كان الشيخ إمام عيسى محظوظا بأساتذته فى الموسيقى، تعلم على أياديهم ما تعجز الأكاديميات عن تقديمه لطلابها، كان الزمن كبيرا، والأحلام أيضا، وكانت ثورة 19 غيرت فى كل مناحى الحياة، وكانت مصر «مصرية خالصة»، فن تلاوة القرآن كان فى السماء، وكل مدارس التلحين متجاورة ومتناغمة، الصُناع العظام كانوا يحبون الناس ويرتلون القرآن لهم، أو يلحنون ويغنون لهدف أسمى، حكى لى مولانا أن الشيخ محمد رفعت رحمة الله عليه، كان يأخذ ابنه ويبحث عن ميت عند «ناس فقراء» ويقرأ فيه.. ويدفع اللى فيه النصيب، وكان الوحيد من بين المقرئين الذى يحرص المسيحيون على سماعه، أرادت الإذاعة عندما كان مستشارها سعيد لطفى أن تسجل له المصحف كاملا حتى يتم الاستغناء عنه، فقال لهم لا مانع عندى بشرط أن أذيع، وتظل هذه التسجيلات بعد موتى، فرفضوا وفصلوه، لكن التليغرافات التى جاءت للإذاعة من كل مكان أرغمتهم على إعادته. ويرى الشيخ إمام أن صوته مثل صوت أم كلثوم يشبه العسل النحل أول قطفة، صوتان جاد بهما الزمان فى «قصعة» الحلاوة، صوتان مكتملان من القرار إلى الجواب (يعنى ثلاثة أوكتافات) ويضيف، «هناك صوتان لا يملكان حلاوة الصوت ولكنهما من الناحية الفنية أساتذة وعمالقة، هما الشيخ على محمود والست فتحية أحمد، رفعت وأم كلثوم صوتان لا مثيل لهما ولكن فنهما «على قدهم».. إنما على محمود نهر متدفق للفن بدون حلاوة صوت، ولكنه يشعرك بفنه أنك فى الجنة كذلك فتحية.. التى علمت أم كلثوم».. (الست فتحية أبوها كان الشيخ أحمد الحمزاوى وأمها كانت بمبة كشر، أبوها كان من حفظة القرآن، ولكنه كان يذهب إلى الأفراح ليقول منولوجات فى فترات راحة المطرب.. وكان يحمل ساعة اسمها «ليديا» فى حجم الرغيف.. ولم يكن يجيب على من يسأله عن الساعة إلا إذا قال له يامستر أحمد!). والست فتحية تعلمت على يد الشيخ درويش الحريرى، أم كلثوم من وجهة نظر مولانا «لم تصل إلا بحلاوة صوتها.. أما علمها بالنغمات فكان غير دقيق»، أما فتحية فكانت أستاذة لأنها شربت فنها من كامل الخلعى ومن سيد درويش ومن درويش الحريرى.. «اتعجنت» وسطهم، ثانيا كانت من أسرة فنانين، أبوها يلم بالوسط، ثم أخواتها الثلاث مطربات، مفيدة، رتيبة، نعيمة (نعيمة المصرية)، وكانت بنت بلد (من باب الشعرية)، حكايات الشيخ إمام عن هذا الزمن يحوطها سحر غريب، انشغل الصحفيون والسياسيون به كسياسى ولم ينهلوا من خبراته وحكاياته وخبراته المتعددة. حكى حكاية قالها له الشيخ درويش الحريرى عن سيدة تسكن بجوار السيدة زينب، وكان لها ولد وحيد، تعبت فى تربيته، ووجدت له أخيرا بنت الحلال التى سيتزوجها، ودارت تدعو فلانة وفلانة.. قالت إحداهن لها: «أنت يختى فرحانة كده ليه.. تكونيش داعية عبده الحامولى».. فى الوقت الذى كان يمر فيه عبده الحامولى مصادفة فسمع ما قيل، ومشى خلفها حتى عرف بيتها.. ثم أرسل الفراشة لإقامة الصوان والطباخ والجزار إلى هذا البيت.. وأم العريس فى دهشة.. ثم دار عبده الحامولى على معارفه من كبار رجال الدولة ومن الأعيان، وقال لهم: «اللى عايز يسمع عبده الحامولى يأتى فى المكان الفلانى»، وذهب عبده ومعه تخته والمعازيم من أصحاب العزة والسعادة والمعالى وشرع فى الغناء، ثم أخرج منديله المحلاوى، وقال: «اللى يحب عبده «ينقط» عبده.. وسقطت الجنيهات الذهبية «ترف» حتى امتلأ المنديل عن آخره.. وبعد انتهاء الليلة «طبق» المنديل وذهب الى أم العريس وقال لها «دى نقطة حبايب العريس.. وأنا لا أمتلك شيئا غير هذا الخاتم وخلعه وأعطاه إياه..!» كان هذا شأن الفنانين والفقهاء، وكان الفنانون يذهبون لسماع المقرئين وكذلك العكس.. كان هناك ارتباط وثيق لأنهما أبناء «كار» واحد هو «كار» الصوت.. وللحديث إذا أراد الله بقية.