عندما يدخل محمد المصيبيح مدير المجموعة المحاسبية في شركة الصالحية العقارية الكويتية مكتبه الواقع في مجمع الصالحية بمدينة الكويت العاصمة في الثامنة صباحا من كل يوم يجد "كومة" ملفات في انتظاره. تتعلق هذه الملفات بمتطلبات "الحوكمة" التي تفرضها هيئة أسواق المال على الشركات المدرجة في البورصة ويحتاج إنجاز العمل فيها إلى عدة ساعات يوميا. يقول المصيبيح لرويترز بنبرة يشوبها التذمر إن هذه القواعد تستغرق جزءا كبيرا من وقته الذي يجب أن ينصرف إلى أعمال الشركة الأساسية واستثماراتها مؤكدا أنه لا أحد يختلف على ضرورة تطبيق الحوكمة وتحقيق الشفافية ولكن يجب أن يكون ذلك بشكل تدريجي وبطريقة لا تعيق عمل الشركات أو تشغلها عن أعمالها. ويشكو كثير من مسؤولي الشركات المدرجة في بورصة الكويت من قواعد الحكومة التي بدأت هيئة أسواق المال تطبيقها منذ منتصف العام الماضي. ورغم حديثهم الظاهر عن أهميتها إلا أنهم يرون أن توقيتها ليس مناسبا لاسيما أن شركاتهم لم تتعافى بعد من آثار الأزمة المالية العالمية ويرغب كثير منهم في التخلص منها أو على الأقل تخفيفها. ويتضامن كثير من المضاربين والمتداولين في بورصة الكويت مع مسؤولي الشركات ويعتبرون أن هذه القواعد قيدت كثيرا من حركتهم في سوق اعتادوا العمل فيها بحرية على مدى عقود. وفي المقابل ترى هيئة أسواق المال السلطة الرقابية العليا في سوق الأوراق المالية الكويتية أنها تقوم بتطبيق القانون الذي يضمن الشفافية وحماية مصالح صغار المساهمين في الشركات وصغار المتداولين في البورصة. وتقول إنها أعطت مهلة كافية للشركات لتطبيق هذه القواعد. ورغم محاولات عديدة لم تتمكن رويترز من الحصول على تعقيب من هيئة أسواق المال. وتقول الهيئة على موقعها الالكتروني إن قواعد حوكمة الشركات تعد ذات أهمية بالغة في مجال الإدارة الرشيدة للشركات حيث أنها تحث على تطبيق أفضل الممارسات في شأن الأساليب الإدارية الحديثة والالتزام بالاخلاقيات وقواعد السلوك المهني الرشيد." وفي ندوة عقدها منتدى المتداولين مؤخرا صب عدد من المتداولين في البورصة والمحللين المستقلين جام غضبهم على قواعد الحوكمة التي اعتبروا أنها تعوق تقدم بورصة الكويت في وقت تتقدم فيه كل بورصات الخليج بوتيرة سريعة. وخلال الندوة قال أحد المتداولين مفتخرا إنه وبعد عناء طويل اتجه إلى بورصة دبي حيث تمكن هناك من تحقيق أرباح وتعويض ما خسره خلال السنوات الماضية في بورصة الكويت. وترتفع بورصة دبي بقوة حيث تجاوزت مكاسبها خلال العام الماضي 100 بالمئة مدعومة بتعافي القطاع العقاري في الإمارة. وخلال الشهر الجاري تبلورت جهود عديدة للضغط على هيئة أسواق المال باتجاه تخفيف قواعد الحوكمة كما تقدم نواب في البرلمان بتعديلات تطال 37 مادة من قانون هيئة أسواق المال. وقال عضو البرلمان الكويتي النائب يوسف الزلزلة الذي يتبنى التعديلات لرويترز إن المواد المتعلقة بخصخصة البورصة تعد من أهم البنود التي تحتاج إلى تعديل في قانون هيئة أسواق المال لاسيما بعد أن تم تجاوز الفترة التي حددها القانون لإنجاز هذه المهمة وأكد الزلزلة وهو وزير سابق للتجارة والصناعة ضرورة أن يتبنى التعديل الجديد ملاحظات المتداولين على القانون وشكاواهم وأن يكون هناك مرونة في التعاطي مع التداولات للدفع قدما ببورصة الكويت مشددا على ضرورة الانتهاء سريعا من التعديلات. ومنذ اندلاع الأزمة المالية العالمية في 2008 تسعى كثير من الشركات الكويتية لتقليل نفقاتها سواء بتخفيض عدد الموظفين أو التخفف من المكاتب والإدارات والعقارات المؤجرة لكنها وجدت نفسها ملزمة في السنة الأخيرة بكلفة عالية نتيجة لتطبيق قواعد الحوكمة. وقال محمد المصيبيح وهو عضو مجلس إدارة جمعية المحاسبين والمراجعين الكويتية إن تطبيق الحوكمة يكلف الشركة الواحدة ما بين 200 ألف إلى 500 ألف دينار سنويا يذهب جلها لمكافآت اللجان التي تطلب الهيئة انشاءها وهي لجان الحوكمة والتدقيق الداخلي وإدارة المخاطر والمكافآت والترشيحات. واستغرب المصيبيح إلزام الشركات بعقد اجتماعات دورية لكل هذه اللجان بواقع أربع اجتماعات سنويا لكل منها وبإضافة 6 اجتماعات دورية أخرى لمجلس الإدارة يكون لدى الشركة 26 اجتماعا في السنة تحتاج جميعها لإعداد وتجهيز وتحضير وهو ما يستهلك قدرا كبيرا من وقت المسؤولين التنفيذيين في الشركة. وأكد المصيبيح أن كثيرا من هذه اللجان لا يحتاج إلى الاجتماع سوى مرة واحدة في العام مثل لجنة المكافآت وغيرها. وانتقد المصيبيح تطبيق قواعد الحوكمة دفعة واحدة على الشركات دون إمهالها فترة زمنية أطول إضافة لتطبيق نفس القواعد بكل تفاصيلها على كل الشركات دون تمييز بين شركة كبيرة وأخرى صغيرة ودون تمييز بين قطاع وآخر. وتقول الهيئة على موقعها إنه "روعي عند إعداد قواعد حوكمة الشركات... أن تتناسب مع حجم وطبيعة الشركات حتى لو كانت محدودة الحجم حيث أن القواعد تتميز بأنها عامة وتتمتع بالمرونة في التطبيق." وفي بيان نادر أصدرته مؤخرا قالت الهيئة إنها أعطت الشركات مهلة عاما ونصف العام بدأت منتصف العام الماضي من أجل تطبيق قواعد الحوكمة وأنها تتابع بشكل ربع سنوي تطبيق الشركات المعنية للقواعد. واضاف بيان الهيئة أنه "ومن واقع الرصد تبين للهيئة احراز تقدم سواء من حيث عدد الشركات أو مدى تطبيق القواعد والمبادئ المطلوبة." ويعزو كثير من المحللين ضعف التداولات الذي أصاب سوق الكويت للأوراق المالية في السنتين الأخيرتين إلى الإجراءات الصارمة التي تتخذها الهيئة في مواجهة التلاعب في البورصة. كما قامت في مرات كثيرة باحالة مخالفين إلى القضاء. وقال مدير استثمار في شركة استثمارية كبرى إن قواعد الحوكمة أصبحت "عبئا" على سوق الكويت للأوراق المالية وساهمت في انحسار التداولات عن السوق. وقال مدير الاستثمار الذي طلب عدم كشف اسمه "السوق أصبح طاردا.. التداولات قلت والشركات أصبحت تسحب إدارجها وشركات الوساطة تخسر من الرسوم التي تفرضها عليها الهيئة." وأضاف المدير أن بورصة الكويت ردت بشكل عملي على الاعلان عن تعديل قانون هيئة أسواق المال من خلال ارتفاع معدل السيولة بشكل كبير خلال في اخر جلستين الاسبوع الماضي لمجرد الإعلان فقط عن التعديل. وقال عدنان الدليمي مدير شركة مينا للاستشارات إن كثيرا من المعايير التي يجب أن يتم تطبيقها "غير واضحة" وبالتالي فإن ما يعتبر مخالفات في تداولات البورصة هو أمر خاضع فقط "لتفسير وتقدير الهيئة.. هي قضية تقديرية من طرف واحد." وأضاف الدليمي أن القانون الحالي يسمح للهيئة بأن تحيل للنيابة اي متداول يقوم بعملية "تشك الهيئة فيها." وأكد ضرورة أن يتم تعديل القانون ليحدد بدقة ما يمكن اعتباره مخالفات تحال للنيابة وما ليس كذلك. ويشكو كثير من المتابعين لسوق الكويت من انحسار مستوى قيم التداولات يوما بعد يوم حتى وصلت إلى ما دون عشرين مليون دينار يوميا في الأسابيع الأخيرة وهو معدل منخفض للغاية بينما كان يزيد عن 200 مليون ابان اندلاع الأزمة العالمية في 2008. ولام المدير في الشركة الاستثمارية على الهيئة عدم تواصلها مع الشركات ومسؤوليها وقال "يعاب على الهيئة أنها لا ترد على أحد ولم تمارس سياسة الأخذ والعطاء أو الاجتماعات مع الشركات ولو أبدت مرونة واجتماعات مع الشركات لحدث تفاعل ولكن ذلك لم يحدث." وتزايدت الشكوى من عدم تواصل هيئة أسواق المال مع مجتمع المال والأعمال خلال الأسابيع القليلة الماضية حتى أن غرفة تجارة وصناعة الكويت واسعة النفوذ أصدرت بيانا في 11 مارس اذار أكدت فيه أنها "في طليعة المدافعين عن استقلالية هيئة أسواق المال غير أن الاستقلالية لا تعني العزلة ولا تتناقض مع المشورة ولا تنفصل عن الحرفية." واضاف بيان الغرفة أن "قواعد حوكمة الشركات خرجت في كثير من بنودها عن الضوابط القانونية واللائحية وأغفلت منهج التدرج والمواءمة ولم تراع الواقع الاقتصادي والمجتمعي للكويت. "قرار قواعد الحوكمة في الكويت تشدد إلى أبعد الحدود وتدخل في أدق التفاصيل فجاء في عدد صفحاته وقواعده ومبادئه أكبر من ضعف الأعداد المماثلة في قرارات حوكمة الشركات بمعظم دول العالم." ودعا البيان في ختامه إلى أن تبقى هذه القواعد "ذات دور استرشادي لفترة كافية يجري بعدها اضفاء صفة الالزامية عليها بصورة تدريجية" كما هو الحال في دول كثيرة منها الأردن والبحرين والسعودية ومصر والمملكة المتحدة. ويبدو أن بيان الغرفة الذي أخرج الخلاف للعلن بين مؤسستين توصفان بالصديقتين كان له تأثير مباشر على تحرك الهيئة التي التقت وزير التجارة بعدها بأيام قليلة وقالت في بيان إن "باب الحوار مفتوح مع أي طرف بشأن هذا الموضوع (موضوع الحوكمة) أو أي موضوع آخر يهم الاشخاص المرخص لهم وأن قرارات الهيئة والآجال الزمنية لتنفيذها تخضع للمرونة." وأكدت الهيئة أنها تدرس تأجيل تطبيق قواعد الحوكمة على الشركات مؤكدة حرصها على تطبيق القانون وتطوير أسواق المال والشركات العاملة فيه. وقالت في البيان "بالنسبة لموضوع الحوكمة فهي أيضا خاضعة للرصد والتقييم وسيتم النظر بمستوى التطبيق المطلوب والنظر في تأجيل الآجال الزمنية لتلك القواعد بعد توافر التقرير الربع السنوي الثالث للتطبيق للفترة المنتهية بتاريخ 31 مارس 2014." ورغم الحماس الشديد من قبل المضاربين والمتداولين لتعديل قانون هيئة أسواق المال إلا أن أصواتا لها وزنها تقول إن تعديل القانون قد لا يصب في مصلحة الاقتصاد الكويتي محذرة من إضعاف سلطة الهيئة التي ظل الكويتيون عقودا يطالبون بإنشائها. واعتبر جاسم السعدون مدير مركز الشال للدراسات إن هناك من يسعى عبر تعديل القانون للعودة مرة أخرى للتداولات غير المنضبطة في سوق الكويت للأوراق المالية. وقال السعدون لرويترز إن محاولة إضعاف هيئة أسواق المال "سيؤدي حتما للدخول مرة أخرى إلى فوضى التداول والتكسب من وراء التداول بكل الخطايا .. (من خلال) معلومات داخلية وإلى آخره." وأضاف السعدون "الكلام في ظل هذا الجو الملبد بالغيوم عن تعديل القانون أمر في غاية الخطورة." واقترح بدلا من تعديل القانون مد أجل المهلة الممنوحة للشركات لتطبيق قواعد الحوكمة الملزمة سنة اضافية إلى نهاية 2015 وأن تقسم مدونة الحوكمة البالغة 70 صفحة إلى ثلاثة أجزاء. ويرى السعدون أن الجزء الأصغر من القواعد يمكن أن يتراوح بين 10 و15 صفحة ويكون ملزما للشركات بينما الجزء الثاني غير ملزم "ويفترض انك إذا لم تطبقه أن تعطي تفسيرا لماذا لم تطبقه... ولا يترتب عليه عقوبات. بينما يبقى الجزء الثالث من المدونة وهو الأكبر اختياريا."