إن إعادة قراءة التراث العربى ضرورة حضارية ملحة، ليست من أجل بعث الماضى، لكن لكى تعرف الأجيال الجديدة كيف كُنا، كى نحمى تراثنا من اللصوص، وسارقى التاريخ ومزيفى الأحداث.. ندرك الخلفية التاريخية لحاضرنا الثقافى ونرى من خلاله المستقبل. تبقى «إسرائيل» هى اللص الكبير الذى سرق الأرض، ولم تكف يدها عن أذى العرب، بل امتدت لسرقة التراث، لذا انطلقت عدة مبادرات لتحريض الفلسطينيين على البوح والحكى، من أجل حفظ التراث ولمواجهة الأرشيف الصهيونى الكاذب. يمثل التراث للفلسطينيين «الحياة»، فبعد اغتصاب الأرض لم يتبق لهم سوى الذكريات، عندما طُرد أهالى المناطق المنكوبة عام 48 من بيوتهم، حملوا معهم ذكرياتهم إبان النكبة، وحملت كل واحدة من الأمهات مفتاح دارها بعد أن أغلقت نوافذه، وأصبحوا يرددون حكاية «مفتاح الدار»، وكانت الذكرى مثقلة بالخيبات وفقدان الأمل. ومن حيفا، أطلق المركز العربى لتطوير الإعلام الاجتماعى مشروع «ويكيبيديا فلسطين»، لإثراء المحتوى العربى وتعزيز الصوت الفلسطينى فى الموسوعة الحرة. وفى رام الله، شارك عشرات الناشطين والصحفيين فى سلسلة لقاءات بورشة تم تنسيقها بدعم من «ويكيميديا العالمية»، وبدأت الورشة الأولى فى سلسلة تشمل خمسة لقاءات تدريبية، تتشكل من خلالها مجموعة فلسطينية تنشط بشكل ثابت فى «ويكيبيديا»، أدارها ثلاثة محررون ناشطون فى «ويكيبيديا العربية»، هم «فرح مستكلم، وميسرة عبدالحق، ومحمد أحمد حجاوى». ويهدف المركز إلى تأسيس نشاط فلسطينى منهجى، لإثراء المحتوى العربى العام وتعزيز الصوت الفلسطينى فى الموسوعة الحرة. فى الورش التى يديرها مركز «حملة» الفلسطينى، تم التنسيق مع «ويكيميديا» المؤسسة الحاضنة ل«ويكيبيديا»، وتم إنشاء مجموعة فلسطينية تهتم بإثراء ومتابعة المحتوى الفلسطينى والعربى على «ويكيبيديا»، من خلال العمل المشترك بين الناشطين الفلسطينيين فى مختلف أماكن وجودهم. وعن «خزائن» تلك المبادرة الفلسطينية التطوعية التى تجمع شتات قصاصات الورق، يقول مؤسسها فادى عاصلة: «نحن أمام أرشيف يبنيه الفلسطينى من قصاصة ورق.. يتم جمع المجلات والكتب من المكتبات الوطنية، والملصقات والمناشير والبيانات والإعلانات وغيرها». وتهتم «خزائن» بالأرشيف التقليدى، حيت اتجهت نحو حفظ كل ما هو فلسطينى علّها تكون مدخلًا مهمًا للباحثين. القصاصات الصغيرة تقف ضد الموت، وحكايات التراث الفلسطينى ترفض أن تندثر، حصلت «خزائن» على تذكرة سفر لعامل مصر توثّق خط القطار بين تل أبيب وغزّة، الذى عمل منذ نكسة 67 حتى 1974، وجسدت ورقة التذكرة ترابا على كاهل عامل مصرى أراد الحياة. وفى مواجهة الصهاينة سارقى التراث، وضعت «خزائن» يدها على 500 ألف ملف من الأرشيفات الصهيونية، فيما جمعت 20 ألف ملف من مواد فلسطينية. ويقول «عاصلة»: «فى عام 1949 صادرت إسرائيل نحو 30 ألف كتاب، وتم ترحيلها للمكتبة الوطنية فى الجامعة العبرية». منذ النكبة، ردد الفلسطينيون مئات الحكايات عن سرقة إسرائيل الكتب من القدس، وفى عام 2012 أكدت أطروحة دكتوراه أعدها الباحث الإسرائيلى الدكتور غيش عميت من جامعة بئر السبع، ما كان قاله عشرات ومئات الفلسطينيين منذ النكبة الفلسطينية فى العام 48، حول سرقة ونهب عشرات آلاف الكتب الفلسطينية النفيسة والفريدة من بيوت الفلسطينيين، وتمت أعمال النهب والسرقة هذه تحت حماية جنود العصابات اليهودية والجيش الإسرائيلى وبمراقبة ومساعدة أمناء المكتبة الوطنية الإسرائيلية، فقد تمت سرقة مكتبات كاملة لعائلات وكتاب وأدباء فلسطينيين، مثل المكتبة الخاصة لخليل السكاكينى، ومكتبة آل نشاشيبى بالإضافة إلى مكتبات ووثائق الهيئات الفلسطينية العامة، والمدارس والكنائس. وفى قسم «أملاك مهجورة» داخل مكتبة الجامعة العبرية الموجودة فى «الشيخ بدر» بالقدسالمحتلة، وهو التصنيف الخاص بالكتب المسروقة من مكتبات البيوت الفلسطينية التى تم تهجير أهلها خلال نكبة 1948، نجد أن غالبية الكتب مسروقة، يمكن الاطلاع عليها بإرسال طلب إلكترونى يحمل اسم الكاتب والكتاب وتفاصيل شخصية عن المرسل، أى أنك لا تستطيع معرفة صاحب الكتاب (الذى اقتناه) إلا بعد أن تفتحه. عام 2014، أصدر الدكتور الإسرائيلى «غيش عميت» كتاب «بطاقة ملكية» تحدث فيه عن تاريخ من النهب والصون والاستيلاء فى المكتبة الوطنية الإسرائيلية، ونشر الكتاب بالعبرية عن معهد «فان لير» فى القدس ودار «هكيبوتس هميئوحاد» للنشر، وصدر بالعربية عام 2015 عن «مدار- المركز الفلسطينى للدراسات الإسرائيلية»، تطرق الكتاب إلى أحداث وقعت بين جدران المكتبة الوطنية- الصهيونية فى القدس، بين الأعوام 1945-1955، وتحدث عن كنوز المنفى الذى شمل نحو 30000 كتاب كانت بملكية فلسطينيين أثناء حرب 1948، وتحويلها إلى جزء من مجموعات الكتب فى المكتبة الوطنية، وجمع كتب ومخطوطات ليهود من اليمن هاجروا إلى إسرائيل بعد النكبة ومضى «عميت» بالقول: «لقد آمن عاملو المكتبة الوطنية وما زالوا يؤمنون حتى اليوم- أن المسألة هى عملية إنقاذ لثقافة كاملة، لولا تدخل المكتبة لكان قسم كبير منها إن لم تكن كلها قد اندثرت، أو سرقت من قبل تجار أو لربما ضاعت»، لكن الفلسطينيين يعتبرون ذلك، وبحق سرقة ثقافية، ونهبا ثقافيا كان جزءا لا يتجزأ من النكبة، التى جرتها عليهم الحرب. وعلى استحياء يبرر «عميت» بالقول: «إنه يمكن التوفيق بين هذين التوجهين.. هذه قصة عملية نهب إلى جانب كونها عملية محافظة على تراث ثقافى.. هذه هى عملية سرقة هى فى الوقت ذاته حماية ووقاية، لا تناقض هنا». وقال مخرج الأفلام الوثائقية «بنى برونير» الذى أعد فيلما عن القضية تحت عنوان أكبر سرقة للكتب عرفها التاريخ: «منذ النكبة وهذه الكتب هناك، شاهد على قضية تاريخية منسية وكأنها لم تكن. كان هناك من عرفوا بأمرها، لكن الحياة مستمرة والقضية ظلت طى النسيان». وعقدت «خزائن» لقاءها الأول فى القدس فى حوش الفن الفلسطينى، وتعمل مبادرة «خزائن» التى تتكون من 42 متطوعا للحفاظ على ذاكرة الفلسطينيين من النسيان، وتسعى لبناء أرشيف عربى حقيقى يوثق جميع المنشورات والملصقات العربية، ليكون مرجعًا للباحثين والدارسين أينما كانوا، وتدعو من يملك أى مواد أرشيفية حديثة، ويود أن يساهم بها -سواء من فلسطين أو من أى دولة عربية أخرى- أن يتواصل معها لكى تنسق آلية استلامها وحفظها، لكى تكون ضمن الدفعة الأولى التى ستظهر على موقعنا الإلكترونى فى سبتمبر2017. وفى اللقاء الأول للمتطوعين تحاول «خزائن» إجراء مسح ضوئى لعينة مكونة من 2000 ملف، تحوى مواد توثق نشاطات سياسية فى عدة دول عربية، وهى أول خطوة نحو بناء الأرشيف. وجاء القرار الأخير الذى أقرته «اليونسكو» الهيئة العالمية للتربية والعلم والثقافة، حول مدينة القدس القديمة والحرم القدسى الشريف والمسجد الإبراهيمى، بأنها ليست لها أى علاقة باليهود أو بالتاريخ اليهودى. ودان قرار «اليونسكو» إسرائيل على أفعالها ضد الفلسطينيين والمقدسات الفلسطينية، وذكّر العالم بأن محاولات خبراء «اليونسكو» المتكررة لدراسة الوضع على أرض الواقع ولقاء مسئولين إسرائيليين وفلسطينيين، صدها المحتل الإسرائيلى من خلال رفض إعطاء الخبراء تأشيرة أو اللقاء معهم.