لم ينل عضوية مجمع اللغة العربية المصرى رغم ترشحه مرارًا أحزنه عدم تناول نجيب محفوظ اسمه عند حديثه عن مسرحيته «الأب» هو رجل من ملح هذه الأرض الغالية، يعيش ما يعيشه كل مصرى، وقد عايش فترات مهمة من تاريخها، لقبوه سابقًا ب«سفير الأدباء»، ولاحقًا عاش منسيًا داخلها، مقدرًا ومكرمًا خارجها. الكتابة عنه هى كتابة عن ملح هذا الوطن الذى يهبه مذاقه الخاص، وكتابة أيضًا عن تاريخه الحديث بعينى رجل رصد الأحداث بقلم حر أولًا بأول. وديع فلسطين ذاكرة حية متحركة تحكى سيرة عهود طويلة مضت من تاريخ مصر، وأحد الرجال الذين ظلمتهم ثورة يوليو 1952 فآثروا الابتعاد عن المشهد السياسى بكل أشكاله وصوره، مقدمًا ذكرياته مع أصدقائه من كبار المبدعين والكتاب المصريين من الرعيل الأول والثانى. خلال السنوات الأخيرة سعيت لتقديم كتاب عن وديع فلسطين يقدم الرجل بصورة ربما تكون مختلفة، وهنا فى «البوابة» أقدم حلقات من كتاب لى تحت الطبع يحمل اسم «وديع فلسطين.. حارس بوابة الكبار الأخير». افتتحت هذا الكتاب بتقديم للرجل يقول فيه: «هذا كتاب عنى فيه كثير من الحقائق التى يجهلها الناس، أرجو أن يلقى من الاهتمام ما هو جدير بالتعب الذى تكبدته الكاتبة حتى سجلت كل هذه الروايات والأحاديث مع تمنياتى لها بالتوفيق والنجاح». خلال فصول الكتاب سنتابع مواقف الرجل من الثورات التى عاصرها، ومن بينها ثورة يوليو 1952 التى لم يُخف حالة الاختلاف معها، أو ما اعتبره البعض عداء، لكن عن نفسى أعتبر أن قدرًا ما هو الذى جعله فى هذا الحين أحد رجالات صحيفة «المقطم» التى كانت لسان حال الاحتلال الإنجليزى. ميراثنا من وديع فلسطين ل «وديع فلسطين» ما يزيد على أربعين كتابا، فى الترجمة والأدب والسياسة والصحافة، كما أنه قام بالعمل فى الترجمة فى مجالات وفروع متخصصة. فى وقت عمله بالأهرام بقسم التوزيع عكف فلسطين على ترجمته الأولى، فبعد ثلاث سنوات من وفاته قدم الأديب السويدى «أوجست سترينبرج» للمكتبة العربية عبر ترجمة مسرحيته «الأب»، والتى يحكى أنه ما أن أكملها حتى توجه بها إلى لجنة النشر للجامعيين، والتى نشرتها فى 1945، لتكون بذلك أول تقديم لهذا العمل المهم، والذى يقدم بعد عقود فى سبعينيات القرن الماضى فى الكويت فى سلسلة من المسرح العالمى، مع مسرحيته الأخرى الشهيرة «مس جوليا». البحث عن هذه المسرحية لن يجدى نفعا، لا سيما أن «فلسطين» نفسه لم يعد لديه أى من أعماله بما فيها هذه الترجمة، لكن فى لحظة لعب فيها الحظ معى وبعد كثير من البحث خرج أمامى فجأة تسجيل نادر عن الإذاعة المصرية.. التسجيل عبارة عن مسرحية «الأب» والتى يمتد توقيتها إلى قرابة الساعتين. وفى التقديم لها صوت المذيع معرفا: «من ترجمة الأستاذ وديع فلسطين، إخراج صلاح عز الدين». بعد إنجازه لترجمة المسرحية بدأ فى رحلة بحث عن ناشر يخرجها إلى النور، ولم يكن وقتها لديه ناشر يتوجه له بها، كما لم تكن له علاقة بمسرحى يتبناها، ويقدمها على المسرح، لكن إعلانا فى الأهرام وقتها (عام 1943) عن رواية «رادوبيس» للأديب الذى سيصل للعالمية فيما بعد، «نجيب محفوظ» عن لجنة النشر للجامعيين، الناشر مكتبة مصر بالفجالة، أدى به للذهاب إلى الدار، ومنها تعرف على نجيب محفوظ، وأصدقائه بعد أن صدر فى الشهرين التاليين لرادوبيس، رواية «ويك عنتر» ل«عادل كامل»، «إخناتون ونفرتيتي» ل«على أحمد باكثير». أحزن وديع فلسطين بشدة مسألة عدم تناول أديب نوبل العالمى نجيب محفوظ اسمه بالذكر، رغم قصة المسرحية التى أدت إلى تعرفه على مجموعة لجنة النشر للجامعيين، فيقول إن محفوظ عندما سئل عن الأدب السويدى وإذا كان قد تعرف عليه أو قرأه، فكان تعقيبه بأنه قرأ مسرحية «الأب»، لكنه لم يذكر اسم المترجم الذى نقلها للعربية، وهو وديع فلسطين خلال المقابلة التى أجرتها معه هيئة الجائزة السويدية بالأساس. لم تكن هذه هى المسألة الوحيدة التى أحزنت فلسطين فى مساره من أديبنا العالمى، فيقول أيضا إنه كان أول من كتب عنه فى الصحافة وهو ما لم يعلنه محفوظ، لكنه أرسل لى قصاصة تعود عمرها لأربعينيات القرن الماضى تؤكد قوله، وسأتناول علاقات وديع فلسطين مع الكتاب والمبدعين فى عصره فى الفصل الأخير، من واقع حكاياته هنا وكذلك مقالات، ومن بينها حكايته مع أديب نوبل العالمى، وقصة لجنة النشر للجامعيين التى سيتعرف فيها أيضا على أحد رفاق عمره، وهو الأديب الراحل على أحمد باكثير. وعقب ذلك صدر له كتابه «قضايا الفكر فى الأدب المعاصر»، طبعة أولى، المكتب الفنى للنشر 1959م، وقد أرسل لى نسخة من الكتاب فى طبعته الثانية، وصدرت فى لبنان عن دار الجديد عام 1994م. وقال لى وقتها صراحة إنها الإصدار الوحيد له المتاح عنده، كونه لم يكن يسعى لأن يؤرشف لديه أعماله، بل إنه أشار إلى أن له الكثير من الترجمات التى بفعل الوضع آنذاك وعدم مقدرته فى نسخ نسخة منها قبل إرساله للجهات المختلفة لم يكن يعرف مصيرها، ولأنه كان منشغلا دوما بما هو جديد فلم يكن يلقى بالا لذلك، وفيما بعد أرسل لى جزءا من مجلد وديع فلسطين وأعلام عصره (فى جزءين)، وأهدانى هجرة الأدباء الشوام إلى مصر. وفيما يلى توضيح لبعض من أعماله المطبوعة، وبعضها لا يحكى عن ناشرها وربما لا يتذكر: - «فلسطين فى ضوء الحق والعدل»، للمشرع الفلسطينى هنرى كتن، ترجمة 1970، طبعة أولى، مكتبة لبنان، وأعيدت طباعته مرات. - تحقيق لديوان «الإنسان الجديد»، أحمد زكى أبوشادي. - تحقيق لديوان «النيروز الحر» أحمد زكى أبوشادى، إضافة إلى ديوانين آخرين له. - مراجعة لكتاب الإمام جعفر الصادق كما عرفه علماء الغرب، ترجمة نور الدين آل على، فى الكويت. - «أوليفروندل هولمز القاضى الشاعر الأمريكى»، ترجمة، مكتبة الأنجلو، 1966. - «على درب الحرية»، ترجمة ذاتية لمارتن لوثر كينج، مكتبة الوعى العربى 1965. - «استقاء الأنباء.. فن صناعة الخبر»، ترجمة، دار المعارف 1960. - «العلاقات العامة فن»، ترجمة، دار المعارف 1959. - «ناجي».. حياته وأجمل أشعاره - «مي».. حياتها وصالونها الأدبي. - «طه حسين». - «عبدالرحمن شكرى»، والأربعة عن مكتبة الفجالة، لصاحبها ابن سلامة موسى. - «تطور صناعة الزيت فى الشرق الأوسط»، ترجمة دار المعارف، 1957. - «مقدمة إلى وسائل الاتصال». - «جزيرة العرب فى القرن العشرين»، للشيخ حافظ وهبة، ترجمة إلى الإنجليزية. - «مختارات من أعلام الشعر المعاصر وكلام فى الشعر»، مركز الأهرام. - «وديع فلسطين وأعلام عصره فى جزءين» - من مقالات وديع فلسطين فى الأدب والتراجم، مكتبة فهد الدبوس للتراث الأدبى - «الكويت فى جزءين» 2012، 2013. - «هجرة الأدباء الشوام إلى مصر»، دار نلسن 2014. كما شارك فى عدد من الموسوعات، منها «الموسوعة العربية الميسرة»، موسوعة الأقباط، وقد صدرت فى 8 أجزاء عن جامعة يوتا الأمريكية، موسوعة «أعلام مصر والعالم»، موسوعة «من تراث القبط»، وهو من ستة أجزاء، راجعه لغويا وطباعيا. عضويات وتكريمات انتخب وديع فلسطين عضوا فى مجمع اللغة العربية فى سوريا فى عام 1986، وفى مجمع اللغة العربية فى الأردن عام 1988، إلا أنه لم ينل عضوية مجمع اللغة العربية المصرى، حيث ترشح له مرارا على مدار عقود دون جدوى، وهو الأمر الذى تسبب له فى غصة كبيرة، كانت تبدو حينما يطرح الموضوع، حتى إنه كان إذا سئل عنه يقول لا أدرى اسألوهم فى مجمع اللغة العربية. وقد سبق أن نال الأستاذ وديع فلسطين جائزة فاروق الأول للصحافة الشرقية فى عام 1949، وكانت لها قيمتها الكبيرة آنذاك كونها الجائزة الأهم فى الصحافة والتى تحمل اسم الملك، وهى عبارة عن خمسين جنيها، وشهادة، فى وقت كان يعمل فى الأهرام بمبلغ شهرى 8 جنيهات، ووقتها قدم له التكريم مندوب الملك كريم ثابت باشا. وإذا بحثنا سنجده أكبر وأقدم أعضاء نقابة الصحفيين، وأكبر وأقدم أعضاء اتحاد الكتاب أيضا، ويحزنه ويصرح عن ذلك فى غير مرة لأن أى منهما لم يتذكره فيكرمه مرة ولو لأنه أقدم الأعضاء وأكبرهم سنا. وقد كرم أيضا فى عدد من العواصم العربية فكرمته اثنينية عبدالمقصود خوجة فى احتفال كبير يليق به، ما زال يحكى عن أجوائه، كلما جاء الحديث عن تكريماته، وكان من بين الهدايا التى منحها فى تكريم الاثنينية لوحة تكريمية كتب فيها اسمه بماء الذهب على قماش أسود مطرز فخم فى هيئته، تقارب فى طولها المتر ونصف المتر وضعها بعناية فى بيته خلال الزيارة الوحيدة التى زرته فيها، وقال بشيء من السعادة، كان احتفاءً رائعا، وقالوا لى إن هذه اللوحة التكريمية مصنوعة من أستار الكعبة، والكتابة بماء الذهب الخالص، وهذا شيء فخم جدا. وكذلك فى التكريم الذى جرى له فى لبنان مؤخرا، والذى جرى على هامشه ندوته التى تحدث فيها عن الشوام وهجراتهم إلى مصر والشخصيات التى رافقها عملا أو صداقة، ومعرفة. أضاف لى مؤخرا أيضا شيئا عن تكريم جرى له فقال «كرمتنى نقابة الصحفيين بدرع، كما كرمتنى الجامعة الأمريكية، بشهادة تكريم». حكاياته وآراؤه المقطم لسان حال الاحتلال البريطاني: انضم وديع فلسطين للعمل فى جريدة المقطم فى العام 1945، ليتدرج فيها ويصبح أحد كتابها النافذين، سألته عن علاقة المقطم بالاحتلال الإنجليزى والاتهامات التى وجهت لها، فقال غير مرة إنها خدمت الكثير من القضايا الوطنية.. وخلال أحاديث متعددة عما قدمته الصحيفة فى الإطار العربى قال بصورة واضحة، إنها قدمت العديد من الرؤى والأطروحات التى دعمت القضية الفلسطينية، ودعمت الدعوات نحو القومية العربية، وكانت داعمة لفكرة إنشاء الجامعة العربية التى كانت حلم العروبة الأهم فى البدايات. خلال أحاديثه لم يقل إن الصحيفة لم تكن لسان حال الاحتلال، ولم يرد على حالات الاتهام الكثيرة التى وجهت نحو الصحيفة، وهى أمور لا يمكن نفيها أو إقصاؤها. وقبل الحديث عن وديع فلسطين وقصته فى عالم صحيفة المقطم، فإن هناك إطلالة لا بد منها فى تاريخ الصحيفة قبل وديع فلسطين، والتى تمتد لنحو 56 عاما. نشأة المقطم فى الرابع عشر من فبراير 1889م صدر فى القاهرة العدد الأول من صحيفة المقطم، لأصحابها «فارس نمر، ويعقوب صروف، وشاهين مكاريوس»، وكان توصيفها كجريدة «يومية سياسية تجارية أدبية».. جاء ذلك فى وقت برزت فيه سياسة الاحتلال الإنجليزى فى إغلاق الصحف الوطنية والتضييق على غيرها، وكانت من الصحف الرئيسية البارزة فى ذلك الوقت «الأهرام»، التى تغير مسارها بعد معارضة الثورة العرابية وانتقاداتها التى وجهت لعرابى ورفاقه إلى صحيفة وطنية تعارض الاحتلال الإنجليزى (1882- 1952) وتقف فى مواجهته بكافة السبل. وخرجت «المقطم» لتكون الناطق بلسان حال المحتل، والصحيفة التى يسعى بها الاحتلال للرد على «الأهرام» بل ومحاربتها، وقد بدت المسألة واضحة حتى من التسمية وتفنيد أصحاب المقطم لها. فى كتابه «المقطم.. جريدة الاحتلال البريطانى فى مصر» يقول دكتور تيسير أبوعرجة «سعى المحتلون أيضا إلى اجتذاب عدد من الصحف نحوهم، ومنها: مرآة الشرق، الاتحاد المصرى، البرهان والزمان التى عاودت صدورها بعد أن عطلها الاحتلال لفترة من الزمن، لكن هذه الصحف لم تكن بالقوة والتأثير الذى يتفق وحجم الأحداث السياسية التى رافقت الاحتلال، وأعماله ومعاركه المنتظرة ضد الحركة الوطنية، فلم تكن هذه الصحف احتلالية خالصة فى ضلوعها مع الاحتلال، ووفق ما يرتئيه رجاله وعميده، فى الوقت الذى اتخذت فيه (الأهرام) موقفا صلبا ضد الاحتلال، فى الوقت الذى كان فيه الاحتلال بأمس الحاجة إلى تثبيت أقدامه فى مصر فى مواجهة السياسة الفرنسية والتركية، ومن هنا كان اهتمام المحتلين بإيجاد صحيفة تنطق بلسانهم وتعادل الأهرام فى قوتها وتأثيرها، وتقف فى مواجهتها، فقد تعجب رجال الاحتلال أنفسهم من تقلب الأهرام وأذهلهم رجوعها إلى صفوف الوطنيين، فعملوا على إصدار جريدة المقطم ليحاربوا بها الأهرام». حكايات فلسطين المتقطعة عن «المقطم» تتمازج، فمرات يحكى عن تسمية المقطم، والتى حكاها مرارا فارس باشا نمر، ليقول إن «المقطم»، ووفقا لرأى سائد وقتها هو الجبل الذى صنعت من أحجاره الأهرامات وبذلك يكون المقطم هو الأساس للأهرام، كإسقاط على جريدة «الأهرام» الرائدة آنذاك. ويشير إلى أنها ومنذ بدايتها بعد مرور الأعداد الثلاثة الأولى، بدأت فى الانتظام فى الصدور بصورة يومية، وكانت صحيفة مسائية، على عكس الصحف المسائية اليومية، تصدر فى الثانية مساءً ليتلقفها الموظفون فى مسار عودتهم إلى منازلهم بعد يوم عمل شاق. وكانت من الحالات الوطنية التى تشير إلى عمالة «المقطم» وقتها للاحتلال الإنجليزى، صحيفة «المؤيد» التى كانت بمثابة لسان حال الحركة الوطنية المصرية، والتى صدرت بعد شهرين من صدور «المقطم»، وكانت تصفها بأنها تقدم دفاعا مستميتا عن الاحتلال، وتتلقى دعما كبيرا من اللورد كرومر. وخرجت «المؤيد» فى الأول من ديسمبر 1889، لتكون أول جريدة يومية يصدرها مصرى بعد الثورة العرابية. ذكرياته مع «المقطم» يحكى وديع فلسطين عن تاريخ «المقطم» معه فى مقال له بعنوان «المقطم بين الجبل والجريدة» أن للمقطم تاريخا معه، بدأ فى حديثه عن المقطم الجبل، وحكايات بين التسلق فى المدرسة الثانوية، وأخرى فى المرحلة الجامعية خلال دراسته بالجامعة الأمريكية، إلى أن يصل إلى جريدة «المقطم»، فيسرد الحكاية كاملة: كنت على موعد جديد مع «المقطم» عندما تركت العمل فى جريدة «الأهرام» التى عملت بها بعد تخرجى فى قسم التوزيع بين عام 1942 و1945، أى منذ 69 عاما، قبل أن يولد جميع العاملين حاليا فى الجريدة، من صحفيين وموظفين وعمال، ثم التحقت بجريدة «المقطم» كواحد من محرريها. وكان يؤرقنى سؤال أحببت معرفة الإجابة عنه؛ ألا وهو: لم أختير جبل المقطم تحديدا ليكون اسما لهذه الجريدة؟ وهى جريدة يومية مسائية سيرتبط بها عملى المهنى فى المستقبل. وتقدمت من الدكتور فارس باشا نمر، الباقى على قيد الحياة من مؤسسى الجريدة الثلاثة، أما زميلاه فقد توفيا، شاهين مكاريوس فى 1910، والدكتور يعقوب صروف فى 1927، فى حين مد الله فى عمر نمر باشا إلى سن الخامسة والتسعين حيث توفى فى ديسمبر 1951، وعنَّ لى أن أسأل الدكتور نمر باشا عما أغراه فى جبل المقطم، فاختاره مع زميليه اسما للجريدة. فقال: عندما جئنا من بيروت إلى القاهرة فى عام 1885 لكى نستأنف إصدار مجلة المقتطف الثقافية الشهرية، اشترينا مطبعة خاصة بالمجلة، واستخدمنا عمالا ومشرفين، ثم اكتشفنا أن المطبعة تنجز المقتطف فى أسبوع، ثم تبقى خاملة بقية الشهر، بينما نتحمل خلاله أجرة العمال والمشرفين، عندئذ قررنا إصدار جريدة يومية مسائية حتى لا نكون فى منافسة مع الأهرام الصباحية التى سبقتنا إلى الصدور بأربعة عشر عاما، واحترنا فى اختيار اسم الجريدة، لكن طرأ علينا خاطران، أولهما أن صاحبيّ الأهرام «سليم وبشارة تقلا» لا يحملان أى درجات علمية، فى حين أن الدكتور نمر باشا والدكتور يعقوب صروف كانا يحملان الدكتوراه من جامعة نيويورك، كما كانا أستاذين فى الكلية السورية الإنجيلية (وهو الاسم القديم لجامعة بيروتالأمريكية)، أى أن أصحاب المقطم على درجة علمية أكبر من صاحبيّ الأهرام، أما الخاطر الثانى فهو أن أهرام الجيزة بنيت من صخور اقتطعت من جبل المقطم، فأردنا أن نقول للناس إن جريدة الأهرام وإن سبقت للصدور فإن المقطم هو الأصل، فمن حجارته بُنيت الأهرام فى الجيزة على أيدى الفراعنة. وقد صدر العدد الأول من «المقطم» عام 1889 واستمرت فى الصدور إلى منتصف نوفمبر 1952، أى أنها عاشت 64 عاما، كانت خلالها الثانية بعد الأهرام من حيث العمر، ولا تقل عنها أهمية. علاقته بكريم ثابت باشا سألته خلال زيارة له فى منزله عام 2014، عن كريم ثابت باشا، وكنت قد قرأت له مقالا قديما فى مجلة الهلال حول رحلته إلى اليمن، ولفتت نظرى كتابته عن رجل قيل إنه سبب نكبات مصر فى المرحلة الأخيرة من عمر الملكية، فحكى لى حديثا طويلا عن هذا الرجل وثقافته الواسعة، وإصراره الكبير الذى عايشه بنفسه، وكيف أنه كان يغطى تكلفة سفرياته بنفسه إلى مناطق مختلفة، من أجل الوصول إلى موضوعات صحفية مختلفة. كان حوارا مطولا ل «وديع» خلال المقابلة، سجلته على جهازى ولم أتمكن من تفريغه، أو نقله إلى جهاز آخر، قبل أن تتم سرقته من قلب «جامعة الدول العربية» أثناء اجتماع لمجلس الجامعة على مستوى وزراء الخارجية، لا زلت أندم عليه خاصة أنه تحدث عن كثير من الأمور، وبتفصيل لم يجرِ من قبل. غير أن ما أذكره بشدة من هذا الحديث، هو الهالة الكبيرة التى وضعها «فلسطين» على «كريم ثابت» وعلى رؤيته وعقله الرصين الذى تعلم على يده الكثير والكثير، مؤكدا على أن أغلب ما قيل عنه هو بالفعل من قبيل الإساءة والتشويه للرجل، الذى ساعده عمله وحضوره لأن يكون مُقربا إلى درجة كبيرة من الملك. ومن حكاياته عنه يقول فلسطين: «كانت له هواية أن يسافر على نفقته الخاصة، يقابل القادة والملوك، ويطلب صورا معهم يوقعون عليها، وربما هذا ما جعل الملك يلتفت إليه، فكان ينشر مقالاته فى الهلال والمصور وحتى فى أخبار اليوم، والحقيقة أن له تاريخا صحفيا مهما وكبيرا قبل أن يتوظف، هذا بالرغم من أنه نشر فى سلسلة «اقرأ» كتابا عن الملك فاروق، وهذا كله أهله ليختاره مستشارا له فى الأمور الصحفية». وعن آخر لقاء جمعه بكريم ثابت يقول كان فى المقطم قبل ما يعتقلونه ويحاكمونه، حتى جاءت جنازته وحكايتها الغريبة التى يرويها بالتفصيل فيقول: عرفت خبر وفاته من الجريدة حيث قرأت فى الوفيات كلمة موجزة وهى ( توفى أمس كريم ثابت.. تشيع الجنازة الساعة.. من كنسية قصر الدوبارة).. وقتها ومن النعى الغريب تأكدت أن المقصود هو كريم ثابت فعلا، وفى الكنيسة جلس إلى جوارى «طاهر الطناحي»، وكان أغرب ما جرى أن القس عندما تكلم عنه قال: «نزولا على رغبة من لا أستطيع لرغبتهم ردا فلن أذكر الفقيد طوال الجنازة».. وظل طوال الوقت يقول الفقيد بدون ذكر اسمه. وقتها قلت للطناحى لو كنت أكتب مقالات الآن لكتبت أن «ثورة عبدالناصر ترتعد فرائصها من جثة مسجاة فى تابوت».. ولم أكتب ذلك طبعا، وقد اضطهدوه حتى آخر لحظة حتى إن أسرته عندما أحبت تعمل «أربعين» له ذهبوا إلى كنيسة أخرى، وحتى يتخلصوا من أزمة ذكر اسم الراحل أتوا بصورة له مجلدة بالسواد حتى يعرف الناس أنهم جاءوا إلى هذا الشخص حتى لو لم يذكروا اسمه.