يتابع يفجينى بريماكوف، الكشف عن الكواليس السرية للأحداث الساخنة التى تشهدها منطقة الشرق الأوسط، بقوله: «لم يسلم الملكيون اليمنيون المدعمون من الخارج سلاحهم، فالتركيبة القبلية للمجتمع لم تندثر بعد إسقاط الإمام، وأمنت سلطة الشيوخ الذين اعتبروا أنفسهم أصحاب الحق الكامل فى وراثتها». وعندما أظهر النظام الجمهورى رغبته فى بناء نظام إدارى مركزى قوى، انحاز الكثير من شيوخ القبائل بشكل تلقائى إلى الجانب الآخر، ولعب دورًا كبيرًا فى هذا الدعم الذهبى الشهرى، الذى كان يصل من الأعداء الخارجيين للجمهورية لزعماء القبائل، وحاول الكثير من الشيوخ أن يضربوا التأييد الحاسم للنظام الجديد عن طريق الإجراءات الدعائية بقولهم إن النظام الجديد فى اليمن صنع لمواجهة الإسلام. من الممكن أن نفسر استمرار قدرة مقاومة شيوخ القبائل كذلك على أنها كانت بسبب عدم قدرة الحكومة الجمهورية على إنشاء جيشها على مدى الأعوام الأولى بعد الانقلاب، فقد أعلن أكثر من مرة فتح باب التجنيد، وأنشئت مدرسة عسكرية، كما درس عدد من الضباط اليمنيين العلوم العسكرية فى الخارج، لكن لم يكن هناك جيش فى البلاد بالمفهوم المتعارف عليه. تكونت القوات المسلحة الجمهورية فى الأساس من التشكيلات المسلحة للقبائل، وكان قرار مشاركتها فى الأعمال العسكرية معتمدًا على قرار الشيخ، وبالطبع عدد كبير من شيوخ القبائل، بما فيها قبائل كبيرة اتخذوا قرارهم لصالح الجمهورية، لكن هذا كثيرا ما يحدث بسبب علاقات العداء العميقة بين شيوخ وعائلة حميدالدين التى كانت ينتسب إليها البدر. يقول بريماكوف: «لقد كنت فى الخرطوم فى سبتمبر 1967 عندما عقد أول مؤتمر قمة عربية بعد حرب يونيو، كانت المسألة اليمنية أحد الموضوعات الرئيسية فى المؤتمر، وتم إيجاد صيغة حل وسط، فقد وعدت القاهرة أن تنهى انسحاب قواتها فى عام 1967 مقابل التزام المملكة العربية السعودية بألا تتدخل فى الشئون الداخلية لليمن». وجرى تغيير حكومة الرئيس اليمنى عبدالله السلال، بعد أن غادرت الوحدات العسكرية المصرية من اليمن، فقد تمت تنحية السلال، ووصل للسلطة مجلس جمهورى برئاسة رئيس الوزراء السابق الإيريانى، الذى قضى عامًا فى هجرة إجبارية بالقاهرة، بعد ذلك حاول الملكيون الاستيلاء على صنعاء، فطلب الإيريانى الدعم من الاتحاد السوفيتى، الذى نظم جسرًا جويًا بإمدادات طبية وغذائية و ذخيرة لإنقاذ المدينة، انتهت الحرب الأهلية اليمنية فى أبريل عام 1970، فقد حصل الملكيون على حقائب فى الحكومة الجمهورية وفق اتفاقية وقعت، لكن توقف الحرب الأهلية الرسمى، لم يكن يعنى استقرار الوضع الداخلى فى اليمن، فقد تناوبت مجموعات على السلطة، كثيرًا ما كان تغيير السلطة يتم عن طريق قتل رئيس الدولة. كان للأوضاع فى جنوب البلاد، تأثير متزايد على الأحداث فى اليمن حيث تمكنت القوى الثورية من فرض سيطرتها على محمية عدن الإنجليزية. ففى 30 نوفمبر 1967 انسحبت القوات البريطانية من أراضى ما عرف بجمهورية اليمن الشعبية، والتى وفقًا للدستور واعتبارًا من 30 نوفمبر 1970 أصبحت تسمى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وهناك أيضًا ليمر دون صراع دموى داخلى. فى نهاية الأمر توحد الشمال والجنوب فى دولة واحدة، بعد مجهود عنيف وصدامات مسلحة وتدخل فى شئون بعضهما بعضًا وحرب فى 22 مايو 1990، تم الإعلان عن إقامة دولة اليمن الموحدة، لم تكن مصر بعيدة عن كل هذه العمليات الدائرة، لكنها لم تشارك مشاركة نشطة. ويسأل بريماكوف: هل من الممكن اعتبار تدخل مصر من البداية فى الشئون اليمنية عند إسقاط الملكية كان غير صحيح؟ أنا أسأل هذا السؤال لأن كثيرًا من الباحثين يدينون ناصر بأثر رجعى لتدخله فى اليمن، الذى أصبح عبئًا ثقيلاً على مصر، أنا لا أنتسب لهؤلاء الباحثين، فلو لم يكن الانقلاب اليمنى المضاد للملكية بمشاركة المصريين، لما طوت المملكة العربية السعودية عملية إنشاء مركز إسلامى معادٍ لناصر على أراضيها، وهو الأمر الذى كان مقترحًا بعد الإعلان عن مبدأ «إيزنهاور»، ولم تحدث التغييرات الثورية فى اليمن، ولما انسحبت بريطانيا من قاعدتها فى عدن، خاصة بعد أن فقدت قاعدتها فى منطقة قناة السويس. بالطبع حدث ويحدث فى اليمن عملية تجريف للتركيبات القبلية فى المجتمع، وهى عملية غاية فى الصعوبة، لكن على أى حال لم يعبر الشيوخ الموالون للجمهورية عن استعدادهم لبذل الجهد لدمقرطة النظام القائم، لكن تطورت عملية تسييس الشعب خاصة فى المدن، ونشطت البرجوازية الوليدة، فى البداية التجارية، وبعد ذلك الصغيرة والمتوسطة فى الصناعة، كل هذا هيأ الظروف للموجة الثورية التى ارتفعت فى ربيع 2011 ضد النظام الجمهورى الملوث بالفساد، والذى أصبح عائقًا على طريق كل من يشعر بضرورة أن يمشى فى ركاب العصر.