كنيسة أبوسرجة لم تفكر مريم كثيرا جمعت حاجيتها القليلة، لا تلوي علي شيء إلا إنقاذ وليدها، ربما كانت تتبع خطوات جدها الكبير إبراهيم أبي الأنبياء، الذي حل بمصر هربا من القحط، فالملاحظ الصلة العميقة بين أنبياء الأسرة الإبراهيمية ومصر، بداية من إبراهيم الذي جاء إلي مصر باحثا عن الأمن والغذاء، وهنا تعرف علي هاجر التي أنجبت له إسماعيل أبي العرب، فيما عادت سارة من مصر لتحمل في إسحق (إسرائيل)، وقصة يعقوب وابنه يوسف أشهر من أن تروي وتبين كيف لجأت أسرة يعقوب إلي مصر حيث حققت الكثير من النجاح ووصل ابنها النبي يوسف إلي أعلي مراتب الدولة فكان المسئول عن خزائن الأرض، وزاد عدد بني إسرائيل في مصر، وبعد فترة من الزمن، نزل الوحي علي موسي النبي يأمره بالخروج ببني إسرائيل من مصر، هاهو المسيح وأمه يعود من جديد إلي بلاد النيل. (وإذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف في حلم قائلا: قم وخذ الصبي وأمه وأهرب إلي مصر. بدأت الرحلة من أرض فلسطين، ثلاثة أشخاص ومعهم حمار وقليل من الزاد، مريم تركب الحمار وتضم وليدها إلي صدرها، تخشي عليه من خطر يتهدده، فيما سار يوسف النجار جانب الحمار ممسكاً بمقوده حسب التقاليد المتبعة، ولم تكن الرحلة إلي أرض مصر سهلة، بل جاءت رحلة شاقة مليئة بالآلام والمشاق التي يشيب لهولها الولدان، عبروا صحراء سيناء في وقت كانت الصحراء قفراء لا يعبرها إلا الرجال الأشداء في مجموعات كبيرة طلبا للحماية، وتقليلا للمخاطر، في مواجهة وحوش ضارية وسباع مفترسة وقطاع طرق لا يعرفون رحمة أو شفقة، لو نظر إنسان لهذه المجموعة الصغيرة لأيقن بهلاكهم فلا سبيل لهم ولا قدرة علي عبور هذه الصحراء، لكن رعاية الله كانت معهم، الرب يحميهم بعين لا تنام، خاصة أن العائلة المقدسة لم تتخذ أيا من الطرق المعروفة في سيناء وفضلت أن تبعد عنها خوفا من عيون الملك هيرودس. توجه الركب إلي مدينة الفرما «بلوزيوم» التي تقع أطلالها الآن بين مدينتي العريش وبورسعيد، ومنها دخلت العائلة المقدسة مدينة تل بسطا (بسطة) بالقرب من مدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية، وكانت المدينة أحد المراكز الرئيسية لعبادة الآلهة المصرية القديمة، وبمجرد دخول السيد المسيح المدينة سقطت تماثيل الآلهة القديمة، وهو ما اعتبره أهل المدينة فألا سيئا فرفضوا استضافة العائلة المقدسة، فقررت العائلة مواصلة الترحال صوب الجنوب طلبا للتخفي بعيدا عن أعين مطارديهم. تركت العائلة المقدسة تل بسطا خلفها ويممت وجهها صوب مدينة مسطرد (المحمة)، الواقعة في محافظة القليوبية، ووفقا للرواية الكنسية فقد توجهت العائلة المقدسة شمالا نحو مدينة بلبيس (التي تعد الآن عاصمة محافظة الشرقية)، واستظلت العائلة المقدسة عند شجرة، عرفت باسم «شجرة العذراء مريم»، وظلت محل تقدير من المسلمين والمسيحيين علي حد سواء.. ومن بلبيس رحلت العائلة المقدسة شمالاً وعبرت النيل إلي مدينة سمنود في قلب الدلتا، وهناك استقبل أهل المدينة المسيح وأمه بكل ترحاب فباركهم المسيح، قبل أن يتجهوا إلي مدينة سخا، ومنها عبرت العائلة المقدسة فرع رشيد إلي غرب الدلتا، وتحركت جنوباً إلي وادي النطرون، وقد بارك السيد المسيح المكان، وربما يفسر هذا ضمن أسباب أخري كثيرة سبب تفضيل الرهبان لوادي النطرون للتعبد والابتعاد. ومن وادي النطرون ارتحلت العائلة المقدسة جنوبا إلي منطقة التقاء الوادي بالدلتا في المنطقة التي ستعرف بعد نحو ألف سنة من زيارة المسيح باسم «القاهرة»، وبالقرب من هذه المنطقة توجه السيد المسيح والسيدة مريم ويوسف النجار صوب مدينة «أون» (عين شمس الحالية). وبعد المطرية توجهت العائلة المقدسة صوب منطقة مصر القديمةعلي كل حال استقر المقام بالسيد المسيح وأمه بالمدينة لعدة أيام، وأقاموا في كهف أقيمت عليه كنيسة القديس سرجيوس (أبو سرجة) فيما بعد. ثم واصلت العائلة المقدسة رحلتها يدفعها الأمل في النجاة، والبحث عن مكان يلم شتاتها بعد طول ترحال، فتوجهوا جنوبا وأقلعت من منطقة المعادي في مركب نيلي صوب الصعيد. غادرت العائلة المقدسة منطقة جبل الطير وعبرت النيل من الناحية الشرقية إلي الناحية الغربية، واتجهت نحو الأشمونين، ومنها توجهت صوب ديروط الشريف وبعدها قرية قسقام التي رفض أهلها أن يضيفوا السيد المسيح، فخرج هو وأمه إلي بلدة مير، ورغم أن أهالي القرية استقبلوا العائلة المقدسة بالترحاب، إلا أن السيدة العذراء التي أخذ بها التعب والجهد بعد طول الأسفار وطي البلدان، قررت الاستقرار بعض الوقت في جبل قسقام، ومكثت العائلة المقدسة في مغارة الجبل نحو ستة أشهر. سحبت الأم وليدها وعادت من حيث أتت، مشت علي ضفاف النيل صعودا حتي بلبيس شرقا ومنها إلي فلسطين، تركت العائلة المقدسة مصر بعد إقامة دامت لنحو ثلاثة أعوام، قطعت ما يقرب من 2000 كيلو متر، بين ركوب المراكب النيلية والمشي في البراري والصحاري، انتهت مغامرة العائلة المقدسة في مصر، لكن المغامرة الكبري لم تنته بعد، فقد عاد المسيح إلي مصر مرة أخري هذه المرة لم يكن بجسده ولكن بتعاليمه التي نشرها القديس مرقص الإنجيلي مؤسسًا لكرسي كنيسة الإسكندرية أحد أهم كراسي البطريركية في العالم المسيحي كله.