تحولت الشعرية العربية وشهد مسار القصيدة في الوطن العربي تغيرا كبيرا على يد الشاعر العراقي بدر شاكر السياب الذي تأثر في البداية بجيل على محمود طه، وبدأ يكتب القصيدة العمودية متناولا الموضوعات الرومانسية، وعد النقاد أن قصيدته "هل كان حبا" أول نص تفعيلي عربي، التي قال فيها: كم تمنى قلبي المكلوم لو لم تستجيبي/ من بعيد للهوى أو من قريب/ آه لو لم تعرفي قبل التلاقي من حبيب/ أي ثغر مسّ هاتيك الشّفاها/ ساكبا شكواه آها ثم آها / غير أني جاهل معنى سؤالي عن هواها ؟/ أهو شيء من هواها يا هواها؟". اعتبروها أول نص في الشكل الجديد، ولا يزال الجدل قائما بخصوص الريادة بين السياب ونازك الملائكة عن أول من كتب الشعر الحر، ثم كتب السياب بعدها "الأسلحة والأطفال" و"المومس العمياء" و"حفار القبور" و"أنشودة المطر" فظهرت أهمية السياب في تشكيل وجدان شعراء العالم العربي تجاه ذلك الشكل الجيد. "البوابة نيوز" وسط أجواء الطقس المتغير الذي يشهد سقوطًا للأمطار على عدة نواحي من الجمهورية؛ تستعرض قصيدة "أنشودة المطر" للشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب الذي ولد في البصرة عام 1926 ورحل بها أيضا في العام 1964. عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمر عيناك حين تبسمان تورق الكرومْ وترقص الأضواء... كالأقمار في نهَرْ يرجّه المجذاف وهْنًا ساعة السَّحَر كأنما تنبض في غوريهما، النّجومْ وتغرقان في ضبابٍ من أسىً شفيفْ كالبحر سرَّح اليدين فوقه المساء دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف والموت، والميلاد، والظلام، والضياء فتستفيق ملء روحي، رعشة البكاء ونشوةٌ وحشيَّةٌ تعانق السماء كنشوة الطفل إِذا خاف من القمر! كأن أقواس السحاب تشرب الغيومْ وقطرةً فقطرةً تذوب في المطر... وكركر الأطفالُ في عرائش الكروم ودغدغت صمت العصافير على الشجر أنشودةُ المطر... مطر... مطر... مطر... تثاءب المساء، والغيومُ ما تزالْ تسحُّ ما تسحّ من دموعها الثقالْ كأنِّ طفلًا بات يهذي قبل أن ينام بأنَّ أمّه – التي أفاق منذ عامْ فلم يجدها، ثمَّ حين لجّ في السؤال قالوا له: "بعد غدٍ تعودْ.. " لا بدَّ أن تعودْ وإِنْ تهامس الرفاق أنهَّا هناكْ في جانب التلّ تنام نومة اللّحودْ تسفّ من ترابها وتشرب المطر كأن صيادًا حزينًا يجمع الشِّباك ويلعن المياه والقَدَر وينثر الغناء حيث يأفل القمرْ مطر.. مطر.. أتعلمين أيَّ حُزْنٍ يبعث المطر؟ وكيف تنشج المزاريب إِذا انهمر؟ وكيف يشعر الوحيد فيه بالضّياع؟ بلا انتهاء – كالدَّم المراق، كالجياع كالحبّ، كالأطفال، كالموتى – هو المطر! ومقلتاك بي تطيفان مع المطر وعبر أمواج الخليج تمسح البروقْ سواحلَ العراق بالنجوم والمحار كأنها تهمّ بالشروق فيسحب الليل عليها من دمٍ دثارْ أَصيح بالخليج: "يا خليجْ يا واهب اللؤلؤ، والمحار، والرّدى! فيرجعُ الصّدى كأنّه النشيجْ: "يا خليج يا واهب المحار والردى.. " أكاد أسمع العراق يذْخرُ الرعودْ ويخزن البروق في السّهول والجبالْ حتى إِذا ما فضَّ عنها ختمها الرّجالْ لم تترك الرياح من ثمودْ في الوادِ من أثرْ أكاد أسمع النخيل يشربُ المطر وأسمع القرى تئنّ، والمهاجرين يصارعون بالمجاذيف وبالقلوع عواصف الخليج، والرعود، منشدين: "مطر... مطر... مطر... وفي العراق جوعْ وينثر الغلالَ فيه موسم الحصادْ لتشبع الغربان والجراد وتطحن الشّوان والحجر رحىً تدور في الحقول.. حولها بشرْ مطر... مطر... مطر... وكم ذرفنا ليلة الرحيل، من دموعْ ثم اعتللنا – خوف أن نلامَ – بالمطر... مطر... مطر... ومنذ أنْ كنَّا صغارًا، كانت السماء تغيمُ في الشتاء ويهطل المطر وكلَّ عام – حين يعشب الثرى – نجوعْ ما مرَّ عامٌ والعراق ليس فيه جوعْ مطر... مطر... مطر... في كل قطرة من المطر حمراءُ أو صفراء من أجنَّة الزَّهَرْ وكلّ دمعةٍ من الجياع والعراة وكلّ قطرة تراق من دم العبيدْ فهي ابتسامٌ في انتظار مبسم جديد أو حُلمةٌ تورَّدتْ على فم الوليدْ في عالم الغد الفتيّ، واهب الحياة! مطر... مطر... مطر... سيُعشبُ العراق بالمطر... أصيح بالخليج: "يا خليج.. يا واهب اللؤلؤ، والمحار، والردى! " فيرجع الصدى كأنَّه النشيج: "يا خليج يا واهب المحار والردى. " وينثر الخليج من هِباته الكثارْ على الرمال، رغوه الأُجاجَ، والمحار وما تبقّى من عظام بائسٍ غريق من المهاجرين ظلّ يشرب الردى من لجَّة الخليج والقرار وفي العراق ألف أفعى تشرب الرَّحيقْ من زهرة يربُّها الفرات بالنَّدى وأسمع الصدى يرنّ في الخليج "مطر.. مطر.. مطر.. في كلّ قطرة من المطرْ حمراء أو صفراء من أجنَّةِ الزَّهَرْ وكلّ دمعة من الجياع والعراة وكلّ قطرةٍ تراق من دم العبيدْ فهي ابتسامٌ في انتظار مبسمٍ جديد أو حُلمةٌ تورَّدت على فم الوليدْ في عالم الغد الفتيّ، واهب الحياة ويهطل المطرْ..