لا يزال العلمانيون اليهود يرتكزون على المتدينين من اليهود الأرثوذكس، في تنفيذ مخططاتهم السياسية، حتى ساد التيار الديني المتشدد على الحكومة، لا مباليا بالقضاء الأعلى ولا بالقانون الدولي، فالضرورات المقدسة لتحقيق أرض الميعاد لابد أنها تبيح المحظورات، ويقوم على تلك الإباحة حاخامات قادرين على إعادة التأويل والتفسير لترغيب الحشود الشعبية في الإقدام على تنفيذ المخططات. وأصبح الحديث عن "خط 67"، الذي تصر أمريكا على إقامة دولة فلسطينية عليه، يترجم إلى مدينة فلسطينية "في حدود 67"، كما حدث حول القرار الشهير لمجلس الأمن 242 الذي أثبت الحق الإسرائيلي على غالبية الراضي الإسرائيلية على حساب الحق العربي. واليوم يناقش الكنيست مشروع قرار لسحب القدس من تحت السيادة الأردنية، وفرض الهيمنة الإسرائيلية عليها، مخترقة بذلك اتفاقية وادي عربة عام 1994، وكاد الطريق الذي يشق ليربط بين المستوطنة الأشد تطرفا "كرييت إربع" وبين الحرم الإبراهيمي يتحقق عليلا أرض الواقع. تأتي هذه القرارات تحقيقا للرؤية الأرثوذكسية للأرض الموعودة، والتي تعد في نفس الوقت مكسبا علمانيا، إضافة إلى أنها مكسب لكل الشتات اليهودي المختار، الذي يرى على اختلاف ملله أن الأسطورة تحققت، وأن الأرثوذكسية كانت على حق، وأن الهجرة إلى إسرائيل اصبحت واجبا دينيا. في الذكرى السنوية لمذبحة الحرم الإبراهيمي يبرز اسم مستوطنة "كرييت إربع"، والحاخام "مائير كاهانا" معلم باروخ جولدشتاين"، منفذ المذبحة و الذي أصبح على اثرها قديسا. "كِرييت إربع" أي "قرية أربع" بالعربية، و "إربع" كلمة سامية أرامية معناها أربعة، أطلقت التوراة اسم "قرية إربع" على قرية "مَمْرا" التي يعيش فيها الكنعانيون من بني حث والذي كان ملكهم عفرون، وسميت قرية أربع نسبة الى عفرون وأبنائه الثلاثة، بدلا من قرية حث الوثنية، ويعود بناء القرية إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد على أيدي الكنعانيين. ويعتبر اليهود أنه بحسب التوراة صارت هذه الارض أول ملكية لإبراهيم في أرض الميعاد التي وعده الله أن يهبه إياها له ولذريته من بعده، ولما مات ابراهيم دفن الى جوار زوجته. ولم يكن 5 يونيو1967 إلا فتحا مبينا بالنسبة لليهود حيث استعاد اليهود جزء من ملكياتهم التاريخية كما يعتقدون. فقد أعلن وزير الخارجية الاسرائيلي آنذاك "آبا إيبان" في 14 يونيو بأنه "لا يمكن لأحد أن يتصور أن توحيد القدس الذي تحقق مؤخرًا يمكن أن يلغى"، وفي 27 يونيو أقر الكنيست قانون ضم القدس، ومذ ذاك استوطن اليهود أطراف المدينة ثم تمددوا لداخلها بتشجيع وتمول الحكومات سواء العلمانية او الدينية. وهناك خمسة مواقع استيطانية كبرى أهمها واكثرها فعالة مستوطنتي "كرييت إربع"، "خارسينا" على الحد الشرقي للمدينة والذي يبعد حوالي 30كم عن الحرم الإبراهيمي، مقر المكفيلة قبر إبراهيم. زادت الهجرات الدينية الى اسرائيل عقب 67 فليس الانتصار اليهودي إلا نصرا من الرب للشعب اليهودي الذي ضل طريقه وابتعد عن أرضه المقدسة، ليعيده إلى رشده، ولم يكن المهاجرين من المتدينين في الواقع بل كان جلهم من امريكا وبريطانيا وكانوا متشككين في الرواية الارثوذكسية حول الأرض المقدسة. لذا مثلت عودتهم للمستوطنات جزء من توبتهم وعودتهم إلى طريق الرب، فحولوها إلى بؤر لمحاربة الأعداء التاريخيين، العرب الذين احتلوا أراضي الرب والعمل المقدس من خلال السيطرة على الأراضي بالقوة، وقتل النسل والحرث للعرب والدفع لخروجهم من على أراضيهم. "أقتل العربي فدمه يقربك من الرب"، و"أحرص على أن تطهر أرض أباءك بإخراج العرب الأنجاس"، ولكن فكرتي "الأرض الموعودة"، و"عودة هاماشيَح" المسيح، ليستا افكار يهودية خالصة، بل هما فكرتين قامت عليهما الصهيونيتين؛ المسيحية التي كانت قد تبلورت وقويت مطلع القرن السابع عشر، واليهودية التي تبناها العديد من المفكرين والحاخامات حتى نجح هرتزل بسبب الظروف السياسية في شرق أوروبا في إقناع حاخامات الجيتوهات حشد يهودهم في اتجاه الارض المقدسة تحت كل الدعاوي التلمودية المقدسة، فكانت هجرتهم في سبيل الرب للحرب واسترجاع الأراضي المقدسة بدعم شامل من القوة العظمى في كل أوان.