«استعادة الريادة الثقافية لمصر فى العالم العربى»، كثيرًا ما نسمع هذه الجملة من المسئولين بمختلف القطاعات الثقافية، والتى يسبقها جملة «نعمل على» أو «بدأنا فى»؛ كل تلك التصريحات والحوارات غالبًا ما نسمعها ونأمل خيرًا من ورائها، إلا أن الوضع لم يحرك ساكنًا نحو تلك الريادة التى يتحدثون عنها. الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وفى البداية يجب طرح عدد من الأسئلة هل كانت حقًّا هناك ريادة ثقافية وسياسية لمصر، والإجابة بلا شك: نعم، فمصر كانت رائدة التنوير ليس فقط فى محيطها الجغرافى، بل والعالم أجمع، فكانت قبلة للجميع وملجأ أمينًا وصرحًا عظيمًا لكل الوافدين إليها، الرواد والمثقفين، فلم تقفل مصر أبوابها قط، وهنا يأتى التساؤل الأكبر: كيف وصلنا إلى هذا المنحدر الخطر؟ ولماذا هرب منها مثقفوها وروادها، واتجهت دفة السفينة إلى مدن أخرى، بعدما كانت هى قبلة العالم. وتقودنا هذه الأسئلة إلى سؤال مهم: هل المؤسسات الثقافية المصرية هى المنوطة بهذا الدور؟ باعتبار أن الثقافة هى القوة الناعمة لمصر، وعمَّا إذا كانت تلك الجهات تقوم بدورها التى أنشئت من أجل تحقيق هذه السياسات؛ أم أنها حادت عن الطريق وتخلت عن دورها الحقيقي؟ أو أنها وضعت فى براثن البيروقراطية التى حالت دون تحقيق ذلك؟ فقبل أن يكون للثقافة وزارة تقوم بوضع السياسات الثقافية، والعمل على تفعيلها وتحقيقها، والتى بدأت مع صدور قرار إنشاء المجلس الأعلى لرعاية الفنون، بقرار من الرئيس جمال عبد الناصر فى عام 1956، هذا الصرح العظيم، والأول من نوعه على المستوى العربى، وهو الأمر الذى دفع العديد من الأقطار العربية إلى أن تحذو حذو مصر وتقوم بتشكيل مجالس مشابهة، وتولى قيادته الأديب يوسف السباعى كهيئة مستقلة ملحقة بمجلس الوزراء، والتى تسعى إلى تنسيق الجهود الحكومية والأهلية فى شتى ميادين الفنون والآداب، وبعد عامين أصبح المجلس مختصًا كذلك برعاية العلوم الاجتماعية؛ وظل المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية يمارس دوره فى الحياة الثقافية والفكرية فى مصر، والذى تغير اسمه عام 1980، ليصبح «المجلس الأعلى للثقافة». وعلى الرغم من الظروف والتحديات التى كانت تواجه مصر فى تلك الفترة فإنها استكملت البناء الثقافى والريادى بإنشاء وزارة الثقافة عام 1958 والذى تولى قيادتها الدكتور والمفكر ثروت عكاشة تحت مسمى وزارة الثقافة والإرشاد القومى، لتصبح الوزارة مستقلة بعدما كانت مشتتة بين عدة وزارات وعلى رأسها وزارة المعارف «التعليم»، وأصبحت الوزارة المسئولة عن وضع الخطط والرؤى الخاصة، بالثقافة المصرية، والحفاظ على التراث ورعاية مكتسباته الإبداعية، والعمل على تطوير والنهوض بالفكر والأدب والفن المصرى. دور الثقافة فى عملية البناء والإصلاح فى إطار المتغيرات والمستجدات التى شهدتها مصر منذ ثورة 1952، ومرورًا بالهزيمة ثم العبور العظيم فى حرب أكتوبر وحتى ثورتى يناير، و30 يونيو، بات من الضرورى والمُلح إقامة مشروع ثقافى يُعيد رسم ملامح الشخصية المصرية، والتى تأثرت بشكل كبير خلال الفترات الانتقالية السابقة، ليتزامن مع عمليات الإصلاح والبناء الداخلى والتى يقوم بها حاليًا الرئيس عبدالفتاح السيسى، والتى اتخذت «بناء الإنسان» شعارًا لها، ووجود خلل وتراجع فى المكون الثقافى باعتباره أحد أهم ركائز بناء الإنسان. فلكى نصل إلى مرحلة الإصلاح الثقافى فى مصر، وإعادة بناء الإنسان المصرى، يجب أولًا أن نقوم بتشخيص الوضع الراهن للثقافة المصرية وما آلت إليه الأوضاع الحالية والأثر السلبى التى خلفته نتيجة لغيابها عن المجتمع، باعتبارها أحد أهم مكونات التنمية الشاملة والمستدامة، إذ لا يمكن تحقيق تنمية بدون الارتكاز على الأبعاد الثقافية من قيم ومعارف ومعتقدات وفنون، لا سيما بعدم نجاح ثورة 23 يوليو فى القضاء على الجماعة الإرهابية، والتى عملت بكل جهد على مدار السنوات السابقة لنشر الأفكار المتطرفة والهدامة، وعدم وجود منافذ حقيقية تواجه تلك الأفكار المتطرفة والتى ملأت عقول العديد من الشباب لا سيما فى القرى والمناطق الحدودية والبعيدة عن مركزية العاصمة. المجلس الأعلى والتنمية الثقافية ولتحقيق التنمية الثقافية، يجب توافر عدة عوامل أهمها وضوح الرؤية ووضع إستراتيجية محددة وخطط وبرامج عملية تستهدف التنمية الثقافية، والاعتماد على الحوار كأحد أهم ركائز الثقافة «ديمقراطية الثقافة»، وهو الهدف الذى أنشأ على أساسه المجلس الأعلى للثقافة وقصور الثقافة، والبعد عن مركزية الثقافة واقتصارها على العاصمة والذهاب إلى المحافظات والقرى لاسيما الحدودية منها وقرى الصعيد، فنجاح التنمية الثقافية لا تتحقق إلا بتوافر عدة مقومات أهمها البعد عن المركزية، وديمقراطية الثقافة، والعمل على حماية التراث الثقافى بأنواعه المختلفة المادية والفكرية، بالإضافة إلى حماية حقوق الملكية الفكرية للمبدعين، وتوفير الخدمات الثقافية للمواطنين، بالإضافة إلى وضع الرؤية التى ستتصدر محور الثقافة والتى تقع ضمن خطة التنمية المستدامة 2030، من خلال بناء منظومة القيم الثقافية التى تقوم على احترام التنوع والاختلاف وعدم التمييز. ولأن المجلس الأعلى للثقافة هو الجهة الوحيدة التى تقوم على وضع السياسات الثقافية والعقل المخطط للسياسة الثقافية فى مصر، وذلك من خلال لجانه التى تبلغ ثمانية وعشرين لجنة، والتى تضم نخبة من المثقفين والمبدعين المصريين من مختلف الأجيال والاتجاهات، إلا أن عدم وضوح الرؤية فى إدارة طريقه المجلس الأعلى للثقافة وبالتالى عدم وضوحها فى باقى مؤسسات الدولة الثقافية، جعله عاجزًا عن القيام بالدور المنوط به، وفقًا لاحتياجات المجتمع الثقافية، لا سيما وأن عددًا لا بأس به من أعضاء الشُعب واللجان يأتون لمناصبهم وفقًا للمواءمات السياسية أو لصلتهم بأصحاب صناع القرار، أو يأتون لتلك المناصب لتحجيم دورهم وانحصاره، ليس هذا فقط بل كانت للمنح التى يقدمها المجلس الأعلى العديد والعديد من علامات الاستفهام والأسس والمعايير التى يتم اختيار المثقفين، الذين يأخذون منح التفرغ، وطبيعة الأعمال التى يقدمونها، ولا يمكن أن ننكر دور هذه المنح فى خروج العديد من الإبداعات والروائع الأدبية، مثل الكاتب الكبير صبرى موسى ورائعته «فساد الأمكنة» وريادته فى أدب الرحلات، وغيره الكثير من الأدباء والمثقفين والمبدعين فى شتى المجالات الفنية والتشكيلية. فمثله مثل باقى الأمكنة التى طالتها الفساد والمحسوبية، حيث نجد أنفسنا أمام أسماء فى عضويات اللجان لا ناقة لها ولا جمل وليس لها أى علاقة بالثقافة ولا رؤيتها، بالإضافة إلى آليات تشكيل النخبة المثقفة، وهيمنتها دون غيرها، لتعيد إنتاج المجتمع وفقًّا لمصالحها المحققة دون غيرها، هذا التخريب المتعمد من الداخل، بالإضافة إلى ظهور وانتشار مراكز ثقافية أخرى ذات الرأسمالية غير المحدودة، فلم تعد القاهرة قبلة المثقفين والمفكرين العرب، فقد كان المجلس الأعلى للثقافة مركزًا للإشعاع الثقافى والفكرى على المستوى المصرى والعربى، وقلعة من قلاع التنوير والاستنارة، وذلك من خلال المؤتمرات والندوات التى نظمها، وشارك فيها لفيف من المفكرين والمثقفين العرب، والتى أصبحت مناسبة للتفاعل الثقافى على المستوى العربى فضلًا عن مشاركة بعض أبرز الباحثين من المؤسسات الأكاديمية فى العالم. ولعل الخطة الثقافية التى أعلنها المجلس مؤخرًا والتى كان على رأسها إقامة أربعة مؤتمرات دولية يشرف عليها لجنة علمية متخصصة لصياغة محاورها ودراسة الأوراق المقدمة لها والإشراف على إقامتها ومنها المؤتمر الدولى «التنمية الثقافية المستدامة وبناء الإنسان» والذى سيقام فى الفترة 15 و16 يناير المقبل، والملتقى الدولى السابع للإبداع الروائى العربى، وعدد من المؤتمرات العلمية، وهنا يطرح السؤال ذاته حول الأسس والمعايير التى يتم بها اختيار اللجان العلمية المشرفة على تلك المؤتمرات، والتى تعمل على وضع الخطط البحثية، وما الضرورة من والعائد الثقافى لتلك المؤتمرات، وما الجدوى من إقامة المؤتمر؟ وأين تذهب توصيات تلك المؤتمرات، وحقيقة وجودها على أرض الواقع من حيث التطبيق؟ فهناك مئات المؤتمرات التى أقيمت وناقشت مثل هذه الموضوعات، ولم نجد أى تحركات عملية من أجل تطبيق هذه التوصيات، فهل يجتمع العلماء والأدباء لتوضع توصياتهم فى أدراج المكاتب؟ أو تصطدم طموحات وأحلام الفنانين والمثقفين والأكاديميين بالبيروقراطية التى تحول دون وصول تلك التوصيات إلى مستحقيها. وبعض النظر عن جدوى المؤتمرات، ومن الذى يحضرها ومن المستفيد الحقيقى منها، هل هم الأكاديميون أم الطلبة أم المثقفون أم المصريون أنفسهم، التى تدور حولهم كل تلك المناقشات، والتى تقام بشعار لم يحضر أحد، فكم من المؤتمرات والندوات والصالونات الثقافية التى يرفع فيها شعار «لم يحضر أحد»، لمن يقول العلماء والمثقفين كلمتهم، ولماذا لا تتم دعوة طلبة الجامعات والشباب من المحافظات المختلفة لا سيما القرى والنجوع والمناطق الحدودية، ولماذا لا تذهب تلك المؤتمرات إلى هناك، وحتى لو أقيمت فى إحدى المحافظات بعيدًا عن مركزية العاصمة، نجدها ترفع الشعار ذاته «لم يحضر أحد»، والحقيقة أن هذا لا ينطبق فقط على المؤتمرات فتجد أن بعض العروض المسرحية ترفع نفس اللافتة، فتجد المحاورين يتحدثون إلى أنفسهم، ولا يوجد تفاعل أو حراك حقيقى، نستطيع أن نخرج به من تلك الأزمة، ولهذا نرجع إلى أهم إشكاليات الثقافة المصرية وهى إقامة حوار حقيقي يكون قوامه الحرية وعدم التمييز. الدكتور عبد المنعم تليمة نجاح الجماعات الإرهابية وفشل المؤسسات الثقافية يقول الدكتور عبد المنعم تليمة، أستاذ الأدب العربى بجامعة القاهرة-رحمه الله- فى أحد التحقيقات الصحفية: «إنه أصبح معلومًا لأى راصد فى الثقافة العربية الراهنة أن العقود الأخيرة، شهدت تراجعًا خطيرًا للوجود المصرى فى المجتمعات العربية، بينما الأجيال الثلاثة فى النهضة المصرية الحديثة وهى جيل رفاعة الطهطاوى وجيل أحمد لطفى السيد وجيل طه حسين، قد ربونا على أيديهم وكتبهم على أن العروبة ثقافة، ومن هنا لم يكن هؤلاء الرواد يتشددون فى فكرة العروبة بالمعنى القومى الفنى السياسى المعروف»، مضيفًا: «أما ما بعد جيلى أنا فإن السياسات الحكومية المصرية وما أثمرته من مجالس ومؤسسات ثقافية قد عزلت مصر عن هذا الأفق العظيم الذى نعمل على إحيائه»، مؤكدًا أن مصر كانت وما زالت الحاضنة الأولى للثقافة والمثقفين والمبدعين العرب منذ عهد محمد على وحتى يومنا هذا فيما عدا العقود الأربعة الأخيرة». فتأكيد الدكتور عبدالمنعم تليمة عن الوضع ساء بمجرد ظهور المؤسسات الثقافية، والتى أحاطتها البيروقراطية والنظم والبُعد والانعزال عن حركة الشارع بينما تركت الشباب فريسة سهلة وقعت فى براثن الأفكار المتطرفة التى لعبت على عواطفهم واحتياجهم وافتقارهم للعلم، فعلى الرغم من وجود منافذ بالمحافظات كانتشار قصور وبيوت الثقافة فإن هذه الأماكن تعمل وفقًا لنظرية أحادية تأتى من صانع القرار، بالإضافة إلى وجود التمييز الثقافى فى المجتمع المصرى، وأن المؤسسات الثقافية تواجه تحديات كبيرة تحول دون قدرتها على تعزيز قيم العدل فى المجتمع، كونها تفتقد إلى مقومات العدل وتلبية الحقوق الثقافية. والسياسة الثقافية الناجحة هى التى تستطيع أن تتأسس على أهم القضايا والإشكاليات الملحة التى يفرضها الواقع ويراها الفاعلون والخبراء ذات أولوية، وهذا لم يحدث، لذلك لجأ الشباب لأقرب منفذ غازل آمالهم وطموحاتهم وطرح مشاكلهم، لا سيما وأن ظهور التطور التكنولوجى الرهيب وانتشار وسائل التواصل الاجتماعى، والتى أصبحت نافذة لطرح الآراء والأفكار، ما جعلهم فريسة سهلة للأفكار الإرهابية والهدامة، وبعيدة كل البُعد عن المؤسسات الثقافية الرسمية، وعدم وجود تغيير ثقافى يقوم على أسس الثقافة الحاضنة للمواطنة، وهو الشيء الذى يتطلب تغييرًا بنائيًا فى الأهداف والرؤى لتلك المؤسسات، والتى على رأسها المجلس الأعلى للثقافة، والذى أنشئ على أساس تنسيق الجهود الحكومية والأهلية فى ميادين الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية. وضع كارثى فالوضع الكارثى الذى تشهده الثقافة المصرية والذى خلفته السياسات الثقافية المتعاقبة والتى تأتى فى ظل وجود السياسات الثقافية المركزية والتى أدت إلى تعميق الهوة بين النخبة الثقافية المنتجة للثقافة من أدب وفنون وعلوم إنسانية واجتماعية وبين الجماهير التى تركت فى براثن الرجعية فى القرى والنجوع، وعما إذا كان هناك تطبيق حقيقى لاستراتيجيات المجلس الأعلى للثقافة وأهدافه أم لا؟ إلا أننا نجد أنفسنا أمام إشكالية كبرى، ومن أهمها البُعد عن أحادية الفكر ومركزية القاهرة، والنموذج الثقافى الفرنسى الذى أخذته مصر حين قامت بإنشاء قصور الثقافة فى المحافظات، والمجلس الأعلى خلال عهد عبد الناصر، وعدم تطبيق هذا النموذج والذى يقوم على أساس ديمقراطية العمل الثقافى، ومن ثم نجد أن الأصوات المسموعة هى أصوات العاصمة فقط دون غيرها، وهناك عوار آخر لم يتم تطبيقه حتى الآن وهو المتعلق بقرار إنشاء المجلس الأعلى للثقافة، حيث ينص فى أحد مواده على أن تنشأ مجالس فى المحافظات يرأسها المحافظ ويتم فيها تشكيل لجان على أن تهتم بطرح القضايا والحفاظ على الخصوصية الثقافية لكل محافظة، إلا أن هذا لم يتم تحقيقه للحفاظ على مركزية العمل الثقافى وانحصاره فى القاهرة. وعلى الرغم من كل ذلك فإن الغالبية العظمى من المثقفين والأدباء لا يرون أى تحسن فى وضع المجلس وتفعيل دوره الريادى، وذلك لعدد كبير من العوامل والتى تحدثنا عنها سابقاً، ليصبح المجلس بمقره الجديد مجرد قاعة للندوات وإقامة الاحتفالات دون وجود أى شيء ملموس سواء بالعمل فى اللجان والشعب المختلفة للمجلس والتى تضم ثلاث شعب، وهى شعبة الفنون، وتضم 6 لجان فرعية، وشعبة الآداب، وتضم 5 لجان فرعية، وأخيرًا شعبة العلوم الاجتماعية، وتضم 17 لجنة فرعية، ومنها لجنة العلوم السياسية، ولجنة الكتاب والنشر ولجنة الثقافة العلمية ولجنة الآثار.