دائما كانت أعمال الشعراء مرآة صادقة تعكس كل تفاصيل المجتمع، إيجابياته وسلبياته، أفراحه وأتراحه، مواطن الجمال والقبح فيه، ويتميز شعراء العامية المصرية منذ الرعيل الرائد لهذا الفن بالاشتباك دائما مع الأزمات العصرية التي يعانى منها الناس وتشغل بالهم، وهو ما جعل قصائدهم تنتشر بين أطياف الشعب المختلفة نظرًا لمعالجاتها المختلفة لمشاهد الحياة اليومية بألفاظ رشيقة وقريبة منهم تتمتع بموسيقى خاصة وأوزان تناسبها. يتربع بيرم التونسى وبديع خيرى على رأس قائمة جيل الرواد في هذا المجال الشعرى، فلبيرم قصائد تحدث خلالها عن «البلدية» وعن أزمة النظافة في الشوارع وأزمة فساد أخلاق الطلاب في المدارس ولاقت هذه الأعمال صدى كبيرا عند الناس نظرا للأسلوب الساخر الذي تمتع به بيرم لدرجة أنه أنشأ جريدة «المسلة» خصيصًا لتحتوى هذه القصائد منها قصائد «المجلس البلدى» و«حاجات في الحلق متحاشة» و«لندن وباريز» وغيرها، وتطول القائمة لتصل لجيل أحمد فؤاد نجم وعبدالرحمن الأبنودى. غير أنه بوفاة عبدالرحمن الأبنودى ومن قبله أحمد فؤاد نجم أصبح شعراء العامية بعيدين عن مناقشة أزمات المجتمع، في الوقت الذي تشغل هذه الأزمات بال المواطن وتحتل العناوين الرئيسية للصحف وبرامج التليفزيون ومنها ارتفاع الأسعار وأزمات الدولار ونقص السلع الغذائية والهجرة غير الشرعية وغيرها. «البوابة» سألت عددا من شعراء العامية المعاصرين من مختلف الأعمار عن الدور الغائب لشعر العامية في الوقت الحالى، وإن كانت هناك قصائد تعبر عن نبض الشعب فلماذا لم تلق الصدى الذي لاقته قصائد الأجيال السابقة، وما أبرز الأسباب التي تعرقل سيرهم قدما لمعالجة تلك القضايا؟ الشاعر الشاب عمرو قطامش الذي اشتهر بأشعاره «الحلمنتيشية» التي اشتبكت في أعوام سابقة مع قضايا معاصرة، قال إنه مع اختلاف الأجيال أصبح الشعر يتماشى مع الجو العام، فأصبح ليس له تأثير، وأصبحت هناك فجوة بين الشعر والجمهور وحالات غريبة من الهجوم بشكل قاس على أي شاعر تعرض لأى مشكلة اجتماعية، فيتم اتهامه وتصنيفه وحسابه على طرف دون الآخر، مؤكدا أن أيام بيرم التونسى كان وعى العامة مختلفا، إنما الوضع الحالى هو زمن موسيقى المهرجانات مع إن الإقبال كبير على المصنفات الفنية ولكن الذوق فاسد. وأضاف قطامش: أصبح هناك اختلاط في المفاهيم والمعايير، فالأوضاع السياسية التي مرت بها مصر مؤخرا جعلت الناس في حالة شد وجذب دائمة، وتراشق بالتهم وأنه لا يريد أن يضع نفسه في هذا الوضع لذا تنحى جانبا عن الاشتباك مع الأحداث المعاصرة والتفرغ لتجربة جديدة تستهدف النهوض بوعى المتلقى أولا قبل معالجة المشاكل اليومية التي يتعرض لها، مؤكدا أن الأحداث الحالية مثيرة جدا للكتابة بالتحديد حدث سائق التوك توك، لكن لهذه الأسباب هو لا يريد الخوض فيها، مشيرًا إلى أن الجمهور يهمه في الأول قبل الكتابة، وهنا يختلف عن عدد كبير من الشعراء الذين يفضلون النص على الجمهور، فيكتبون ما يشاءون. بينما يرى شاعر العامية الشاب خلف جابر، والذي لفت ديوانه الأخير «عجلة خشب» أنظار عدد من النقاد وجمهور الشعر، كما فاز بجائزة أحمد فؤاد نجم لشعر العامية هذا العام، إن في بداية الثورة تفاعلوا وكتبوا نصوصا ثورية بهدف الثورة لا بهدف الكتابة بعد ها أصبحت الموضوعات مكررة ومملة فعدنا إلى الشعر مرة أخرى، بسبب أن الحالة تلك تؤدى دائما إلى المباشرة وتجعل القصائد مثلها مثل شعر المناسبات، إذ يتمتع بخطابة أعلى ويجعلك تتخلى عن إيماناتك بفكرة الفنيات، مشيرًا إلى أن جيل بيرم كان يمر بمرحلة الزجل، والزجل مباشر وبسيط ويقترب من الناس، مؤكدا أن نفس الموضوع موجود ولكن الاتجاهات مختلفة، أصبحت أكثر شاعرية فأصبح يهتم بلب الموضوع وليس الحدث نفسه، ويهتم بالنص أكثر من الإثنين السابقين، أما بالنسبة للسوكسيه الذي تلقاه القصائد أرجعها إلى مدرسة الكتابة، مشيرا إلى أن هشام الجخ بيوصل وغيره لو تخلى الشعراء عن بعض الاتجاهات المعتادة في الكتابة بالتأكيد كانت سُمعت أشعارهم. أما الشاعر حاتم مرعى فهو من شعراء جيل التسعينيات، والذي تلفت أعماله دائما أنظار عدد كبير من النقاد والقراء وأبرز هذه الأعمال ديوانه «ريحة ملايكة» يقول إن شعراء العامية القدامى كانوا يتحدثون بلسان الجماعة، لذلك كان بيرم هو شاعر الشعب، مضيفًا أن في رحلة تطور العامية من القرن التاسع عشر حتى الآن انتقلت جماليات العامية من الشفاهية والقولية إلى جماليات التدوين وتحول شاعر العامية من شاعر انتخبته الجماعة الشعبية إلى شاعر يكتب تجربته الذاتية التي قد تتماس مع قضايا عامة ومشكلات مجتمعية. وتابع مرعى: شاعر العامية الحداثى لا يعبأ كثيرا بالقضايا العامة ومشكلات واقعه إلا في حدود ما يخصه، موضحا أن فن الزجل ما زال هو المعبر عن حالة المواطن البسيط ومعاناته اليومية، وبظهور قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر العامية تحول الطرح الشعرى إلى آفاق إنسانية أكثر رحابة فبدأت القصيدة تناقش قضايا وجودية وميتافيزيقية في ماهية الوجود وطرح مشكلات الموت والحياة وما إلى ذلك. بالرغم من هذا التحول يضيف الشاعر الشاب: نلمح في قصائد العامية الجديدة طرح العام في ثنايا الخاص، مضيفا أن بدايات كتابته كانت نصوصا تخضع لركيزة الموسيقى كجمالية أصيلة في الشعر، وكتب قصائد الزجل على نهج بيرم كما كتبت قصائد التفعيلة على نهج المجددين أمثال حداد وجاهين وقاعود، فكان ولا بد من الاختلاف والبحث عن الجديد ولم أجد ما أبحث عنه إلا في قالب النثر الذي سمح لى بطرح ما يخصنى الذي قد لا يتعاطف معه الآخر -المتلقى، كان هذا في التسعينيات وحتى وقت قريب، مشيرًا إلى أن تجربته الشعرية التي يستمر في كتابتها في الوقت الحالى تحت عنوان «غنى يا حزين» تعتبر عودة إلى هذه النزعة الموسيقية المتأصلة بداخلى بآليات جديدة ووعى جديد، وهى كتابة موازية لمشروعى في كتابة قصيدة النثر. اشتهر شاعر العامية هشام الجخ بأداء أشعاره على خشبات المسارح، وهو يقول إن أكثر ما يهم تجربته الشعرية هو وجع الناس في المقاهى والشوارع والمواصلات، مشيرا إلى أن الشعبية التي اكتسبتها أشعاره اكتسبتها بسبب هذا المنهج الذي ينتهجه، مشيرا إلى أن الوضع أصبح شائكا ولا يخلو من الانتقادات التي من الممكن أن تعرقل أي شاعر بسبب الأوضاع السياسية ورغم ذلك هناك عدد مستمر في تقديم تجربته ومراعة جمهوره مؤكدا أنه شاعر الناس. جاسر جمال الدين من أبرز شعراء جيل التسعينيات تميزت قصيدته العامية بالمزج بين الفلكلور والاتجاهات الحداثية، فمن أبرز دواوينها «شوية وجع» و«سندرة الحواديت» وآخرها «ملاك من غير هالات نور فوق دماغه»، في الشعر يقول إنه كانت هناك فرص ذهبية للشعراء في مرحلة ثورة 25 يناير لبزوغ نجم يستطيع بكلماته إشعال الروح الثورية، مؤكدًا أن كل الثورات في العالم كانت مرتبطة بظهور شاعر وطرح إنتاجه على الوعى الجمعى المهيأ حينها لتلقى روح مختلفة، لكن ثورة يناير لم تنتج مبدعها، وهذا عيب في المبدعين أنفسهم. ويوضح جمال أن الوعى الجمعى دائما بسيط ويميل لفنيات كتابة بسيطة، يظنها المبدع فقرا فنيا وإبداعيا ويتهمها بالتسطيح والمباشرة، ولم يستطع صنع خيط اتصال مع المتلقى بل تعالى عليه، فبالتالى لن نجد شاعرا أو نصا يعالج الأزمات التي يمر بها الوطن، مشيرًا إلى أن معظم كتاباته تحمل هما إنسانيا يرتبط بالمجتمع وتسعى لتبسيط الحالة لتصل بالمتلقى من خلال آليات كتابة تحاول صنع معادلة صعبة من بساطة لا تصل للفجاجة وتحمل في طياتها عمقا ورؤية موضحًا أنه يدمج تصوره الفنى بالمجتمع الذي لا يجوز لأى مبدع الانفصال عنه ويتم ذلك من خلال استخدام مفردات يومية نتعرض لها، وأمثال شعبية يتم طرحها برؤية ومنظور مختلف والهم الجمعى يتم التنفيس عنه من خلال النكتة أو المثل. ويرى الشاعر إبراهيم عبدالفتاح الذي برع في كتابة أشكال مختلفة من الشعر فمنها العامية والفصحى والأغنية والشعر الدرامى، أن العامية قدمت أصواتا كثيرة كان شاغلها الأكبر هو الشأن الاجتماعى وبالضرورة قدمت هذه الأصوات نصوصا وأغانى تتناول مشكلات الناس، غير أن الظرف التاريخى مختلف بجميع ملابساته من حيث اختلاف السلطة وفاعليتها على المبدعين وخلافه، غير أن هناك تجارب عديدة تحاكى نماذج بديع وبيرم وسيد درويش ومن بعدهم نجم وإمام عيسى، وامتدت لزين العابدين فؤاد ونجيب شهاب وقاعود مع موسيقيين أمثال عدلى فخرى وأشرف السركى ومحمد عزت وعطية محمود وجمال عطية وأحمد خلف وأحمد إسماعيل وغيرهم. ويشير عبدالفتاح إلى أنه كتب عشرات الأغانى منها ما كتبه لمسلسلات «أهل القمة، والدالى، وأفراح إبليس»، وأفلام مثل «حين ميسرة، وهى فوضى» مشيرًا إلى أن في سوق الأغانى لا يوجد في مصر مطرب واحد لديه مشروع مثل سيد درويش أو إمام عيسى، عن نفسى لم أصادف أحدا يقبل بالمغامرة، ولك أن تعرف أن الأغانى التي طالما أردت تقديمها ظلت حبيسة الأدراج. ويستطرد عبدالفتاح: أستثمر كل فرصة متاحة على صعيد الدراما لتقديم بعض ما أحلم به، مؤكدا أن هناك دواوين كثيرة مطبوعة بالفعل ومليئة بهذا النوع من القصائد، حتى أن هناك العديد من دور النشر التي تأسست فقط لنشر العامية، خاصة بعد المسابقات الكثيرة التي خصصت لشعر العامية ليس آخرها جائزة أحمد فؤاد نجم، والتي يقدمها ساويرس، هناك أيضا أمسيات دائمة تعقد في ساقية الصاوى وبعض الأماكن الأخرى في طول البلد وعرضه. ويقول الشاعر جمال بخيت إنه من الشعراء المهتمين بجميع المشاكل، مشيرًا إلى أنه كان له قصيدة في نهاية السبعينيات بعنوان «نعى الجنيه» يتحدث فيها عن الأزمة الاقتصادية التي تعرضت لها مصر إبان قرارات الانفتاح، لكن بخيت يؤكد أن دفقة الإحساس تهمه قبل أي شيء، مشيرًا إلى أنه لا يكتب عن أي موضوع لو لم تخرج الكلمات شاعرية، فشاعرية النص تهمه قبل أي شيء، حيث إنه لا يميل للمباشرة في نصوصه، معددا قصائده التي اشتبكت مع قضايا ومنها «دين أبوكم اسمه إيه»، وفى الشعر الغنائى الدرامى «مش باقى منى غير شوية دم». بينما يرى الشاعر طاهر البرنبالى، أن المعايير الشعرية اختلفت كثيرا عن السابق، فمن حيث تسويق القصيدة يشير إلى أن القصيدة في جيل بيرم وأحمد شوقى كانت تنشر في الصفحة الأولى في الصحف، وكان لها وضعها، أما الآن أصبحت وسائل الإعلام تهمش الشعر سواء في الصحافة أو الإذاعة أو التليفزيون، ويضيف أن القصيدة المباشرة لم يعد لها وجود في الوقت الحالى، فما كان يفعله بيرم التونسى يدخل في إطار الزجل، فقصيدة العامية الآن أصبحت لها طور حداثى وشعرى جديد يضاهى ما يحدث في شعر الفصحى، فبدأت تأخذ مناحى فلسفية وقضايا كبرى، غير أن هناك عددا من القصائد لم تخل من مناقشة الأحداث المعاصرة ولكن بأسلوب شعرى يراعى الاتجاه الجديد. ويؤكد البرنبالى أن له تجربة شعرية بعنوان «طرطشات الذات والبنات» صدرت عام 2008، تضمنت معالجة لقضية الهجرة غير الشرعية في إحدى قصائدها، مشيرا إلى أن القصيدة الجديدة ربما لا يستطيع الجميع فهمها ولكنهم يستطيعون تأملها والإحساس بها والانفعال معها وهذا شىء مهم.