قال سلمان رشدى علانية دون تردد: الفتوى الخمينية أصبحت ورائى. وفى معظم الحوارات الصحفية التى أجراها أخيرًا، غداة صدور روايته الجديدة «سنتان وثمانية أشهر وثمانية وعشرون يومًا» بالإنجليزية وفى ترجماتها العالمية، أصر على ترديد هذه الجملة، معلنًا خروجه النهائى من حصار الفتوى التى رماه بها الإمام الخمينى عام 1989 والتى أهدرت دمه وأباحت قتله، بل هو لم يتلكأ عن السخرية من رفع سعر قتله فى إيران قبل أشهر، فتخطى سعر رأسه ثلاثة ملايين دولار. وفى رأيه أن السعر هذا يرتفع كما فى مزاد، لا أحد يعلم من وراءه تحديدًا، والغاية هى التهويل. حتى المبلغ ليس معروفًا من سيوفره ولا من سيدفعه. بعد كتابته روايته ما قبل الأخيرة وعنوانها «جوزف أنطون» شعر رشدى أنّ عبء الفتوى الذى أقض حياته ليلًا ونهارًا وأرهقه طوال أعوام، زال فعلاً. كانت تلك الرواية بمثابة فعل «تطهّر» من أحوال الخوف والرعب والقلق التى طاردته، وفيها سرد تفاصيل المحنة التى عاشها شخصًا وكاتبًا منتحلًا ملامح البطل الذى شاءه نسخة عنه، ولكن باسم أجنبى هو جوزف أنطون. شُفى رشدى من حمّى الفتوى الخمينية بعدما أنهى آخر سطر من هذه الرواية الأوتوبيوغرافية، واستعاد السلام الداخلى الذى كثيرًا ما افتقده. ومنذ اختياره العيش فى نيويورك بدءًا من العام 1999، لم يواجه حادثة أو اعتداء، لكنّ ما يزعجه هو نظر القراء إليه وإلى أعماله من زاوية الفتوى. يريد أن يكون الكاتب سلمان رشدى فقط وليس الكاتب الذى حلت عليه الفتوى الخمينية. يهاجم رشدى داعش والقاعدة ودونالد ترامب، وفى نظره أن تنظيم داعش بات فى الرمق الأخير، وسقوطه أضحى وشيكًا، وقد يفقد خلال عام الأراضى التى يسيطر عليها، لكنه لا يبرئ الغرب من التواطؤ فى كل قضايا الشرق الأوسط، ويسترجع ظاهرة الخمينى قائلاً: «لو لم يعمد الغرب إلى خلع الشاه هل كان ليأتى الخميني؟». استعاد رشدى فى أعوام السلام الذاتى والهدوء كيمياء مخيلته، فكتب روايته الجديدة فى جو سحرى ومتوهم، ولكن غير منفصل عن التاريخ والواقع، وليس عنوان الرواية إلا «تفكيكًا» لعنوان «ألف ليلة وليلة» وإعادة كتابته فى طريقة حسابية أخرى، وهذا ما يدل على الأثر الذى تركته فيه حكايات شهرزاد الضاربة جذورها فى سديم الغرائبية الشرقية القديمة. لكنّ رشدى يؤمن أن الأدب الغرائبى يجب ألا ينفصل عن الواقعية، فإذا لم يوجد الواقع تمسى الغرائبية بلا قيمة، ولعل هذه المعادلة هى التى وسمت صنيعه الروائى وجعلته يقترب من الواقعية السحرية فى أمريكا اللاتينية ومن السوريالية الفرنسية والهندية. ومن يقرأ روايته الجديدة يصعب عليه فعلًا تصور ابن رشد الفيلسوف العقلانى والمتنور الذى يتزوج من جنية وينجب منها سلالة. ويصعب عليه أيضًا تخيل مخلوقات بشرية تمشى مرتفعة عن الأرض سنتمترات. لكن الرواية القائمة على التخييل والفانتازيا هى فى الآن نفسه رواية سياسية ومدينية ورواية أفكار. ابن رشد يحضر كفيلسوف صاحب آراء ومواقف تنويرية ويساجل الغزالى فى «تهافت التهافت»، أما العصر الراهن فيحضر بشدة فى الرواية وهو عصر الانحرافات والفضائح، عصر العنف والشر، العصر المتراوح بين نزعتين: العقلانية واللاعقلانية. ولم يكتف رشدى بجو «ألف ليلة وليلة» الغرائبى بل استوحى أيضًا بناءها المتداخل الحلقات لينسج الحكاية من قلب الحكاية. يعى سلمان رشدى خطر الكتابة فى عصر سريع الإيقاع، دائم التحول، حافل دومًا بالمفاجآت واللامتوقع، ويرى أن من الصعب جدًا كتابة رواية قادرة على البقاء فى مثل هذا العصر المتغيّر والمتقلّب. لكنّ هذا العصر الهجين لم تعد تليق به سوى الكتابة الهجينة. إنها الكتابة التى لا حدود فيها بين عمل المخيلة وعمل العقل. لو لم يصدر الخمينى فتواه الشهيرة ضد سلمان رشدى هل كان صاحب «أطفال منتصف الليل» ليتمتع بما يحظى به الآن من شهرة ورواج؟ حتمًا إنّ كتّابًا كبارًا يحسدون رشدى على «هدية» الخمينى التى بدت أكبر كثيرًا من جائزة نوبل وشهرتها. نقلا عن الحياة اللندنية