على الرغم من العلاقات الممتدة التى تفرضها وقائع التاريخ وحقائق الجغرافيا ، إلا أن تضاؤل الدور المصري خلال السنوات التى أعقبت الإطاحة بنظام القذافى ، أسهم فى فرض قواعد جديدة لمسارات الأمن والسياسة ، كرسها الحضور غير المحمود لدول عربية وأجنبية لا تريد الخير بليبيا ، وهو ما أنتج حالة من الإنهيار طالت نيرانها حدود مصر وأمنها القومي ناهيك عن سلامة المصريين الشخصية فى الداخل الليبي المشتعل . وقد فرضت تلك الحالة من التهديد السياسى والأمنى لمصر وليبيا فى آن واحد ، ضرورة إعادة صياغة منظومة الحضور وآليات التعاون بين البلدين ، بما يمكن أن يعيد بناء جسور الصداقة التاريخية التى فرضها الجوار الجغرافى ، وما أنتجه من وشائج القربى والنسب بين شعبى البلدين . ومع بلوغ مصر مرحلة التعافى ، ووصول قطار التحول الديمقراطي إلى محطته المركزية باقتراب إستحقاق الإنتخابات الرئاسية ، بات الدور المصري أشد وضوحا وأكثر قربا من تحقيق الأولويات التى يقع الأمن الليبي فى صدارتها ، إنطلاقا منه إلى تحقيق الإستقرار وإعادة بناء الدولة الليبية الجديدة التى يأمل المصريون كما يأمل الليبيون أن تتم بمشاركة ودعم الخبرات المصرية . ويتجلى وضوح الحضور المصري الفاعل واضحا فى المبادرة التى أطلقها وزير الخارجية نبيل فهمي - فى ختام أعمال مؤتمر روما حول الأمن فى ليبيا - لإنشاء صندوق دولى يُعنى بجمع وتخزين الأسلحة بالتنسيق بين منظمة الأممالمتحدة والدولة الليبية، بهدف منع الحوادث التى تهدد أمن ليبيا وتؤدى إلى مقتل مدنيين ، ومن بينها الحادث الإجرامى الذى أودى بحياة سبعة مواطنين مصريين مقيمين فى ليبيا مؤخراً. وتأتى تلك المبادرة فى وقت تستضيف القاهرة منتصف العام الجارى ، المؤتمر الوزارى الدولى حول ضبط الحدود الليبية، بهدف مساعدة ليبيا على مواجهة التحدى الكبير لضبط حدودها والتى تمتد على مساحة كبيرة ، والتى تستغلها بعض الجماعات الإرهابية وعصابات الجريمة المنظمة . حيث أكد وزير الخارجية نبيل فهمي أن القاهرة ستتعاون مع ليبيا فى مجال ضبط الحدود من خلال تقديم برامج تدريبية للمعنيين بهذا الشأن ، وهو ما يمثل نهجا أسهم غيابه بعض الوقت فى إنتاج معدلات بالغة الخطورة من الجريمة المنظمة ، وتهريب ملايين القطع من الأسلحة التى فتح القذافي فى أيامه الأخيرة مخازنها على مصراعيها ، لتصل إلى أيدى المتطرفين وتجار الأسلحة ، الذين إستخدموا فوائض الأموال الناتجة عن التجارة غير المشروعة فى السلاح لتمويل العمليات الإرهابية فى مصر وليبيا على حد سواء . ويبدوجليا مدى خطورة العمليات غير القانونية التى تتم منذ إنهيار نظام القذافى عام2011 وحتى الآن ، بسبب ما يمكن أن نسميه "الخواء الحدودي" الذي سمح بتهريب أسلحة من ليبيا أو سيطرة الميليشيات عليها والتأثير بالتالي على السلع المارّة أو الأشخاص. حيث أنتجت الثورة الليبية عقب نجاحها فى القضاء على نظام العقيد القذافي ، فراغًا أمنيًا بالداخل إمتد إلى الخط الحدودي بين مصر وليبيا ، الذى يمتد على مساحة 1049 كيلو مترًا، وكما سيطرت الميليشيات المُسلحة على الأراضي داخل الدولة الليبية بشكل كبير، ودخلت في صراعات مع الحكومات المتعاقبة ، إنعكس الإنفلات الأمنى على الحدود التي لم شهدت عمليات إنتقال غير شرعية للأسلحة والبضائع وكذلك البشر . إلا أن الأمر بلغ ذروة خطورته عندما تجاوزت بعض المجموعات المسلحة التى لا تعرف ولاءاتها غالبا حدود المنطق ، وتنوعت تلك التجاوزات بين عمليات الاختطاف والاحتجاز لمصريين مع التهديد بالقتل، ففي مايو من العام الماضى 2013 تم اختطاف ست مصريين على الحدود، ولم يمر خمسة أشهر حتى جاءت الحادثة الثانية التي اختطف فيها ثمانين سائقًا من مسلحين، كرد فعل على قيام الحكومة المصرية بسجن مجموعة من الليبيين حاولوا دخول مصر بشكل غير قانوني، وتم تهديد الحكومة بأنه إذا لم يتم الإفراج عنهم في خلال عشر أيام سيتم قتل الرهائن . فيما اختطف مسلحون مجهولون خمس موظفين من القنصلية المصرية بليبيا فى يناير الماضى ، مطالبين بالإفراج عن ''شعبان هدية'' الشهير بأبو عبيدة،الذى كان يرأس ما يعرف بغرفة ثوار ليبيا ، وهى إحدى الميليشيات النافذة هناك،والتى قامت بإحتجاز رئيس الوزراء الليبي على زيدان نفسه فى وقت سابق ، ثم جرى بعد أيام احتجاز عشر سائقين مصريين بمدينة أجدابيا للإفراج عن ليبيين مقبوض عليهم فى مصر . وكانت الحادثة الأشد خطرا وألما هى إختطاف وقتل سبعة مسيحيين مصريين ، وهي الجريمة التى فرضت إتخاذ إجراءات حاسمة لوقف حد لنزيف العنف ضد المصريين ، مقابل الحصول على مكاسب بعضها معلن والآخر غير معلن ، إلا أن كل تلك الجرائم تصب فى خانة محاولات تقليص التواجد المصري فى ليبيا الجديدة لصالح أدوار مرسومة لدول تحاول فرض أجنداتها للسيطرة على مقدرات وثروات البلاد . ويمكن من خلال قراءة موثقة لمسارات عمليات الإختطاف أو القتل ، الوصول إلى قاسم مشترك بين كل تلك الجرائم ، وهو استغلالها كوسيلة للضغط لتحقيق المطالب، وتحقيق مكاسب للميليشيات في كل مرة، كما أن شيوخ القبائل الموجودين قريبًا من الحدود الليبية، يلعبون دور الوسطاء بين الحكومة والخاطفين، كي يتم التوصل لحل يرضي جميع الأطراف ، وهو ما يمكن البناء عليه ، لتقوية هذا المكون الأساسي فى المنظومة الإجتماعية والسياسية الليبية ، فى خطوة من شأنها ضرب نفوذ الميليشيات غير الشرعية . كما أن تنفيذ المبادرة المصرية لنزع السلاح وتخزينه من المجموعات المسلحة من شأنه أيضا تقليص نفوذ تلك الميليشيات التى تفرض سطوتها فى ظل غياب أمنى رسمي بسطوة ما تمتلكه من سلاح ،حيث تمكنت مجموعات مسلحة بعضها كان يقاتل القذافي بهدف تحرير ليبيا والآخر يقاتل بهدف تنفيذ أجندات خارجية ، من الحصول على الأسلحة كغنائم بمجرد الانتصار في المعارك، فيما تم الحصول على الجزء من الأسلحة الآخر وهو الأكبر والأخطر ، عندما أصبحت مخازن الأسلحة التابعة لنظام القذافي المنهار فى متناول أيديهم ة . وتشير المعلومات إلى أن أكبر العمليات التي استهدفت الحصول على الأسلحة من مخازن منطقة تسمى ''القاريات'' بالمنطقة الجنوبية في غرب ليبيا، والتي قادها ''عبد الباسط غاغا''، و''جمعة الجرج''، و''علي الحراري'' ، كانت عملية ''فجر مازدة''، وبعد انتهاء الثورة رفض الكثير من المسلحين تسليم أسلحتهم للحكومة. ولعل الخطير فى أمر التسليح هو ما جري بعد إنهيار الأمن على الحدود بين مصر وليبيا من عمليات تهريب لأسلحة نوعية منذ عام 2011 ، من بينها صواريخ مضادة للطائرات وصواريخ عابرة للمدن ومدافع جرينوف، بالإضافة للأسلحة الآلية والخرطوش ، فيما تقدر بعض الجهات عدد قطع السلاح التى جرى العثور عليها من مخازن القذافى بحوالى 22 مليون قطعة سلاح تتفاوت بين الخفيفة والمتوسطة والثقيلة . وإذا كان من دواعى الإنصاف الحديث عن الجهود التى بذلتها الجماعات الليبية فى الثورة وحمايتها ، إلا إنَّه من المسلَّم به أنَّ وجود السلاح خارج سيطرة الدولة بات يشكل عقبة على جانب كبير من الخطورة؛ فالسلاح يجب أنْ يكون حصريًّا للدولة الليبية فقط، والجيش الوطنى الليبى جيش واحد غير متعدد، كما أنَّ قوات الشرطة والأمن الليبية لا يمكن أنْ تكون متعددة، ولا يجمعها جامع واحد ولا قيادة واحدة؛ فسيادة الدولة الليبية معناها أنَّها تملك وحدها السيطرة على هذه الأجهزة، وأنَّ الدولة وحدها هى التى تشكلها، وتنفق عليها، وترسم لها السياسات، وتحدد لها الواجبات والأولويات، كما أنَّه لا مجال لاستقلال كتيبة من كتائب الجيش عن باقى التكوينات العسكرية. وعلى الرغم من الأخطاء التى ارتكبها المجلس الوطنى السابق برئاسة المستشار مصطفى عبد الجليل الذى لم يتعامل مع قضية السلاح والتنظيمات المسلحة بما تستحقه من اهتمام؛ إلا أن فشل الحكومات المتعاقبة فى التعامل مع هذا الأمر الخطير يعود بالدرجة الأولى إلى تدخلات من جانب الدول التى تدعم الميليشيات المنفلتة ، خاصة تلك الميليشيات التى تتشح برداء الدين ولا تخفى إرتباطاتها بتنظيم القاعدة . ويبدو الحديث الآن عن دور قطري سلبى يهدف إلى إستمرار اشتعال الحرائق الليبية ، أمرا لا يمكن السكوت عنه ، كما لا يمكن السكون عن دور تركي لا يقل خطورة عن الدور القطري ، حيث بلغ هذا الدور من السوء إلى درجة إعلان قطر بشكل صريح أنها ستقف ضد أى محاولات لجمع أو نزع أسلحة الميليشيات ، وهو ما يجب أن يكون حاضرا فى ذهن من يريد أن ينتهى الحريق الليبي . وكما يقول مندوب ليبيا السابق في الأممالمتحدة عبدالرحمن شلقم فى كتابه " نهاية القذافي " إن "الحسابات غير المعلنة لقطر في ليبيا ظهرت منذ شهر يوليو من العام 2011 حيث قدمت الرشاوي واشترت الولاءات وفرضت السياسات". حيث كشف فى كتابه " أن شخصية أمريكية قالت له إن هناك خمسة ملفات في ليبيا بيد قطر، وهي النفط والأمن والمال والاستثمار والجيش " ، موضحا أن " ولي عهد قطر " ( الأمير الحالي) أخبره أنهم لن يتركوا ليبيا وشأنها بعد أن دفعوا ثلاثة مليارات دولار لإسقاط القذافى ، على الرغم من أن بإمكانه جمع السلاح من هذا البلد خلال 24 ساعة " . وليس ثمة شك فى أن بقاء الميليشيات وما تمتلكه من أسلحة ، يعنى استمرار غياب مؤسسات الدولة الليبية - العسكرية والأمنية والمدنية - وفوضى السلاح، وتمدد وانتشار التنظيمات، وتفاقم التجاوزات على حقوق الإنسان؛ من اعتقالات وعمليات قتل وتعذيب لذا يبدو الحضور المصري الإيجابى فى الشأن الليبي ، بما تمتلكه القاهرة من خبرات وما لديها من توجهات وآمال بشأن المستقبل الليبي سياسيا وأمنيا وإقتصاديا ، يمكنه بما لا يدع مجالا للشك " أن يقوض كل المؤامرات الخارجية التى تستهدف الإبقاء على الداخل الليبي مشتعلا ، وإنتشار نيرانه لتكوي الجار الأهم " مصر" .