إذا كانت نهاية عام وبداية عام جديد مناسبة لاستعادة الكثير من الذكريات والتجول في أروقة الذاكرة فان قوة الذكريات تشكل زادا ثقافيا ومددا ابداعيا يتبدى في جديد الابداعات والكتابات سواء في مصر او على مستوى العالم بثقافاته المتعددة وبتناول بديع للزمان والمكان. و"الذاكرة" بتنويعاتها المتعددة تفسر ذلك النجاح اللافت الذي حققه أحمد مكي في أغنيته الأخيرة في نهاية هذا العام "وقفة ناصية زمان" حيث تنبض كلمات الأغنية بشجن ودفء الذاكرة والذكريات لتحقق نسب مشاهدة عالية على موقع "اليوتيوب". فهذه الأغنية التي جاءت في القالب المسمى "بالفيديو كليب" تستعيد العادات والتقاليد المصرية الأصيلة ومشاهد مما يسميه البعض "بالزمن الجميل" و"شهامة أولاد الحارة المصرية" ليكون هذا العمل الفني الناجح في نهاية عام 2017 دالا بقوة على "قوة الذكريات كزاد ثقافي ومدد ابداعي". و"الذاكرة" واضحة بجلاء في قرار وزير الثقافة حلمي النمنم في نهاية هذا العام بإعادة طباعة كتاب "الكابتن غزالي..اغنية المقاومة وذاكرة الوطن" وهو كتاب بقلم محمد حسن لتخليد "الكابتن غزالي" احد رموز المقاومة الشعبية بأبعادها الثقافية والفنية في مدينة السويس الباسلة. وكان محمد غزالي الشهير "بالكابتن غزالي" والملقب "بشاعر المقاومة الشعبية قضى في الثاني من ابريل هذا العام عن عمر يناهز ال88 عاما فيما دخلت أغاني "فرقة أولاد الأرض" التي كان بمثابة الأب الروحي لها ضمن الذاكرة الثقافية للمقاومة والصمود حتى تحقق النصر العزيز لمصر في حرب السادس من أكتوبر عام 1973. ومابين عام يرحل وعام يجيء يحرص كتاب وادباء على طرح تآملات في الواقع والأحلام عبر الصحف ووسائط الاعلام المختلفة، فيما بدا أن هناك اجماعا على أهمية إنجازات حضارية وتاريخية كبيرة في تحققت هذا العام مثل "الأنفاق بين الدلتا وسيناء وشبكات الطرق ومشاريع الإسكان والمدن الجديدة والثروة السمكية ومحطات الكهرباء العملاقة". كما يجمع المثقفون المصريون على أهمية مواصلة الحرب على الإرهاب مهما كانت التضحيات لالحاق هزيمة نهائية بهذا الخطر الذي يهدد المصريين ومنظومة قيمهم الثقافية والحضارية فيما "يبقى شهداء مصر الأبرار دائما في قلوبنا" كما قال الكاتب والشاعر فاروق جويدة. واذا كانت الذكريات زاد لاينفد لكثير من الكتب فلعل المذكرات وكتب السير الذاتية هي التجلي المباشر لبنية الذاكرة فهنا يكون معامل الصدق مع الذات والآخر اهم عوامل جدارة هذا النوع من الكتابة بالقراءة. وفيما شهدت مصر هذا العام إصدارات لافتة في ادب السيرة الذاتية التي تثري التاريخ و"أرشيف الذاكرة الثقافية العامة للوطن" وتثير جدلا فكريا كما هو الحال في الجزء الأول من مذكرات الدبلوماسي والسياسي عمرو موسى بعنوان "كتابيه" وكذلك الجزء الأول من السيرة الذاتية للكاتب محمد سلماوي بعنوان "يوما او بعض يوم"، فان منابر ثقافية عديدة حول العالم اهتمت بنبأ سار على صعيد "الذاكرة والذكريات الثقافية" في الشهر الأخير من هذا العام وهو عرض الأرشيف المصور للكاتب الروائي النوبلي الكولومبي جابرييل ماركيز الذي قضى في السابع عشر من ابريل عام 2014. فقد أعلنت "جامعة تكساس البحثية" الأمريكية في اوستن مؤخرا عن "اتاحة أرشيف ماركيز رقميا للجمهور على شبكة الانترنت" وهو أرشيف يحيي أكثر من 27 الف صورة ووثيقة لصاحب "مائة عام من العزلة" و"الحب في زمن الكوليرا" فضلا عن مجموعة كبيرة من رسائله ومخطوطات كتبه. ولئن كان تتويج كازو ايشيجورو بجائزة نوبل في الآداب في هذا العام يعد من اهم الأحداث الثقافية العالمية فان عالم هذا الروائي الياباني المولد والبريطاني الجنسية الذي تجاوز ال 62 عاما جدير بجولة في ابداعاته التي تموج بين حنايا الذاكرة والذكريات وسلطان الزمن وخبايا المعنى. والقراءة المتعمقة لابداعات ايشيجورو تكشف عن عناوين رئيسة تتصدر اهتماماته كمبدع وهي:"الذاكرة والزمن والفقد والحرب والحب وتهاويم الذات" فهو الكاتب المهموم والمهجوس بمثالب الذاكرة وحقيقة الموت والطبيعة المسامية للزمن مع حس اصيل واحساس حاد بمعطيات المكان وهو ايضا "المبدع الخارج بحذق على الأنواع الأدبية التقليدية". وروايته الأشهر "بقايا اليوم" التي وصفتها الأكاديمية السويدية عند منحه جائزة نوبل بأنها "رائعة أدبية" تستمد مددها الإبداعي من الذكريات حيث تدور احداثها في السنوات التي افضت للحرب العالمية الثانية وذلك الساقي الذي يخدم احد اللوردات الانجليز بينما تتناول روايته الشهيرة الأخرى:"لاتدعني ارحل أبدا" صورا غريبة للحب في مدرسة داخلية انجليزية فيما كان ايشيجورو قد اعتبر دراسته الثانوية بأنها كانت "الفرصة الأخيرة لمعاينة ماتبقى من صور قديمة وغابرة للمجتمع الانجليزي في تحولاته". وإذ يتكيء أيضا على الذاكرة التاريخية في روايته "المارد المدفون" التي تعود لتاريخ إنجلترا في بداية العصر الوسيط، فلاريب ان ابداعات ايشيجورو تعبر في كثير منها عن ارتباط عاطفي ووجداني باليابان حيث الجذور ومسقط الرأس ووطن الآباء والأجداد وهي حقيقة عبر عنها الفائز بجائزة نوبل للآداب بقوله:" رغم نشأتي في بريطانيا فان جزءا كبيرا من نظرتي للعالم واسلوبي الفني ياباني لأنني تربيت في كنف ابوين يابانيين ويتحدثان اليابانية". وفي اولى رواياته: "منظر شاحب من التلال" التي نشرت عام 1982 و"فنان من العالم الطافي" التي صدرت عام 1986 يمكن للقاريء ان يلمس بوضوح تأثير جذوره اليابانية ومسقط رأسه في مدينة ناجازاكي التي تعرضت للقصف بالقنابل الذرية الأمريكية مع مدينة هيروشيما في اواخر الحرب العالمية الثانية. وفيما يحمل" رقم 29 " بين الأدباء النوبليين الذين يكتبون بالانجليزية، قال ايشيجورو انه مشدود للبيئة التي شكلت من حيث الزمان والمكان محيط الحرب العالمية الثانية ومهتم باختبار القيم على محك الواقع ومن ثم فهو "حريص للغاية على فهم الماضي لكنه لايسعى "لاسترداد الماضي وانما يستكشف مايمكن تناسيه من هذا الماضي حتى يتسنى للفرد والمجتمع معا الاستمرار والبقاء على قيد الحياة". والطريف أن الشاعر والكاتب الفرنسي برنار نويل عندما حاول في كتابه "النسيان" التأكيد على أهمية النسيان وتحرر الكاتب من سطوة الذاكرة وهيمنتها حتى يقدم الجديد والمغاير عاد ليثبت اهمية الذاكرة عندما قال في هذا الكتاب "لاشيء يضيع مع النسيان فما ننساه يظل موجودا في مكان ما ثم يعود الى الظهور في الكتابة لاكما كان ولا الى ماكان بل كما ينبغي ان يكون"!. وهذا الكتاب يتضمن اشارات دالة لقضية الذاكرة والنسيان والحقيقة ان العلاقة بينهما جدلية وحافلة بالغرائب والمدهشات واذا كان هناك من يتحدث عن "أهمية التحرر من استبداد الذاكرة لانتاج معنى جديد" فمن الذي بمقدوره انتاج معنى جديد بلا ذاكرة؟!..لعل الصحيح هو استخدام الذاكرة ابداعيا لتجنب التكرار وتجاوز ماكتبه الآخرون تماما كما انه من الصحيح ان لاكتابة عظيمة دون قراءة اعظم. وإذ تتهاوى الذكريات المبهجة أحيانا امام قسوة متغيرات الواقع فهاهو القاص الياباني الشهير هاروكي موراكامي يعود للذاكرة ويتوقف عند منتصف ستينيات القرن العشرين ويكتب قصته "قيادة سيارتي" بعد عمل اخر من تجليات الذاكرة بعنوان "رجال بلا نساء" حيث طوكيو المضطربة باحتجاجات الشباب. وموراكامي الذي ولد في الثاني عشر من يناير عام 1949 من كتاب "الذاكرة" بامتياز، وتتجلى في أعماله مشاعر الحنين للماضي وقد يذهب بعيدا لحد تقمص نجوم الأدب والكتابة في ذاكرة العالم مثلما فعل في كتابه "كافكا على الشاطيء" ليصنع نموذجه الخاص للكاتب التشيكي الراحل فرانز كافكا. و"سؤال الذاكرة" الذي يستدعي المكان مضفرا ومجدولا بالزمان وأحداثه وهو سؤال شغل مبدعين وادباء كبار في مصر مثل الراحل جمال الغيطاني والروائي محمد جبريل ناهيك عن النوبلي نجيب محفوظ فيما يحق القول بأن "الأماكن حال الاعتداء على ذاكرتها التي هي جزء عزيز من الهوية". وهاهو مثقف مصري مثل الدكتور سمير غريب الرئيس الأسبق لجهاز التنسيق الحضاري في مقابلة مع جريدة الأهرام أمس "الجمعة" يحذر يشدة مما يسميه "بالتشوه العمراني وتدمير ما تركه لنا الآباء والأجداد" فيما يبدي سكان احياء قاهرية عريقة وأنيقة كالزمالك ومصر الجديدة والمعادي مثلا شعورا بالأسى حيال تغيرات في الطابع المعماري المميز لمناطقهم. وبدا بعض الكلام أقرب للرثاء لحي الزمالك الذي عرف تاريخيا بأنه من أكثر الأحياء القاهرية أناقة حتى أنه يضم الكثير من السفارات وذهب بعض من تصدوا لهذا الموضوع إلى أن العشوائية تزحف على هذا الحي العريق بمعماره المميز. فحي الزمالك عرف بقصوره وفيلاته مثل الفيلا التي كانت تقطنها "كوكب الشرق" أم كلثوم غير انها هدمت منذ سنوات وتحولت الى برج سكني وفندقي واداري فيما يسعى سكان الحي الراقي للحفاظ على تراثه واناقته التي جذبت العديد من الأجانب للاقامة فيه لتمنحه طابعا كونيا او " كوزموبوليتانيا". ومن مآخذ السكان القدامى على التغيرات التي طرأت على هذا الحي القاهري انتشار العديد من المقاهي في ربوعه وبعضها يحتل الأرصفة والضوضاء التي تثيرها المراكب النيلية الرابضة على ضفاف الحي والتي تبث الأغاني بصوت عال ويصفها البعض بأنها نوع من "التلوث السمعي". وسكان حي مصر الجديدة لم يختلفوا عن سكان الزمالك في الاعراب عن حزنهم لاختفاء العديد من القصور والفيلات التاريخية التي هدمت لتحل محلها بنايات شاهقة ومع مضي الزمن واضطراب البناء-كما قال الكاتب والأديب الراحل جمال الغيطاني- تحولت الشوارع الأنيقة في حي المهندسين أيضا الى "حواري" لكنها تفتقد منطقية ازقة ودروب الجمالية وهو حي من الأحياء القاهرية القديمة التي كان الغيطاني يذوب عشقا في هواها. والمسألة ليست قاصرة أبدا على أحياء قاهرية عرفت تاريخيا بأناقتها مثل الزمالك ومصر الجديدة والمعادي فها هو الكاتب والروائي محمد جبريل يعبر في كتابه "الحنين إلى بحري" عن شعور بالأسى البالغ حيال التغيرات التي طرأت على ميدان ابو العباس المرسي في الأسكندرية و"ذلك البناء الخرساني الضخم" الذي أقيم في قلب الميدان وبدل صورته القديمة الحميمة "فذوت الروحانية وحميمية البشر". ولأنه من سكان حي مصر الجديدة في القاهرة فقد تطرق محمد جبريل في كتاباته لوسائل النقل مابين الحي الذي يقطنه ومكان عمله والساعات التي يقضيها في القراءة داخل "الميني باص" في رحلته اليومية ذهابا وايابا وان اختلف الأمر عن تأملاته العميقة في مسقط الرأس او الأسكندرية الشهيرة "بتراماتها الملونة وذات الطابقين" فيما تستعد القاهرة في العام الجديد لحافلات مبهجة ذات طابقين. انها ساعات الذاكرة والذكريات والأحلام والأماني في نهاية عام وبداية عام جديد..ساعات يتصاعد فيها عطر الوطن مبهجا ومتحديا شرور الظلام الإرهابي.. ساعات يهرول فيها الفجر لينشر مصابيحه ويصافح الوجوه الطيبة في مصر الصامدة.