تحتفل الكنيسة القبطية بعيد التجاء العائلة المقدسة إلي مصر في أول يونيو (24 بشنس) من كل عام، هربا من الطاغية هيرودس.. وتحتفل بهذا العيد الكنيسة اليونانية في 16 ديسمبر ويطلقون عليه «عيد هروب السيدة العذراء إلي مصر»، كما يحتفل به اللاتين في 17 فبراير ويطلقون عليه «عيد هروب سيدنا يسوع المسيح إلي مصر» ونحن نجد سجلا بكل الأعياد القبطية في كتاب «سير القديسين» المعروف ب «السنكسار» الجامع لأخبار الأنبياء والرسل والشهداء والقديسين والقديسات المستعمل في كنائس الكرازة المرقسية في أيام وأحاد السنة التوتية «نسبة إلي توت أول شهور السنة القبطية، وتوت هو إله الحكمة ورب القلم ومخترع الكتابة.. وهو يرسم علي الآثار بصورة طائر اللقلق، أو بصورة إنسان برأس بجع.. وهو هرمس عند اليونان وإدريس عند العرب واخنوخ عند اليهود.. وفي المثل الشعبي «توت.. ري ولا فوت» وذلك لأن هذا الشهر من شهور فصل الزراعة». وقبل أن أحدثك عن رحلة العائلة المقدسة إلي مصر.. أحب أن أحدثك عن قاعة السلام في مقر الأممالمتحدة ويطلق عليها «غرفة التأمل والابتهال». تقول نشرة «الأممالمتحدة» في 13/1/1958: كرست هذه الغرفة للسلام ولأولئك الذين يضحون بالنفس في سبيل السلام. إنها غرفة تمتاز بالهدوء حيث لا تتحدث فيها سوي الأفكار، وهي غرفة مفتوحة لكل من ينشد هدوء النفس وطمأنينتها بالصلاة والدعاء والتأمل. وفي هذه الغرفة يجتمع أهل مختلف الأديان يبتهلون إلي المولي تعالي أن يعمم السلام والإخاء في الأرض. وفي وسط الغرفة صخرة تسقط عليها أشعة الضوء الخافتة فتملأ النفس تلك السكينة التي تقربنا إلي الخالق، والحجر القائم في وسط الغرفة إنما هو رمز السلام، ويذكرنا بكل بما هو ثابت وطيد الأركان.. وهذا الحجر يذكرنا بثبات العقيدة وقوة الإيمان. وعلي الحائط الأمامي للغرفة قام فنان سويدي برسم لوحة عبارة عن أشكال هندسية توحي بالتزام الصمت والسكون. وقد افتتحت الغرفة للأعضاء والزائرين في مقر الأممالمتحدة في شهر أكتوبر 1952.. وزارها من ذلك الحين مئات الألوف من معتنقي مختلف الأديان لتأدية الصلاة أو التأمل أو الابتهال أو للإعراب عن تأييدهم قضية السلام». من قديم الزمان كانت مصر الملجأ الأمين لكل من يقصدها هربا من الظلم والطغيان والاستبداد.. كما كانت - أيضا - مركزا علميا وفنيا وحضاريا، يقصدها الفلاسفة والعلماء والفنانون للبحث والدراسة.. ولعلنا هنا نفهم لماذا أطلق علي مصر «أم الدنيا».. وتؤيد هذه الحقيقة نبوات العهد القديم: «مبارك شعبي مصر» (أشعياء 19:25) و«من مصر دعوت ابني» (هوشع 11:1). ولد السيد المسيح في بيت لحم الذي يقع جنوب أوشليم، ويبعد عنها ستة أميال. ولد في مزود يعطيه القش الذي تفترشه الحيوانات وتأكل منه. ولد بعد رحلة شاقة قامت بها العذراء مريم ويوسف النجار بمناسبة الإحصاء الذي أمر به أغسطس قيصر. وكان الشتاء في ذلك الوقت من السنة قاسيا قارسا. ولقد أخبر المجوس هيرودس بميلاد طفل سيكون ملك اليهود، ولما كانت الأمهات في ذلك الوقت يرضعن أطفالهن لمدة سنتين، فقد أصدر هيرودس أمره أن يقتل كل أطفال بيت لحم من ابن سنتين فما دون. وفي إنجيل متي نقرأ: «لما انصرف المجوس إذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف في حلم قائلا: قم وخذ الصبي وأمه واهرب إلي مصر، وكن هناك حتي أقول لك، لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه». فقام وأخذ الصبي وأمه ليلا وانصرف إلي مصر، وكان هناك إلي وفاة هيرودس، لكي يتم ما قيل بالنبي القائل: «من مصر دعوت ابني»، ومن بين الأناجيل الأربعة، متي ومرقس ولوقا ويوحنا، ينفرد الإنجيل متي بذكر وقائع رحلة السيد المسيح إلي مصر.. ولكنها لا تذكر تفاصيل هذه الرحلة.. الطريق الذي سلكته العائلة المقدسة.. ومتي بدأت هذه الرحلة ومتي انتهت.. ولكننا نعتمد في معرفة هذه التفاصيل علي رؤيا البابا ثيوفيلوس بابا الإسكندرية الثالث والعشرين (385 - 412م) التي رآها في ليلة السادس من شهر هاتور (15 نوفمبر). وهاتور هو الشهر الثالث من السنة القبطية، نسبة إلي هاتور - صخور - إلهة الحب والجمال في مصر القديمة وتصور علي هيئة امرأة برأس بقرة، وتقابل عند اليونان أفروديت.. ويقول المثل المصري: «هاتور أبوالدهب المنتور» والذهب هنا هو القمح، ويقول مثل مصري آخر «إن فاتك زرع هاتور اصبر لما السنة تدور». ولقد سجل السنكسار «القبطي» رؤيا الباب ثيوفيلوس، حيث ظهرت السيدة العذراء وروت له - حسب طلبه - تفاصيل هذه الرحلة، خرجت العائلة المقدسة من بيت لحم ليلا، وسلكت طريقا غير الطريق المعروف خوفا من مطاردة هيرودس.. ودخلت مصر عن طريق صحراء سيناء من جهة الفرما - بين العريش وبورسعيد ووصلت إلي مدينة بسطة بالقرب من الزقازيق، وكان الوقت ظهرا، وأرشدها رجل طيب من أهالي بسطة إلي إحدي ضواحي المدينة، حيث وجدت شجرة مكثت تحتها أياما.. وفي هذا المكان استحم السيد المسيح، وسمي المكان «المحمّة»، ويسمي الآن مسطرد.. ومن المحمّة رحلت العائلة المقدسة إلي بلبيس حيث استظلت تحت شجرة يطلق عليها الآن «شجرة العذراء»، وبالقرب منها يدفن المسلمون موتاهم تبركا واحتراما لهذا المكان. اتجهت العائلة المقدسة، بعد ذلك، إلي مدينة جناح - منية سمنود - ثم عن طريق النهر اتجهت إلي سمنود ومنها إلي البرلس ثم إلي قربة شجرة التين.. ثم إلي المطلع.. حيث عبرت النهر غربا إلي سخا «ايسوس»، ويقال إن السيد المسيح وضع قدمه علي حجر، فترك أثر قدمه عليه، وسمي المكان «كعب يسوع» - سخا - وقد اختفي هذا الحجر الآن. ثم سارت العائلة المقدسة غربا - مقابل وادي النطرون - الاسقيط - «وتعني ناسك باليونانية، نظرا لوجود عدد كبير من النسّاك في هذا المكان»، وبعد ذلك اتجهت إلي عين شمس حيث كانت توجد أون «هليوبوليس» المعروفة في العهد القديم، حيث قامت جامعة أون «عين شمس»، ويعرف هذا المكان بالمطرية، واستظلت تحتة شجرة تعرف إلي الآن بشجرة مريم.. ثم سارت جنوبا إلي الفسطاط - بابيلون في مصر القديمة - وسكنت العائلة المقدسة المغارة التي توجد الآن بكنيسة سرجيوس المشهورة بأبي سرجة، حيث بقيت أسبوعا، ثم اتجهت إلي منف (التي ذكرت في الكتاب المقدس باسم نوف واسمها بالهيروغليفية «من نفر» وتعني «الميناء الجميل» وتسمي الآن «ميت رهينة»). وفي مركب شراعي في البقعة التي تقوم عليها الآن كنيسة العذراء بالمعادي اتجهت العائلة المقدسة إلي الصعيد حتي البهنسا في مكان يدعي «اباي ايسوس» - بيت يسوع - حيث أقامت أربعة أيام.. ثم عبرت النيل شرقا إلي جبل الطير - شمال سمالوط «يقال إن صخرة كبيرة كادت تسقط من الجبل علي مكان العائلة المقدسة فمد يسوع يده ومنع الصخرة من السقوط، وانطبعت كف يسوع علي الصخرة، وصار الجبل يعرف باسم جبل الكف، والكنيسة التي أقامتها الملكة هيلانة باسم العذراء مريم تدعي كنيسة سيدة الكف»، ثم اتجهت إلي الأشمونيين بمركز ملوي، ثم سارت إلي قرية فيليس «ديروط الشريف»، وبعد عدة أيام اتجهت إلي القوصية «كانت تدعي قسقام» ثم إلي ميرة «مير الحالية»، ثم إلي جبل قسقا حيث يقوم الآن دير السيدة العذراء المعروف الآن ب «الدير المحرّق «كل هذه التفاصيل المتعلقة بالرحلة من كتاب «الدير المحرّق» الذي ألفه الأنبا غريغوريوس «أسقف عام الدراسات العليا والثقافة القبطية والبحث العلمي سابقا». وفي جبل قسقام بني الشيخ البار يوسف النجار بيتا صغيرا من الطوب وغطاه بأغصان النخيل، وفي هذا البيت البسيط عاشت العائلة المقدسة ستة شهور وعشرة أيام. وكان الدير المحرق هو آخر بقعة بلغتها العائلة المقدسة في رحلتها التاريخية. ويقول المؤرخ المصري «المقريزي» (ت 1441م) في خططه عن الدير المحرق: «تزعم النصاري أن المسيح عليه السلام أقام في موضعه ستة أشهر وأياما، وله عيد عظيم يجتمع فيه عالم كثير». وتذكر مصادرنا التاريخية والكنسية أن يوم 6 بابة هو اليوم الذي رحلت فيه العائلة المقدسة من جبل قسقام وتلقت فيه أمر الملاك غبريال أو «جبرائيل» بالعودة إلي أرض فلسطين و«شهر بابة هو الشهر القبطي الثاني نسبة إلي حابي أو هابي إله النيل.. ويقولون في الأمثال: «بابه.. خش وأقفل البوابة».. وذلك إشارة إلي البرد. وفي ميمر البابا تبتوخلس الثالث والعشرين تقول السيدة العذراء تخاطب البابا «.. وبعد ذلك أقمنا مدة يا توفلس إلي تمام الستة شهور وعشرة أيام حيث كان دخولنا هذا الموضع في السابع من شهر برمودة (15/4) وقيامنا منه في السادس من شهر بابة». كان الباب تيئوفيلوس (384 - 412م) قد صلي صلاة طويلة لله مستعينا بشفاعة أم النور مريم، فظهرت له العذراء القديسة استجابة لصلواته، وذكرت له أنباء الرحلة المباركة التي قامت بها العائلة المقدسة من فلسطين، وطلبت إليه أن يسجل ما رأي وما قالت فامتثل لطلبها وكتب هذه الرؤيا، فأصبح كتاب البابا تيئوفيلوس أهم وثيقة يعتمد عليها في أخبار هذه الرحلة، وهذا الميمر لا يوجد منه الآن باللغة العربية إلا ثلاثة مخطوطات أحدها محفوظ بكنيسة الفاتيكان والثاني بالمكتبة الأهلية بباريس والثالث بمكتبة الدير المحرق «كما يقرر المؤخر اميلينو «Amelinean». ومات هيرودس بعد مذبحة الأطفال بقليل، وقبل موته حاول الانتحار، ومات أشنع ميتة . فلما مات هيرودس إذا ملاك الرب قد ظهر في حلم ليوسف النجار في مصر قائلا: «قم وخذ الصبي وأمه واذهب إلي أرض إسرائيل، لأنه قد مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبي». فقام وأخذ الصبي وأمه وجاء إلي أرض إسرائيل، ولكن لما سمع أن أرخيلاوس يملك علي اليهودية عوضا عن هيرودس أبيه، خاف أن يذهب إلي هناك. وإذ أوصي إليه في حلم.. انصرف إلي نواحي الجليل، وأتي وسكن في مدينة يقال لها ناصرة، لكي يتم ما قيل بالأنبياء.. إنه سيدعي ناصريا» (متي: 2/12 - 15، 19 - 23).