شهدت العلاقات بين السودان وروسيا تطورا ملحوظا نحو التعاون في مختلف المجالات خلال السنوات الأخيرة، خاصة في القطاع الاقتصادي، وتبادل الدعم والمساندة في المحافل الدولية، والقضايا ذات الاهتمام المشترك. وتتميز العلاقات بين الخرطوموموسكو بكونها مزيجا من المصالح المشتركة والتقاطعات الكبرى على المستوى الاستثماري والتنموي، حيث إن البلدين بينهما آفاق واسعة من التعاون والعمل المشترك في مجالات الاستثمار والتنمية وتبادل المنافع. ويعد ملف التعدين من أهم الملفات بين البلدين، بعد أن وقعت وزارة المعادن السودانية مع شركة "سيبيريا" الروسية في يوليو عام 2015 صفقة استثمارية ضخمة، حازت بموجبها الشركة على امتياز لتعدين الذهب في الولاية الشمالية، وأعلنت الوزارة أن الشركة اكتشفت احتياطيات كبيرة من الذهب الخام بين ولايتي البحر الأحمر ونهر النيل تبلغ 46 ألف طن، وتُقدر قيمتها السوقية بمئات المليارات من الدولارات. واختُتمت بالعاصمة الروسية موسكو، أمس الأربعاء، اجتماعات الدورة الرابعة للجنة الوزارية السودانية الروسية المشتركة، بجلسة مباحثات مشتركة ترأس فيها الجانب السوداني -الذي ضم 41 شخصية بينهم 13 رجل أعمال- وزير المعادن أحمد صادق الكاروري، بينما ترأس الجانب الروسي وزير البيئة والموارد الطبيعية سيرجي دونسكوي. ووقع الوزيران على بروتوكول التعاون بين البلدين، وشمل 5 اتفاقيات في مجالات المعادن والزراعة والطاقة والصحة والتعليم والنفط والغاز. وأعلنت شركة "روس آتوم" الروسية للطاقة أنها تخطط في عام 2017 للتوقيع مع وزارة المياه والري والطاقة في السودان، على مذكرة تفاهم للتعاون في مجال الطاقة النووية للأغراض السلمية. وأكد الجانبان السوداني والروسي، ترحيبهما بنية "روس آتوم" الحكومية الروسية، ووزارة الموارد المائية والري والكهرباء في جمهورية السودان، للتوقيع على مذكرة تفاهم عام 2017. وأوضحا أنه لمناقشة آفاق التعاون الثنائي في مجال مشاريع الطاقة النووية وغير النووية، وكذلك في المجالات التي لا تستخدم التكنولوجيا النووية؛ ستقوم وزارة المياه والري والطاقة في السودان بتنظيم وإدارة اجتماع خاص للخبراء خلال العام 2017، لافتين إلى أن مذكرة التفاهم هي الأساس القانوني لمواصلة تطوير التعاون بين الطرفين في مجال استخدام الذرة للأغراض السلمية. وقال وزير البيئة والموارد الطبيعية الروسي - في تصريحات صحفية، عقب التوقيع على بروتوكول التعاون- إن بلاده تتطلع لزيادة حجم التبادل التجاري مع السودان ليصل خلال الست سنوات القادمة إلى 20 مليار دولار. من جانبه، قال مدير عام شركة "روس براجمت" الروسية أندري سامجيف -عضو اللجنة- إنهم سيقومون بتوقيع مذكرة تفاهم مع البنك الزراعي السوداني لتوريد المعدات الزراعية إلى الخرطوم، فضلا عن توريد القمح، مشيرا إلى أنهم يعملون حاليا للترويج للمنتجات الزراعية السودانية في روسيا. ومن جهته، أكد وزير المعادن السوداني أن التعاون القائم بين البلدين يمكن أن يتوسع ويتمدد لمصلحة الجانبين، وكشف عن إنشاء مجلس أعمال مشترك ليضطلع بتطوير علاقات التعاون الاقتصادي بين الدولتين، مبرزا اهتمام السودان بالاستثمارات الروسية، والعمل على تذليل كافة العقبات التي تواجهها. وأشار إلى أن السودان حرص على إشراك روسيا في مشروع "أطلانتس 2" الخاص بالاستغلال المشترك لثروات البحر الأحمر مع السعودية "تأكيدا لمتانة العلاقات مع روسيا ولامتلاكها للخبرة في هذا المجال". وأوضح أن موقع "أطلانتس 2" يقع في منخفض سحيق بالبحر الأحمر على عمق يزيد على 2200 متر من مستوى سطح البحر، وسمك يتراوح من 12 - 15 مترا. ويحوي ثروات معدنية هائلة حيث كان حلما للسودان والسعودية منذ سبعينيات القرن الماضي. وقال إنه توجد ثروات ضخمة في موقع "أطلانتس 2" تُقدر بنحو 47 طن ذهب، ومليوني طن زنك، و500 ألف طن نحاس، و3 ألاف طن منجنيز، و3 آلاف طن فضة، إلى جانب معادن نادرة تتواجد بكميات كبيرة. وكانت الدورة الأولى للجنة الوزارية الاقتصادية التجارية السودانية الروسية، قد عقدت بالخرطوم في الفترة بين 16 و18 ديسمبر عام 2013، وتوافق الجانبان على تميز العلاقات السياسية والتنسيق بين البلدين في المحافل الدولية، مقرين بضرورة تعزيز العلاقات الاقتصادية بينهما، والتي ظلت لا ترتقي لمستوى العلاقات السياسية، ووقع الطرفان مذكرة تفاهم للتعاون في مجالات الجيولوجيا والمعادن والصحة والطاقة. وعلى الصعيد السياسي، شهدت الفترة الأخيرة تقاربا واضحا في المواقف السودانية الروسية، خاصة فيما يتعلق بالموقف من المحكمة الجنائية الدواية، حيث أعلنت روسيا مؤخرا انسحابها منها وسعيها لإنشاء آلية بديلة عنها بالتعاون مع عدة دول خاصة الصين، وهو ما رحبت به الخرطوم. وكشف السفير الروسي لدى السودان أمير غياث شرينيسكي، في تصريحات صحفية، عن آلية جديدة مزمع إنشاؤها كبديل للمحكمة الجنائية الدولية القائمة الآن. وقال إن الآلية جاءت بمبادرة من الحكومة الصينية ودعم من روسيا لإنشائها، موضحا أن هذه الآلية ستُبنى على أساس التفاهم المشترك لمختلف الدول والحكومات، بالمشاركات الفاعلة والأغلبية الواسعة على مستوى العالم، مؤكدًا ضرورة أن تتمتع بالثقة المطلقة لدى كل الدول. وأضاف أن هذه الآلية تكون تحت رئاسة دولة واحدة أو مجموعة من الدول، وقال "لم تكن المحكمة الجنائية على مستوى الآمال التي كنا نعلقها عليها، ولكن في الواقع تحولت بالتدريج إلى جهاز يعاقب الأشخاص والدول والحكومات، على أسباب سياسية وليست قانونية وشرعية". وأكد السفير الروسي بالخرطوم أنه يقدر العلاقات مع السودان، معتبرا أن ما يشكل المحور الأساسي والعمود الفقري لهذه العلاقة هو التفاهم الكامل بين القيادتين السياسيتين في البلدين. ويرى خبراء أن موسكو تمثل للسودان درعا واقيا من العقوبات الغربية ومجلس الأمن، من خلال إمكانية استخدامها لحق الفيتو ضد أية قرارات مناوئة للخرطوم، وأنه يجب على الجانب السوداني أخذ هذه المسألة بعين الاعتبار. وتاريخيا، بدأت العلاقات الدبلوماسية بين الاتحاد السوفيتي والسودان في 5 يناير عام 1956، وشهدت ستينات القرن الماضي تطورا مطردا للعلاقات الثنائية. وتم خلال تلك الفترة توقيع الاتفاقيات الطويلة الأمد التي ساعدت على تطوير التعاون بين البلدين في شتى المجالات. وفي مطلع السبعينات، قطعت القيادة السودانية العلاقات مع الاتحاد السوفيتي من جانب واحد، ولكن بعد عام 1985 بدأت العلاقات بين البلدين تعود إلى مجراها الطبيعي بشكل تدريجي. وفي 29 ديسمبر عام 1991، أعلنت السودان اعترافها الرسمي بروسيا الاتحادية - بعد انهيار الاتحاد السوفيتي- وخلال انعقاد الدورة الثامنة والخمسين للجمعية العامة لهيئة الأممالمتحدة في 29 سبتمبر عام 2003 وقع وزيرا الخارجية للدولتين البروتوكول الخاص بإجراء المشاورات وإقامة التعاون في مجال رفع كفاءة الكوادر الدبلوماسية، وتم توقيع اتفاقية التعاون العسكري التقني في مارس عام 2003. ويتم تنظيم العلاقات التجارية والاقتصادية بين السودان وروسيا بموجب اتفاقية التجارة والتعاون الاقتصادي والتقني، التي أبرمت بين الحكومتين في يناير عام 1998، وفي أواخر عام 2007 تم تشكيل لجنة تطوير التعاون الروسي السوداني. وتصدر روسيا إلى السودان الماكينات والآلات والتقنيات والأجهزة الكهربائية ومواد البناء، أما الواردات الروسية من السودان فتشمل المنتجات الزراعية كالقطن والشاي الأحمر (كركديه) والسمسم والفول السوداني. وما زال التعاون في مجال العلم والثقافة والتعليم بين البلدين محدودا نسبيا، ويتمثل جليا في إعداد الخبراء السودانيين في مؤسسات التعليم العالي الروسية، يبلغ عددهم 5 آلاف خريج سوداني في شتى المجالات منذ عام 1956، وبدءًا من عام 1996 بدأت الحكومة الروسية بتخصيص المنح الدراسية للطلبة السودانيين.