى محاولة لفرض هذا الواقع ستواجه بحزم. كما عزز الجيش المصرى الانتشار الأمنى والعسكرى على الحدود مع القطاع، وتم إنشاء نقاط مراقبة إضافية ونشر معدات هندسية فى مناطق محاذية لمعبر رفح. موقف موحد انخرطت القاهرة بعمق فى تنسيق المواقف مع العواصم الإقليمية والدولية الكبرى.فقد عملت مصر بالتعاون مع قطر وتركيا والأردن والسعودية على بلورة موقف عربى موحد يرفض استمرار العدوان ويطالب بوقف إطلاق النار الفوري. وفى المقابل، نسقت مع الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبى لإيصال رسائل واضحة إلى إسرائيل بضرورة ضبط النفس وتخفيف الحصار. كما شاركت مصر فى الاجتماعات الدورية لوزراء الخارجية العرب، ودفعت فى مجلس الأمن باتجاه قرارات ملزمة لوقف إطلاق النار. وعلى الرغم من أن تلك الجهود اصطدمت بحق النقض الأمريكى أكثر من مرة، فإنها عززت مكانة القاهرة كمحور للعمل الدبلوماسى العربي. مستقبل الدور المصرى بعد الحرب تتجه الأنظار الآن إلى ما بعد الحرب، حيث يتوقع أن يكون لمصر دور حاسم فى إعادة إعمار غزة وفى ترتيب الوضع الأمنى والإدارى داخل القطاع. فقد طرحت القاهرة، بالتعاون مع قطروالولاياتالمتحدة، خطة لإدارة المرحلة الانتقالية فى غزة بعد انسحاب القوات الإسرائيلية، إلى حين تشكيل سلطة فلسطينية موحدة. كما تسعى القاهرة إلى ضمان وحدة الأراضى الفلسطينية وعدم فصل غزة عن الضفة الغربية سياسيًا أو إداريًا وتؤكد أن أى حلول تتجاوز السلطة الوطنية الفلسطينية أو تمهد لإدارة دولية منفصلة مرفوضة تمامًا. يمكن القول إن الدور المصرى فى أزمة غزة منذ 7 أكتوبر 2023 كان متعدد الأبعاد: إنسانيًا، دبلوماسيًا، أمنيًا، واستراتيجيًا.فعلى الرغم من التعقيدات الإقليمية والتحديات الداخلية، نجحت القاهرة فى الحفاظ على استقرار حدودها مع القطاع، وأثبتت أنها الطرف العربى الأقدر على التواصل مع جميع الأطراف. وجسدت الأزمة من جديد حقيقة أن مصر ليست مجرد دولة مجاورة لغزة، بل هى لاعب محورى فى رسم مستقبل القضية الفلسطينية برمتها. ومع استمرار المفاوضات الدولية حول إعادة الإعمار والترتيبات السياسية المقبلة، يبقى الدور المصرى حجر الزاوية فى أى حل واقعى ومستدام للمنطقة.