لفت نظر كل المراقبين والمحللين أن أغلب الشباب لم يذهبوا إلى صناديق الاقتراع لأداء واجبهم في الاستفتاء على الدستور الجديد، ولأن الموضوع مهم جداً فقد قرّرت أن أقطع سلسلة مقالاتي التي تحمل عنوان "من يقف ضد التحول الديموقراطي؟ وكيف نواجهه؟"، على الرغم من أنها وثيقة الصلة بموضوعنا - كما سيتضح - وأود في البداية أن أتحفظ على القول إن الشباب قد أحجموا عن المشاركة لأنهم مستبعدون من تولي المناصب الحكومية ولم يتم تمكينهم من الحصول على مواقع داخل أجهزة الدولة، فالواقع أن هذا التفسير يرى أن الشباب قد اتخذوا من "عبده مشتاق" نموذجا وقدوة لهم، وأنا على يقين من أن هذا غير صحيح، وأن الشباب - مئات الألوف من الشباب الذين قدموا تضحيات كبيرة جنبا إلى جنب مع الشيوخ والكهول - كانوا يقدمون ذلك في إطار عملية ثورية ومن أجل العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وليس بحثا عن منصب أو "غنيمة"، وفي هذا الإطار - في هذا الإطار وحده - كان حديث كل القوى الديموقراطية عن تمكين الشباب، ولم يكن هذا الحديث من الشباب وحدهم، ولم يكن الهدف منه توزيع بعض المناصب على الشباب، وإنما كان الغرض منه تجديد دماء الحياة الساسية التي شاخت وترهّلت، وكان الغرض منه أن يساهم الشباب - وبالأصالة عن أنفسهم - في تنفيذ برامج وآمال وتطلعات الثورة التي كانوا طليعتها ووقودها وصانعيها، وفي هذا الإطار - مثلا - حرصت القوى الديمقراطية في دستور 2014 على خفض سن الترشح في البرلمان وفي المحليات، بل وحرصت أيضاً على أن يكون 25 ٪ من أعضاء المجالس المحلية المقبلة من الشباب، كما نص الدستور الجديد -وبوضوح - على ضرورة أن يتضمن قانون الانتخابات تمكين عدة فئات مستضعفة أو مهمشة، ومن بينها الشباب. ولعل ما أثار استياء الشباب فعلا هو هذا الإصرار من قوى الدولة القديمة على أن الثورة هي ثورة شباب نقي وطاهر وليست له علاقة بالسياسة والسياسيين، وأنه "لازم يأخد حقه بقى"، وكأن الشباب جاهل سياسيا وليست له مطالب سياسية، أو كأن السياسة حرام أو عيب إلا على الطغاة والمستبدين، ولعلنا جميعا قد لاحظنا أن الاستياء زاد عندما حاولت هذه القوى - قوى الدولة القديمة - شراء بعض الشباب الثوري وتحويلهم إلى أدوات لتجميلهم واستخدامهم، ولكن الواضح أن هذه المحاولات قد باءت بالفشل، وأن القلة القليلة من الشباب - التي استدرجت في هذا الاتجاه - تعض نواجز الندم بعد أن انعزلت عن أقرانها وقواعدها. والملاحظ أيضا أن أعداد الشباب التي تنخرط في العمل السياسي والأحزاب أيضا تتزايد، وذلك على الرغم من الإحباط والقرف الذي لا يطال الشباب وحدهم - كما يزعم البعض - ولكنه بكل أسف يطال كل المهتمين بالسياسة والشأن العام، ولاحظ عزيزي القارئ أن الكثيرين من هؤلاء الذين أصابهم القرف والإحباط لم يهتموا بالسياسة أصلا قبل الثورة، واهتمامهم بالسياسة إذن حديث وهشّ، والشباب منهم - وبشكل خاص أيضا الشباب الذين شاركوا في الثورة بحماس وشاهدوا أصدقاءهم يستشهدون بين أيديهم - أصابهم الإحباط والقرف بشكل أكثر حدة، ولا يعود السبب في ذلك إلى حداثة ارتباط هولاء الشباب بالسياسة وعدم تعمق هذا الارتباط من خلال الانتماء إلى حزب أو جماعة تحافظ على استمرار اهتمامهم ومشاركتهم في العمل السياسي فحسب، ولكنه يعود أيضا إلى أن سقف التوقعات والآمال - أثناء العملية الثورية نفسها - كان عاليا جدا، ومن ثم فإن محدودية النتائج التي تحققت وتواضعها، منسوبا إلى هذه الآمال ومنسوبا إلى التضحيات أيضا - وفي ظل محدودية الخبرات التي يمكن أن تجعل هذه الإنجازات المحدودة أمرا مفهوما ومقبولا - كل ذلك ساعد على أن يبتعد الشباب عن العملية السياسية قبيل الاستفتاء على الدستور الجديد، ولكن القشة التي قصمت ظهر البعير - كما يقولون - كانت في ظهور رموز الدولة القديمة مرة أخرى في تسويق الدستور الجديد، وبنفس الأساليب البالية القديمة التي وصلت إلى حد إلقاء القبض على بعض الشباب بتهمة الدعوة إلى التصويت ب "لا" على الدستور!. بالطبع لا نستطيع أن نتجاهل كيف ساهمت الحملة الإعلامية المنظمة ضد ثورة 25 يناير وشبابها في دعم مناخ الغحباط والعزوف عن المشاركة، تماما مثلما لا نستطيع أن نتجاهل كيف ساهم قانون التظاهر - الذي أصبح بعد إقرار الدستور الحالي غير دستوري - في تعميق مشاعر القرف والإحباط، ورغم إقراري وتضامني مع مشاعر القرف، ورغم تفهّمي لبواعث الإحباط ووزنها، إلا أنني - كنت وما زلت - أرى أن الضمان الوحيد لتحقيق مطالب الثورة - أو بالأحرى مطالب الشعب، ليس منذ 25 يناير فحسب ولكن منذ 18 و19 يناير 77، ومنذ حركة الطلبة في 68 و72.. إلخ - هو استمرار اهتمام ومشاركة الناس - كل الناس - وبالذات الشباب، ولكن لعل عزوف الشباب عن المشاركة هذه المرة قد نبّه كل من يعنيه أمر الوطن إلى خطورة الأمر وفداحة الخطب، ولعل من بين أهم الأمور الإيجابية أيضاً أن هناك - داخل مؤسسات الدولة - من انزعج وانتابه القلق من عزوف الشباب، لأنني على يقين من أن رموز الدولة القديمة وأقطابها من الغلاة المتشددين قد أثار ابتهاجهم وسرورهم البالغين عزوف الشباب، وأعلنوا فيما بينهم: "بركة يا جامع"، أو "في داهية"، أو "ربنا ما يرجعهم تاني للعملية السياسية"، وهؤلاء الذين انزعجوا واهتموا أعتقد أنهم يحبون الوطن، وليسوا أغبياء أو جهلة، ومن ثمّ أقول لهم: انتبهوا وأعيدوا قراءة هذا المقال مرارا وتكرارا، أعيدوا قراءة المشهد، واوقفوا الجهلة والأغبياء والفاسدين، فالأمر لا يحتمل مزيدا من الحماقات، ويكفي ما تم منذ 30/6 و حتى الآن من حملات ضد 25 يناير و ضد شبابها، لأن ذلك - فعلا وبصدق - يدفع في اتجاه غير مأمون العواقب.