لا يموت الشعراء غالبا. فقط يرحلون إلى قصيدة أخرى ويتركون قصيدتهم تعيش حياتها الخاصة. ولذلك تصبح القصيدة السيرة أطول عمرا من الشاعر وربما أكثر أهمية. بعد خمسين عاما من رحيل بدر شاكر السياب لا تزال قصيدته تمارس حياتها الخاصة، بين النقاد والقراء والمؤلفة قلوبهم في جنة الشعر ، أنشودة للمطر تغني لعراق واحد متعدد ذى قصيدة واحدة بألف لون.. بعد خمسين عاما على رحيل السياب يحق لنا أن نحتفي بقصيدة تقاوم الفرقة وتغني للحياة وتصنع كل يوم تمثالا لوطن يسافر فينا كما نسافر فيه، أفضل من ذلك التمثال الذي صنعوه للشاعر على شط العرب السياب الذي ولد في الخامس والعشرين من ديسمبر سنة 1926 ورحل في الرابع والعشرين من ديسمبر سنة 1964، وكأنه اختار شهر المطر بطاقة هوية له ولقصيدته. حرر القصيدة العربية من رتابة عمود خيمتها وزخرفات الدهانات القديمة لطلاء جدرانها ، فصار رائدا، مع نازك الملائكة ، لما أطلق عليه الشعر الحر في القصيدة العربية الحديثة. من قصيدة "أنشودة المطر" أتعلمين أيَّ حُزْنٍ يبعث المطر ؟ وكيف تنشج المزاريب إِذا انهمر ؟ وكيف يشعر الوحيد فيه بالضّياع ؟ بلا انتهاء – كالدَّم المراق ، كالجياع ، كالحبّ ، كالأطفال ، كالموتى – هو المطر ! ومقلتاك بي تطيفان مع المطر وعبر أمواج الخليج تمسح البروقْ سواحلَ العراق بالنجوم والمحار ، كأنها تهمّ بالشروق فيسحب الليل عليها من دمٍ دثارْ . أَصيح بالخليج : " يا خليجْ يا واهب اللؤلؤ ، والمحار ، والرّدى ! " فيرجعُ الصّدى كأنّه النشيجْ : " يا خليج يا واهب المحار والردى .. " أكاد أسمع العراق يذْخرُ الرعودْ ويخزن البروق في السّهول والجبالْ ، حتى إِذا ما فضَّ عنها ختمها الرّجالْ لم تترك الرياح من ثمودْ في الوادِ من أثرْ . أكاد أسمع النخيل يشربُ المطر وأسمع القرى تئنّ ، والمهاجرين يصارعون بالمجاذيف وبالقلوع ، عواصف الخليج ، والرعود ، منشدين : " مطر ... مطر ... مطر ... وفي العراق جوعْ وينثر الغلالَ فيه موسم الحصادْ لتشبع الغربان والجراد وتطحن الشّوان والحجر رحىً تدور في الحقول ... حولها بشرْ مطر ... مطر ... لم يكن السياب, ابن قرية جيكور الصغيرة والتي أخذت اسمها من لفظ فارسي يعني الجدول الأعلى، يعرف أن سنوات عمره القصيرة –38عاما – كافية لمنحه الخلود. فقد قدم فيها للشعر العربي قصائد لن تفنى.. ولم يكن يعرف أن قصيدته عن قريته الواقعة في البصرة – جنوبالعراق - ستجعلها علامة بين القرى جيكور أمي تلك أمي و إن أجئها كسيحا لاثماً أزهارها و الماء فيها و الترابا و نافضا بمقلتي أعشاشها و الغابا تلك أطيار الغد الزرقاء و الغبراء يعبرن السطوحا أو ينشرن في بويب الجناحين كزهر يفتح الأفوافا ها هنا عند الضحى كان اللقاء و كانت الشمس على شفاهها تُكسّر الأطيافا و تسفح الضياء كيف أمشي, أجوب تلك الدروب الخضر فيها و أطرق الأبوابا أطلب الماء فتأتيني من الفخار جره تنضح الظل البرود الحلو قطرة بعد قطره تمتد بالجرة لي يدان تنشران حول رأسيَ الأطيابا (هالتي) تلك أم (وفيقة ) أم ( إقبال )؟ لم يبق لي سوى أسماء من هوى مر كرعد في سمائي دون ماء كيف أمشي؟ خطاي مزقها الداء كأني عمود ملح يسير أهي عامورة الغوية أو سادوم هيهات إنها جيكور جنة كان الصبي فيها و ضاعت حين ضاعا درس السياب الأدب العربي بعمق، كما درس الإنجليزية وبرع في ترجمة آدابها، وتخرج في عام 1948 في الجامعة لينضم للحزب الشيوعي العراقي، قبل أن ينفصل عنه بعد ذلك وقد عمل معلما للغة الإنجليزية في مدينة الرمادي لكنه فصل منها بسبب ميوله اليسارية ليتعرض لتجربة السجن . وعقب الإفراج عنه عمل في عدة وظائف في بغداد والبصرة قبل أن يضطر للهرب إلى إيران ثم الكويت الشاعر الذي ظل وفيا للقرى لم يكن سعيدا في بغداد، فقد ظل في صراع بين جيكور وبغداد حتى عاد إلى قريته فوجدها تغيرت فكانت صدمته الحياتية الثانية بعد خسارة فقد أمه وهو في السادسة من عمره من قصيدة "غريب على الخليج" الريح تصرخ بي عراق و الموج يعول بي عراق ، عراق ، ليس سوى عراق البحر أوسع ما يكون و أنت أبعد ما يكون و البحر دونك يا عراق بالأمس حين مررت بالمقهى ، سمعتك يا عراق وكنت دورة أسطوانة هي دورة الأفلاك في عمري، تُكوّر لي زمانه في لحظتين من الأمان ، و إن تكن فقدت مكانه هي وجه أمي في الظلام وصوتها، يتزلقان مع الرؤى حتى أنام و هي النخيل أخاف منه إذا ادلهمّ مع الغروب فاكتظّ بالأشباح تخطف كلّ طفل لا يؤوب من الدروب وهي المفليّة العجوز وما توشوش عن حزام وكيف شقّ القبر عنه أمام عفراء الجميلة فاحتازها .. إلا جديلة زهراء أنت .. أتذكرين تنّورنا الوهّاج تزحمه أكف المصطلين ؟ وحديث عمتي الخفيض عن الملوك الغابرين ؟ ووراء باب كالقضاء قد أوصدته على النساء أيد تطاع بما تشاء، لأنها أيدي الرجال كان الرجال يعربدون ويسمرون بلا كلال أفتذكرين ؟ أتذكرين ؟ سعداء كنا قانعين بذلك القصص الحزين لأنه قصص النساء حشد من الحيوات و الأزمان، كنا عنفوانه كنا مداريه اللذين ينام بينهما كيانه أفليس ذاك سوى هباء ؟ حلم ودورة أسطوانة ؟ إن كان هذا كلّ ما يبقى فأين هو العزاء ؟ أحببت فيك عراق روحي أو حَببتك أنت فيه يا أنتما - مصباح روحي أنتما - و أتى المساء و الليل أطبق ، فلتشعّا في دجاه فلا أتيه لو جئت في البلد الغريب إلىّ ما كمل اللقاء الملتقى بك و العراق على يديّ .. هو اللقاء شوق يخضّ دمي إليه ، كأن كل دمي اشتهاء جوع إليه .. كجوع كلّ دم الغريق إلى الهواء شوق الجنين إذا اشرأبّ من الظلام إلى الولادة إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون أيخون إنسان بلاده؟ السياب واحد من أكثر شعراء العرب إنتاجا، على قصر حياته، فقد قدم ديوانا في جزءين نشرته دار العودة ببيروت سنة 1971، وجمعت فيه عدة دواوين أو قصائد طويلة صدرت للشاعر في فترات مختلفة: أزهار ذابلة (1947)، وأساطير (1950)، والمومس العمياء (1954)، والأسلحة والأطفال (1955)، وحفّار القبور، وأنشودة المطر (1960)، والمعبد الغريق (1962)، ومنزل الأقنان (1963)، وشناشيل ابنة الجلبي (1964)، وإقبال (1965). كما ترجم السيّاب للعديد من الأدباء العالميين ومن بينهم الإسباني فدريكو جارسيا لوركا والأمريكي إزرا باوند والهندي طاغور والتركي ناظم حكمت والإيطالي أرتورو جيوفاني والبريطانيان تي إس إليوت وإديث سيتويل ومن شيلي بابلو نيرودا. وقد أصدر السيّاب مجموعة ترجماته لأول مرة عام 1955 في كتاب أسماه: (قصائد مختارة من الشعر العالمي الحديث). بدأ السياب رومانتيكيا متأثرا بما قرأه من الشعر الإنجليزي، ثم صار رومانتيكيا ثوريا بنكهة اشتراكية، لا يوقف قصائده على همومه الخاصة، بل يوقفها على اتساع ما يعانيه المجتمع من قهر وظلم وأزمات.. قبل أن يتحول في مرحلته الأخيرة إلى الواقعية الجديدة ورغم أن قصائد السياب تكشف بعض الآباء الجماليين الذين تأثر بهم، كالبحتري وعلي محمود طه وجون كيتس وويليام شكسبير وبودلير و إليوت ودانتي والرومانتيكيين الانجليز والفرنسيين وأبي تمام واديث سيتويل، فإن قصيدة السياب لا تنتمي إلا إليه رغم كل هذه الإشارات التي تذهب هنا وهناك ، وهذا سر من أسرار أصالة القصيدة التي تمد جذورها في كل أرض لتنمو وحدها في النهاية وأيا كان الرأي النقدي الذي يعطي للعراقية نازك الملائكة حق الريادة في القصيدة الحديثة عربيا، فإنه لا أحد ينكر حق السياب في تلك الريادة، بل إن الكثير من النقاد يذهب إلى أن السياب هو الرائد الحقيقي لذلك الشعر الحر الذي يتخلص من سطوة القافية أو عمود خيمة الشعر، متأثرا بنمط الشعر الحر الإنجليزي، وذلك لأن المستوى الذي قدمه السياب في قصيدته أعلى قيمة على المستوى الفني والدلالي والمعرفي مما قدمته الرائدة نازك الملائكة، وربما هذا هو السر في بقاء قصيدة السياب صالحة لإثارة الدهشة حتى الآن.. في سنة 1961 بدأت صحة السياب بالتدهور, حيث بدأ يشعر بثقل في حركتة وآلام في ظهره، ثم ظهرت حالة الضمور في جسده، وظل يتنقل بين بغداد وبيروت وباريس ولندن للعلاج دون فائدة. وأخيراً ذهب إلى الكويت لتلقي العلاج,و توفي هناك 24 ديسمبر عام 1964 عن 38 عاماً ونُقل جثمانه إلى البصرة, وعاد إلى قرية (جيكور) في يوم من أيام الشتاء الباردة تحت المطر.. وقد شيّعه عدد قليل من أهله وأبناء محلته، ودفن في مقبرة الحسن البصري في الزبير. نحن نحتفل بقصيدة السياب كبيرة القامة، رغم ضآلة حجم الشاعر، لأن ظلها ظل يروينا لنصف قرن بعراق رائع، علم البشرية الأبجدية وعلم العربية حداثة الشعر وتفرده، أما الذين ينكرون عراقيتهم في المنافي الباردة رغم أنهم طلعوا جميعا من تحت ظل السياب، فإنهم قصيدتهم ستموت غالبا بموتهم وربما قبلها.. التحية للسياب حيا وميتا وقصيدة.