«اللى معندوش فلوس يموت».. حكمة الأطباء في مستشفيات الحكومة نصائح في التعامل مع «أبوالريش»: لا ترتكب خطيئة البحث عن الدكتور ولا تسأل ممرضة.. واملأ جيوبك بالنقود لتحصل على علاج الوحدة الصحية في المحافظات «ديكور».. والطبيب يشخص حالة 15 مريضًا في الكشف الواحد «أنت شكلك حد على قدك، وعلاج يوسف هيكلفك أكثر مما تطيق، ممكن تبيع اللى وراك واللى قدامك وفى الآخر هيموت».. كانت هذه كلمات أحد الأطباء لوالد الطفل يوسف، في رحلته المرضية التي استمرت أربعة وخمسين يومًا. ربما لن تنقل كلمات الكاتب الصحفى الشاب «سامح فايز» في كتابه الأحدث «رحلة يوسف» معاناته الحقيقية، وآلامه كأب يرى ابنه يموت أمام عينيه وهو عاجز، لا عن انعدام همة أو إرادة، إنما لانحطاط وتهدم المنظومة الطبية في مصر. من أول أخطاء التشخيص مرورا بضيق ذات اليد التي يجد أي من المصريين نفسه أمامها، عندما يمرض وتغلق أمامه أبواب المستشفيات الحكومية، فيجد نفسه مضطرًا للذهاب إلى المستشفيات الخاصة، والتي بدورها تشترط دفع آلاف الجنيهات قبل أن تدخل المريض حدود عتباتها. وإذا نفذ أمر الله وتوفى المريض تحجز جثته ولا يسمحون لذويه بتسلمها إلا بعد دفع ما عليه للمستشفى، ويبقى موت وخراب ديار. ربما كان الدافع الشخصى للكاتب من وراء كتابه البحث عن إجابات حول الموت المجاني، وتعاطى المصريين معه كشيء مسلم به، وأنه إرادة الله دون الأخذ بالأسباب والنتائج، دون البحث عن أزمات القطاع الصحى المصري، ودون محاسبة المسئولين عنه، ودون كبح زمام مافيا شركات الأدوية وسماسرتها، وبلا معاقبة أخطاء كل طبيب لا يذهب إلى وحدته الصحية، أو أخطاء التشخيص التي تؤدى في بعض الحالات إلى الوفاة. رحلة ال 54 يومًا التي استغرقتها حياة الطفل يوسف، كلنا مرشحون لخوضها، كلنا قد نقف موقف سامح فايز ونحن نطأطئ رؤوسنا أمام موظف حسابات، يقتلنا العجز وقلة الحيلة في تدبير مصاريف العلاج في مستشفى خاص، لا لشيء سوى أن المستشفيات الحكومية مكتظة لآخرها، أسرّتها محجوزة لطوابير طويلة من المرضي، الأولوية للحالات الأكثر مرضًا ولا تملك رفاهية الانتظار. إهمال الأطباء وسوء التشخيص عندما تمرض تذهب إلى الطبيب الذي يشخص مرضك، ومن ثم يصف لك الدواء، لكن هذا لم يحدث في حالة يوسف، الذي أودى تراخى الأطباء وأخطاء تشخيصهم بحياته منذ كان جنينًا في بطن أمه، وكانوا يؤكدون له موت ابنه وعليه أن يوفر نقوده، يقول سامح: أخبرنى الطبيب أن ولادة يوسف كانت خطرة، وأننا لو تأخرنا ساعة واحدة عن موعد الولادة لكنا الآن نجرى لإنقاذ الأم فقط، فكان يوسف سيموت في بطنها. «سألت الطبيب كيف أن ثلاثة أطباء رأوها في مستشفى قصر العينى وأخبرونى أنها بحالة جيدة، وطلبوا منى أن أحضر في اليوم التالي، وقالوا إن الأم بخير وإنها ليست في حاجة لمتابعة الآن، ولم يرد». لم يستسلم والد يوسف وخاض معركة التمسك بحياة ابنه للنهاية، وأجرى له جراحة في المخ في يومه الثالث عشر، لكن قبل تلك الجراحة عجز طبيبه المسئول في المستشفى الخاص الكبير عن اكتشاف نزيف في المخ واستسقاء في دماغ الصغير يوسف، بل ضغط على والده ليأخذه من المستشفى بعد أن يوقع إقرارًا بمسئوليته عن ابنه وإخلاء طرف المستشفى. ذهب الوالد بابنه إلى مستشفى أبوالريش مضطرًا، ومن خلال تجربته بهذا المستشفى قدم دليلًا إرشاديًا لمن تحمله أقداره التعسة للتعامل معه، من بين ما جاء فيه: لا ترتكب خطيئة البحث عن الدكتور المسئول في طوابق مستشفى أبوالريش، لا ترتكب خطيئة أن تسأل أي شخص من الموجودين حولك عن أي مسألة مبهمة في أبوالريش فلن يجيبك أحد، املأ جيبك بالعملات الورقية فئة الخمسة جنيهات حين تكون في أبوالريش، إذا كانت لك حاجة تقضيها هناك سوف تعرف سر العملات الورقية وقوتها، لا ترتكب خطيئة الاعتماد على ممرضة في أبوالريش، اعتمد على نفسك وعلى عملاتك الورقية. لم تكن تلك أكبر مشكلات الكاتب في تجربته مع مستشفى أبوالريش، فلو وجدت سريرًا شاغرًا بعد قائمة انتظار طويلة، فلن تجد الدواء في صيدلية المستشفى وعليك الاعتماد على نفسك في توفيره أو توفير بديله. وإذا وجدته في السوق السوداء فلن تجد الطبيب المتابع، ليخبرك أن البديل يلائم حالة المريض، يقول الكاتب: «بعد دقات قليلة على باب الغرفة وجدت طبيبة ولم أجد طبيبا الأمس، أخبرتها الحالة وأعطيتها البديل. فقالت: سيبه وفوت بكرة، الصيدلى مش موجود وهو اللى يحدد البديل ينفع ولا لا، والولد يأخذ جرعة قد إيه من الدواء»، يضيف سامح: «اضطررت للانتظار حتى المساء وبدأ شعورى بالخوف يتزايد، أنتظر في الدور الخامس حضور الطبيب المختص، الإجابة تأتى أن الدواء موافق عليه، أمسك الهاتف سريعا لأطلبه من الصيدلي، لكننى أسمع الرد الذي كنت أخشاه، الدواء غير موجود، لم أخبر الطبيب حتى الآن أن الدواء نفد من الصيدلية، لأنه لم يقدر الوقت أو لأننى لم أجد طبيبًا دائمًا أتفاهم معه في الحالة». أهالي أطفال الصعيد كانت حكاية يوسف ورحلته مع المرض، مفتتحًا ومدخلًا إلى عالم الطب والمرضى في مصر، فالألم يجمع ويوحد الجميع، الفقر والعجز وقلة الحيلة أمام طفل أو قريب لنا أمر مشترك لدى الأغلبية العظمى من المصريين، من الإسكندرية إلى أسوان، وخصوصا في محافظات الوجه القبلي، الصعيد المغضوب عليه منذ مئات السنين، من أول الفقر مرورًا بحرمانه من الخدمات خاصة الصحية. ينقل لنا الكتاب مشهدًا شديد البؤس لأسرة من سوهاج، اضطر أفرادها للمبيت على رصيف مستشفى أبوالريش، التحفوا سماء عارية، فلا هم يملكون رفاهية المكوث في شقة مؤجرة أو النزول في أحد الفنادق، طوال فترة وجود مريضهم بالمستشفى، ولا هم يملكون تكاليف تذاكر السفر من مسقط رأسهم إلى القاهرة، ولا الدولة وفرت لهم مراكز صحية ومستشفيات آدمية. ديكور اسمه الوحدة الصحية الذي لا يعلمه البعض أنه بسبب الضغط على العيادات الخارجية بمستشفيات أبوالريش، تم تقسيم الأيام بينها: عيادة الصدر يومي كذا، عيادة الباطنة يومي كذا، ولو جاء أحدهم في غير تلك الأيام، عليه أن يخوض رحلة حتى يحول إلى عيادة الطوارئ التي تحمل كل التخصصات، لكنها للحالات الخاصة فقط. وعيادة المخ والأعصاب يومى الأحد والثلاثاء، يجب أن يحفظ الأب أو الأم تلك الأيام جيدًا، كانت تلك الملحوظة الواردة في الكتاب عما يلاقيه المرضى في مستشفى أبوالريش، من شدة الازدحام وطوابير الانتظار الطويلة أمام العيادات، والتي تفرض على المريض أن يصل السادسة صباحًا ليقطع تذكرة تضمن له مكانًا في أول الطابور الذي لا ينتهي، أو أن تدفع ثمن زيارة للطبيب في عيادته الخاصة لتحظى بالرعاية المميزة. وإذا كان هذا هو حال مستشفى أبوالريش الموجود في العاصمة، فما بالك بالقرى والنجوع في الدلتا والصعيد للدرجة التي تصل بالطبيب في مراكز ووحدات الصحة، لأن يدخل 15 مريضًا سويًا في مرة واحدة، لا يلمس أحدًا منهم ولا حتى يستعمل سماعته أو يقيس له الضغط، إنما يكتفى بسماع أعراض المرض من صاحبه ويصف له علاجًا لا يوجد في صيدلية الوحدة الصحية. وما بين سبع محافظات سافر إليها الكاتب، ليرصد حكايات المرض والمرضى في صعيد مصر، قرية بركة في الفيوم، قرية الحمام في بنى سويف، قرية أبوعزيز، المنيا، قرية الصوامعة بسوهاج، قرية الشبيكة في كوم أمبو. المشهد واحد لكنه يتكرر من مكان إلى آخر، فتلك القرى محرومة من الخدمات الصحية، وإن وجدت كديكور ممثل في الوحدة الصحية، فهو مهجور لا طبيب فيه، حيث إن أطباء التكليف لا يسافرون لتلك الأماكن البعيدة، وإن ألمت بأحد من أهالي الصعيد أزمة صحية، فعليه أن يقطع مئات الكيلومترات لتلقى الرعاية الصحية. سماسرة الدواء أسعارها فلكية ولا تتوافر أنواع معينة منها ولا حتى بدائلها، فالأدوية هي العاهة المستديمة في جسد قطاع الصحة في مصر، وفى أغلب الأوقات لن تجد الدواء في المستشفى أو الوحدة الصحية الحكومية، وعندما لا تجده حتى في الصيدليات الخاصة الخارجية، تضطر إلى اللجوء إلى سوق الدواء الموازية لكنها سوق سوداء، تتاجر في المرضى وآلامهم. يرصد سامح فايز تلك السوق من خلال عمله كمندوب لإحدى شركات الأدوية، ويشرح آلية تلك التجارة الملعونة: «الدواء الذي طلبه الطبيب يطلق عليه أصحاب هذا المجال «دواء ثلاجة»، لأنه يحتاج إلى أن يظل في درجة حرارة معينة، بعد فتح العبوة تنتهى الصلاحية في فترة محددة. شركات توزيع الدواء الكبرى ترفض استرجاع هذا النوع من الدواء لأنه في الغالب يتلف ويسبب لها الخسائر، بالتالى أصحاب الصيدليات يرفضون اقتناء معظم هذه الأدوية في صيدلياتهم، لأنها تسبب لهم الخسائر إن لم تبع. بعض هذه الأدوية المهمة منع أصحاب الشركات تصنيعها بسبب ارتفاع سعر خاماتها المستوردة، مع الوضع في الاعتبار التسعير الجبرى للدواء ومشقة محاولة رفع سعره، فإن مصانع الأدوية رأت أنه من الأسلم عدم تصنيع دواء خسائره أقرب. وموزعو الدواء الأكبر في مصر لا يستوردون أنواعًا معينة من الأدوية التي يبقى الطلب عليها ضعيفًا، مصنع الدواء وموزعه وبائعه في الأساس جميعهم تجار، يبحثون عن الربح، ولن يسعى أصحاب هذه المنظومة إلى توفير دواء يحتاجه مريض مع العلم أنه غير مربح، ويضيف سامح: من المفترض أن توفر شركات الدواء الحكومية هذه الأدوية عن طريق منافذها في صيدليات الإسعاف. يكمل سامح: عندما بحثت في المسألة عرفت أن الدواء الذي يتلف أو تنتهى مدة صلاحيته قبل بيعه في صيدليات الإسعاف، يتحمل ثمنه أمناء مخازن هذه الصيدليات طبقًا للبيروقراطية الحكومية، وبالتالى لن تجد بعض الأدوية في صيدليات الحكومة لأن الأمناء يعفون أنفسهم من مغبة تحمل ثمن الدواء إن فسد. أزمة نقص الدواء كانت سببًا في إنشاء سوق سوداء بديلة للسوق الشرعية، وهى سوق تقوم على الأدوية التي تأتى مهربة من الخارج دون موافقة وزارة الصحة، وبالتالى دون دفع رسومها. عملت في هذه التجارة أثناء السنوات الأخيرة من دراستى الجامعية، لكننى لم أستمر فيها طويلًا، على الرغم من أرباحها الطائلة، لما لمسته فيها من شبهة اتجار في أوجاع الناس ومخالفة للقانون. التجربة في حد ذاتها كانت مهمة لأعرف كواليس تجارة لا تقل ربحًا عن تجارة المخدرات، تعتمد هذه التجارة على توفير دواء تعجز المؤسسات القانونية أن توفره، وهذه التجارة لها رافدان: الأول هو الدواء المهرب من تركيا والهند «خصوصا السوق الهندية لانخفاض أسعار الدواء هناك» والثانى عرفته أثناء رحلة الكتابة وهم سماسرة الدواء «أشخاص يقفون أمام منافذ صرف الدواء الحكومى» والأدوية هي لمعالجة أمراض خطيرة مثل السرطان لن تجدها سوى في هذه المنافذ، يعرض السماسرة على الفقراء من المرضي، الذين يصرفون هذه الأدوية، شراءها منهم مقابل مبالغ مالية ضخمة بالنسبة إلى المرضي، ثم يعيدون بيعها إليهم عن طريق السوق السوداء. ثالوث الفقر.. والمرض.. والجهل إنه المثلث الجهنمى الذي يدور فيه المصريون منذ مئات السنين، ولا تزال أضلاعه الثلاثة تعصف بهم إلى الآن خاصة في محافظات الجنوب، فهناك ما زال الناس يركنون إلى الغيبيات، وتجاهل الأسباب والأخذ بها، هناك ما زالت البنت عارًا وعورة للدرجة التي لا يأخذونها للطبيب عند مرضها، ما زال هناك من يستغل جهلهم وفقرهم للاحتيال والنصب، ولإقناعهم بأن عللهم وأوجاعهم مس من الجن، ففى قرية «قصر الجبالى» بمحافظة الفيوم كانت انطلاقة الكاتب في تجربته الميدانية الواقعية. وعن هؤلاء المحتالين تحديدًا ينقل الكاتب ما سرده عليه طبيب الوحدة الصحية: لم يعاقب أهل القرية الشيخ، فأهل الله وخاصته لا يجلبون شرًا في معتقدهم، ومظاهر اللحية والمسبحة والمصحف تكفى في القرى لاعتبار أحدهم من أهل الله. أصبحت حكاية مس الجن وظيفة الشيخ، وهو للعلم في منتصف العشرينيات، كان يذهب إليه أهل القرية حاملين النذور، طالبين الشفاء ببركة دعائه، لكن أحدًا لم يشف والمجذوب لم يعد له عقله. وأصبح لدى المعالج بالقرآن دكانة لتجارة المواد الغذائية على شارع الهرم الرئيسى بمحافظة الجيزة، وكل ذلك من أموال أهل القرية، لك أن تتخيل شابًا في تلك السن، وقد اشترى بضاعة بمئات الآلاف، في حين ما زال يعالج بالقرآن، وما زال أهل القرية ينتظرون بركته التي لا تحل أبدًا.