في وسط هذا الفضاء الصحراوي المحيط بوادي النيل ودلتاه لم يكن من المتوقع أن تنشأ عمائر دينية في تلك البيئة القاسية الفقيرة في مياهها ونباتها والمتطرفة في حرارتها؛ شديدة الحرارة نهارًا قارصة البرودة ليلًا، وما من عجب أن تتسم صحرواتنا بهذه الخصائص، فمصرنا تكاد تقع بأكملها في الإقليم الصحراوي ولم يفلت منها سوى أطرافها الشمالية التي نالت نصيبها من مناخ البحر المتوسط. ولا بد من الإشارة إلى مكانة مصر بالنسبة للمسيحية قبل بداية التبشير بها وقبل دخولها إلى مصر على يد مار مرقس الرسول، فقد هربت العائلة المقدسة إلى مصر بوصية من الله "ليوسف" خطيب مريم العذراء آنذاك بأن يأخذ المسيح ذلك الصبي عندما تعرض لخطر هيرودس؛ إذ ورد في الكتاب المقدس أن ملاك الرب ظهر ليوسف في حلم وقال له "قم وخذ الصبي وأمه وأهرب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك؛ لإن هيرودس مُزمع أن يطلب الصبي ليُهلكه" ومن هنا جاءت العائلة المقدسة إلى مصر لتحتمي بها ولتباركها فأصبحت ولا عجب الأرض المباركة والأرض الآمنة، وقد مكثت العائلة المقدسة في مصر فترة تتراوح بين عام وأربعة أعوام إذ اتختلف المصادر في ذلك. جغرافيًا، دخلت العائلة المقدسة إلى مصر من ركنها الشمالي الشرقي قادمة من أرض فلسطين، وكان عمر المسيح آنذاك عامين، وقد مرت العائلة المقدسة بالعديد من القرى والمدن فقد خرجت من بيت لحم إلى غزة ومنها إلى العريش ثم الفرما بالقرب من بور سعيد، ثم انتقلت من شبه جزيرة سيناء إلى دلتا مصر لتمُر بالعديد من المواقع هي: تل بسطا بالقرب من الزقازيق، ومسطرد على بعد 10كم من القاهرة، ومنها إلى بلبيس، وسمنود، وسخا، ثم عبرت فرع رشيد متجهة إلى وادي النيل غرب الدلتا المصرية، ومن وادي النطرون توجهت العائلة المقدسة إلى الوجه القبلي حيث صعيد مصر حتى وصلت إلى المنطقة التي أُنشيء بها الآن دير المحرَّق بالقرب من أسيوط. وأثناء عودتها إلى أرض فلسطين اتجهت أولًا جنوبًا إلى جبل دُرُنكة ومنه عاودت السير شمالًا إلى أن خرجت من مصر تاركة ورائها أماكن مقدسة أقيمت عليها بعد ذلك منشآت دينية مسيحية كالأديرة والكنائس. والناظر إلى خريطة مصر متأملًا خط سير العائلة المقدسة يجدها وقد باركت أقاليم مصر الجغرافية الأربعة؛ فقد مرت بثلاث مواقع في شمال شبه جزيرة سيناء، ومرت بثماني عشر موقعًا في وادي النيل ودلتاه، كما زارت وادي النطرون بالصحراء الغربية، وأيضًا منطقة جبل الطير بالصحراء الشرقية.. إضافة إلى ذلك عبرت فرعي النيل دمياط ورشيد كما عبرت المجرى الرئيسي للنيل أربع مرات: الأولى عند انتقالها من وادي النطرون إلى عين شمس، والثانية عند الانتقال من المعادي إلى البهنسا، والثالثة عند الانتقال من سمالوط إلى جبل الطير، والرابعة والأخيرة عندما انتقلت من جبل الطير إلى الأشمونيين. ولعل الله أراد من ذلك أن يبارك أرضها ومائها، واديها وصحرواتها وشعبها "مبارك شعبي مصر" لقد أراد أن يجعلها لنا حقًا مصر المباركة المحروسة. ومرت الأيام بعد خروج العائلة المقدسة من مصر وكبر الصبي"المسيح"، ومن بعدها بسنوات بدأت تنتشر المسيحية خارجها، وقد لعب الجوار الجغرافي بين مصر وفلسطين دورًا هامًا في انتقال الإيمان المسيحي إلى مصر ويرى البعض أن هناك من المصريين من اعتنقوا المسيحية قبل انتشارها على يد مار مرقس الرسول، ومن هؤلاء ابلوس اليهودي السكندري الذي قبل الإيمان المسيحي حال ظهوره في فلسطين، ووصفه الكتاب المقدس في أعمال الرسل بأنه "حار بالروح يتكلم ويُعلِّم بتدقيق" ولكن وعلى الرغم من ذلك يعد مرقس الرسول أول مبشرًا بالمسيحية في أراضينا المصرية؛ إذ حلَّ عليها في عام 43م. وكان مرقس الرسول ورفيقه بطرس الرسول يبشران بالمسيحية في روما عندما دُعيَّ إلى التبشير بالمسيحية في مصر، فجاء الرسولان مرقس وبطرس إلى مصر وتوجه مرقس إلى ليبيا مبشرًا في موطنه الأصلي بعد أن أسس أول كنيسة بالإسكندرية في عام 43م، ثم عاد إلى مصر مرة أخرى ليكمل تبشيره عام 61م فوجد كنيسته الأولى التي اسسها في الإسكندرية قبل مغادرته لها قد نمت وضمت كثيرين ممن قبلوا هذا الإيمان الجديد الداعي إلى المحبة والسلام. فقام مرقس وأتباعه بانشاء أول مدرسة لاهوتية مسيحية في الإسكندرية، ورسم القسوس لإدارة شئون الكنيسة وبعد استشهاد مرقس الرسول تم اختيار "إنيانوس" ليكون أول البطاركة على كرسي الإسكندرية الذي يشغله الآن قداسة البابا تواضروس الثاني البطريرك رقم 118 على كرسي البابوية.