يُحيي المسلمون اليوم الذكرى العطرة لمولد سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، حيث تعم الاحتفالات المبهرة أرجاء البلدان بهذه المناسبة التي يستقبلها المسلمون ببهجة لا توصف يتدارسون خلالها سيرة سيد الخلق ويقتدون بأخلاقه ويتأسون بهديه. ويتدارس المسلمون في ذكرى المولد النبوي الشريف العبر والعظات الإنسانية التي تركها الرسول هدى ونبراساً للاقتداء بها على مر الزمان ، حيث بُعث سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين ، فقد قال المولى عز وجل في كتابه الكريم {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (الانبياء :107). وحث فى رسالته السامية علي حسن التعامل والتعايش والتفاهم والتعاون بين الأمم والخلق استنادا الى آيات القرآن: { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (الممتحنة :8 ) ، وفسر علماء الإسلام البِرّ هنا بالرفق بضعيفهم ، وإطعام جائعهم، وكساء عاريهم، ولين القول لهم - على سبيل التلطف والرحمة - لا الخوف والذلة ، واحتمال أذيتهم في الجوار - مع القدرة على إزالته- لطفًا بهم لا خوفًا ولا طمعًا، والدعاء لهم بالهداية، ، ونصيحتهم في جميع أمورهم، في دينهم ودنياهم، وحفظ غيبتهم . ومن أشهر مواقف السماحة والعفو في حياة الرسول الزاخرة بقصص انسانية خالدة ، حينما همَّ أعرابي بقتله أثناء نومه تحت ظل شجرة ، معلَّقا عليها سيفه ، فعن جابر رضي الله عنه ، قال: " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحدى غزواته المعروفة " بذات الرقاع "، ونزل الرسول تحت شجرة ..فعلَّق بها سيفه، فجاء رجل من المشركين، وأخذ سيفه من فوق الشجرة.. وقال الأعرابي: تخافني؟... فرد الرسول : لا، فقال الأعرابي : فمَن يمنعك مني؟ ..فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله ، فسقط السيف ، فأخذ رسول الله السيف وقال: مَن يمنعك مني؟ ..فقال الأعرابي : كن خير آخذ.. فقال صلى الله عليه وسلم السيف : تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟.. قال المشرك : لا، ولكني أُعاهدك ألا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك.. فعفا عنه رسول الله ..فأتى أصحابه.. فقال: جئتكم من عند خير الناس" [صححه ابن حبان]. ولعل ما يؤكد أن خاتم المرسلين ضمن لغير المسلمين في المجتمع الإسلامي أمنهم على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، فلا يُتعرض لها أحد بسوء لا من المسلمين ولا غيرهم، أنه سمح لنصارى نجران أن يؤدوا صلواتهم داخل المسجد النبوي، فحسب ماجاء بكتاب "عيون الأثر في المغازي والسير" من تأليف: ابن سيد الناس، أن وفد نجران - النصارى- دخلوا المسجد النبوى بعد العصر، ، فقاموا يصلون في مسجده ، وعندما أراد الناس منعهم ، قال محمد صلى الله عليه وسلم : «دعوهم»، فاستقبلوا المشرق وصلوا صلاتهم. وتشهد سيرته صلى الله عليه وسلم على تمتع الأقلية غير المسلمة بالحرية الدينية ، فلم يقبلِ يومًا أن يفرض عليهم عقيدة الإسلام ، امتثالاً لأمر الله تعالى : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ }(يونس:99) . المصريون ومولد النبي ولعل من أبرز مظاهر احتفالات المولد النبوي في المدن هو ازدحام الشوارع والميادين بباعة "حلوى المولد"وعروس المولد التي تصنع من قوالب الحلوى في صورة عروسة وحصان ويرجع بعض المؤرخين تاريخ ظهور عروس المولد في مصر إلي العصر الفاطمي أما البعض فيؤكد أنها عادة مصرية خالصة رابطين بينها وبين معرفة المصريين بعروس النيل منذ العصور الفرعونية بجانب إقامة الندوات الدينية في المساجد وإقامة أمسية دينية كبرى يحضرها المحافظون ورؤساء المدن وتتخذ طابعا رسميا في تنظيمها . أما القرى التى تنتشر فيها الطرق الصوفية وأضرحة الأولياء والعارفين فتخرج "دورة المولد " في صبيحة يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول في صورة كرنفالات شعبية ينظمها رجال الطرق الصوفية ويتقدمها الخيالة وراكبو الإبل المزدانة بقطع القماش المزركشة يليها أتباع الطرق الصوفية حاملين الدفوف والسيوف يتبعهم أصحاب الحرف المختلفة فيطوفون أرجاء القرى ويصلون إلى المدن أحيانا ويبدأون من أمام أضرحة العارفين وينتهون عندها في حركة دائرية حول القرية . وفى الطريق تلقى عليهم النساء من شبابيك وشرفات المنازل الحلوى " وترش " عليهم الروائح العطرية وتصدح بالزغاريد والدعاء بان تعود تلك المناسبة والجميع في خير وسلام . وكعادة المصريين في الاحتفالات بالمناسبات المختلفة للخروج من عوالم حياتهم الضيقة إلي عوالم أكثر بهجة ورحابة فتقام ولائم الطعام في الدواوين وينشد الفنانون الشعبيون الأشعار والابتهالات وتقام حلقات الذكر . وفى مناسبة المولد الشريف لابد من قيام كل آسرة بار سال حلوى المولد والعشاء أي اللحوم والخضراوات لكل بناتها المتزوجات وتتلق كل فتاة مخطوبة حلوى المولد والعشاء من خطيبها أيضا .يذكر أن قرى مصر وخاصة في الصعيد تتميز الحياة الدينية فيها بانتشار الطرق الصوفية فيها بصورة واسعة فلا تخلو قرية مصرية من وجود طريقة صوفية بها منذ مئات السنين . "زحام" الموالد ويقال أن عدد الطرق الصوفية بلغ في مصر العثمانية 80 فرقة لكل منها فروع في القرى والمدن وكان لكل طريقة ومازال شعارها وأورادها الخاصة بها ، ويحرص أتباع كل طريقة على ترديد الأوراد الخاصة بهم ويتلونها بشكل جماعي في وقت يحدده شيخ الطريقة وقد ساعد ارتباط تلك الطرق بأسماء بعض المشايخ والأولياء في انتشارها في الريف انتشاراً واسعاً مثل الطريقة الشاذلية نسبة للشيخ أبو الحسن الشاذلي والطريقة الأحمدية نسبة للسيد احمد البدوي والطريقة الرفاعية نسبة ألي احمد الرفاعى . ولا يقتصر احتفال الطرق الصوفية على المولد النبوي الشريف بل تحتفل بمولد الأولياء الصالحين في المحافظات والمدن والقرى ومن الموالد التي تشهد جمهورا كبيرا من الزوار والمريدين مولد سيدي عبد الرحيم القنائى في قنا ومولد سيدي أبو الحجاج الأقصري في الأقصر ومولد سيدى إبراهيم السوقي في دسوق ومولد سيدى جلال الدين في منفلوط وغيرها من الموالد التي لا حصر لها كما يقول الدكتور نبيل السيد الحوفى أستاذ التاريخ الحديث في جامعة المنيا بصعيد مصر والتي تقام في القرى والمدن التي تنتشر فبها الأضرحة الخاصة بالمشايخ والأولياء والعارفين الذين يعتقد الناس في كراماتهم وبركاتهم فيزورون أضرحتهم للدعاء أملا في أن يتقبل الله الدعاء ببركة هؤلاء المشايخ والأولياء.