أردوغان لا ينظر إلى تركيا في قرارة نفسه إلا باعتبارها قوة أساسية للتحكم في العالمين العربى والإسلامى كإرث من أيام الإمبراطورية العثمانية البائدة، هذا يتضح جليا من محاولات أردوغان السيطرة على مداخل أفريقيا، فبعد توقيع الاتفاقية الأمنية مع ليبيا بشأن تقسيم الحدود بمياه شرق البحر الأبيض المتوسط في نوفمبر الماضي، ضمنت أنقرة الدعم العسكرى لما يسمى «حكومة الوفاق» بقيادة فايز السراج. وزار وفد تركى طرابلس مؤخرًا، بعد عقده سلسلة من اجتماعات هدفت بالإضافة إلى التعاون العسكرى وبيع الأسلحة، إلى استغلال الموارد النفطية وفرض عقود لإعادة إعمار البلاد، بما في ذلك تلك المتعلقة بمطار جديد. وبصورة مماثلة أتاح العمل الذى قام به الأتراك في الصوماللأنقرة الحصول على «دعوة» من الصومال لإجراء أبحاث حول الهيدروكربونات. لذلك، من الممكن توقع ما سيحدث بين أنقرةوطرابلس، مع استعادة خلفية العلاقة بين تركياوالصومال، مع خطوة إلى الوراء إلى عام 2011، عندما زار الرئيس التركى رجب طيب أردوغان، العاصمة الصومالية، التى دمرتها مجاعة رهيبة، وهو الرئيس السياسى الوحيد غير الأفريقي الذى ظهر في مقديشو منذ أكثر من عقدين. ففى ظل رؤية أردوغان العثمانية الجديدة، تم إعداد «إستراتيجية تنمية العلاقات الاقتصادية مع البلدان الأفريقية» في عام 2003. وكان الهدف المعلن هو الحصول على المواد الخام، وتعزيز التجارة مع أفريقيا. وفى عام 2008، عُقدت قمة التعاون التركية الأفريقية في إسطنبول. ومنذ ذلك الحين حدثت طفرة في الزيارات رفيعة المستوى إلى القارة، كما زاد عدد السفارات في أفريقيا من 12 إلى 42، وارتفع عدد مكاتب وكالة التعاون والتنسيق التركية في أفريقيا من 3 إلى 11 تعمل في 28 دولة في أفريقيا، وارتفع عدد المكاتب التجارية من 11 إلى 26. كما قامت شركة الخطوط الجوية التركية بزيادة أنشطتها في أفريقيا باعتبارها إحدى أدوات القوى الناعمة لتركيا. أضف إلى ذلك، فقد وصل عدد الطلاب الأفارقة الذين تخرجوا في الجامعات والمؤسسات التعليمية التركية أكثر من عشرة آلاف طالب. كما بلغ حجم التبادل التجارى التركى الأفريقي 24 مليار دولار. وحسب دراسة الدكتور حمدى عبدالرحمن أستاذ العلوم السياسية بجامعة زايد في الإمارات العربية المتحدة، كان المشروع التركى الأردوغانى يتدثر في بداية أمره برداء اقتصادى وإنسانى من خلال دعم العلاقات مع الصومال منذ عام 2011، ولكنه سرعان ما أفصح عن وجهه الحقيقى من خلال الوجود العسكرى التركى على الأراضى الأفريقية. ففى عام 2016، قامت تركيا بافتتاح أكبر سفارة في مقديشو في عام 2016. وقد استغلت تركيا مناخ الحرب الأهلية وقامت بافتتاح قاعدة عسكرية في الصومال في عام 2017. كما نجحت أنقرة في تأسيس روابط قوية مع كبار السياسيين داخل الحكومة الصومالية، وقامت بتمويل عدد من المواقع الإخبارية المحلية في سياق ما يُمكن وصفه بأنه حالة مثالية من الزبائنية السياسية، ويلاحظ أنه يتم تشغيل كل من ميناء مقديشو ومطارها من قبل الشركات التركية. كما يسعى «أردوغان» لإعادة تشكيل الأوضاع الجيوسياسية في أفريقيا. ففى عام 2018، وقّعت تركيا مع نظام الرئيس المخلوع «عمر البشير» عقد إيجار لميناء سواكن، وادّعت أنقرة أنها تخطط لإعادة تطويره كمنتجع سياحى بتمويل قطري، لكن الخفيّ هو السعى لتطويق بعض الدول التى تعاديها أنقرة. ويبدو أن التحركات التركية ترتبط بالصراع الدولى على الموارد الطبيعية في كل من البحر الأحمر وشرق المتوسط. وقد تورطت تركيا بشكل سافر في الأزمة الليبية، وهو ما يخالف ادعاءاتها السابقة بالتركيز على جوانب التعاون الاقتصادى والتنموي. ولا شك أن تورط تركيا في ليبيا يرتبط ارتباطًا وثيقًا باستراتيجيتها البحرية في شرق البحر المتوسط. ويترتب على ذلك كله زعزعة العلاقات الإقليمية في المنطقة المتوسطية، حيث إن الحدود البحرية المتداخلة لم يتم تسويتها بشكل نهائى بعد. ومن جهة أخرى، يبدو أن تركيا تنظر إلى ليبيا على أنها مسرح عمليات لاختبار وتسويق منتجات صناعاتها العسكرية والأمنية وإظهار وجودها العسكرى في أفريقيا باعتباره أداة للسياسة الخارجية التركية. وتكتمل صورة الصراع بإعلان «أردوغان» عن قيام بلاده بالتنقيب عن النفط قبالة السواحل الصومالية بناء على طلب حكومة مقديشو. وتحمل جولة «أردوغان» الأفريقية في أواخر يناير 2020، والتى شملت الجزائروالسنغال وجامبيا، دلالات مهمة بالنسبة لإستراتيجية التغلغل الاستراتيجى التركية. حيث تؤكد أن هناك ثمة محاولات لإعادة تشكيل ميزان القوى الدولي، ولا سيما التنافس التركي- الفرنسى من جهة، والبحث عن حلفاء جدد بعد سقوط نظام الإخوان المسلمين في السودان من جهة أخرى. وتُشير الإحصاءات إلى أنه منذ عام 2017، حلت تركيا محل فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة في الجزائر، باعتبارها أكبر مستثمر أجنبى في البلاد من خلال نحو ألف شركة تركية. وقد تجاوز حجم التجارة الجزائرية التركية في نهاية عام 2019 مبلغ 4 مليارات دولار. ويمكن القول إن الأزمة الليبية ومحاولة إعادة تشكيل المحاور الإقليمية كانت الهدف الأساسى لجولة «أردوغان» الأخيرة. ولا شك أن التحرك التركى صوب غرب أفريقيا يحمل في طياته محاولة اختراق جدار الفرانكفونية المنيع عبر أكبر حصونها في السنغال. فمنذ عام 2010، كانت العلاقات بين تركياوالسنغال تنمو باستمرار. فقد أسهمت الشركات التركية في بناء مشروعات البنية الأساسية، مثل: مركز عبدو ضيوف الدولى للمؤتمرات، ومطار بليز دياجنى الدولى الجديد في داكار. ومن الواضح أن «أردوغان» يقتفى آثار أسلافه الأتراك الذين أسسوا خلال العهد العثمانى علاقات قوية مع مختلف الأمراء والممالك والمجتمعات في جميع أنحاء القارة الأفريقية.