لا تقتصر خطورة الهجوم الإرهابي الذي وقع في الساعات الأولى من صباح اليوم في مدينة نيس الفرنسية، على عدد الضحايا الذي وصل إلى نحو 84 قتيلًا و100 مصاب، حيث يحمل الهجوم عددًا من الدلالات المهمة التي تجعله نقطة تحول في تاريخ الإرهاب العالمي، وفي مسار تنظيم داعش الذي تبدو بصمته واضحة على الهجوم رغم عدم إعلان مسئوليته رسميًا حتى الآن. فيكشف الحادث عن تعمد تنظيم داعش استخدام أساليب مبتكرة في إثارة الرعب؛ فبينما كشفت السلطات الفرنسية أن الشاحنة التي تم دهس المواطنين الفرنسيين بها كانت تحتوي على أسلحة ومتفجرات، فإن سائقها عمد إلى دهس الضحايا بشاحنته على مدى كيلومترين، وهو ما خلف عددًا ضخمًا من الضحايا قد يفوق عدد ما يسببه هجوم مسلح أو عملية انتحارية، ويثير الذعر من إمكانية شن العمليات الإرهابية بأبسط الوسائل المتاحة. وتبدو تلك الوسيلة الجديدة في القتل والتنكيل بالضحايا تنفيذًا لإحدى طرق القتل التي نصح بها التنظيم بالفعل في أكثر من إصدار مسموع ومرئي، سواء لأبي محمد العدناني المتحدث باسمه أو في إصدارات المكاتب الإعلامية لفروع التنظيم حول العالم، حيث حمل عدد منها التحريض ما اعتبره التنظيم "التنكيل بالكفار بكل وسيلة متاحة، سواء كانت الذبح أو الطعن أو الدهس بالسيارات أو السم أو حتى "البصق في وجوههم". وأشارت التحقيقات في هجوم نيس إلى استخدام منفذ العملية للسلاح في قتل بعض المحتفلين بعد الدهس، وهو ما يلقي الضوء على استخدام داعش في الفترة الأخيرة لإستراتيجية جديدة في العمليات الإرهابية، تعتمد على تنفيذ العمليات المركبة باستخدام أكثر من وسيلة، كالسلاح والدهس في حالة هجوم نيس، أو تلجأ إلى الهجمات التتابعية التي اصبح التنظيم يعتمد عليها بشكل كبير في العراق، من خلال عمليتين انتحاريتين متتاليتين للإيقاع بأكبر عدد ممكن من الضحايا، أو تزامن عملية انتحارية مع هجوم لإحدى المجموعات على مقر قوات معادية. ويكشف الجانب الآخر تعمد التنظيم عدم مهاجمة الأعداء الحقيقيين للعالم الإسلامي، وإنما أعدائه هو من الدول الغربية التي تحاربه؛ فبينما يشكل الكيان الصهيوني العدو الأول للدول العربية والإسلامية، ولا تكف التنظيمات الإرهابية عن الترويج لفكرة السيطرة على الدول العربية تمهيدًا لتحرير فلسطين، فإن التنظيم لم يقُم منذ انطلاقه في أواخر 2013 بأية عمليات تستهدف دولة الاحتلال أو المستوطنات الإسرائيلية في فلسطين. وليحفظ داعش ماء وجهه ادعى المسئولية عن عملية شنها الاستشهادي الفلسطيني نشأت ملحم في الأول من يناير 2016، واستغلت إسرائيل الفرصة وأعلنت الشرطة أن منفذ العملية ينتمي لتنظيم داعش؛ لينكشف كذب الطرفين من خلال عدة دلالات للحادث. حيث لم تتبن القنوات الرسمية للتنظيم العملية وإنما روجت لعلاقتها بها قنوات مؤيدة له، كذلك كشفت مواقع إسرائيلية أن الحادث يحمل طابع الانتقام من إسرائيل، حيث تم سجن ملحم في 2006 لمدة خمس سنوات، لمحاولته سرقة سلاح جندي إسرائيلي لتنفيذ عملية انتقامًا لمقتل أحد أقاربه برصاص الشرطة الإسرائيلية، والذي تحل الذكرى العاشرة له في ذات يوم تنفيذ الهجوم. وتشير الوسيلة الجديدة التي استخدمها داعش في القتل، وهي الدهس بالسيارة، والوسائل الفردية الأخرى التي استخدمها مناصرون لداعش في الدول الغربية خلال الفترة الماضية، إلى أن سهولة تلك الوسائل تجعل تنفيذ عملية داخل الكيان المحتل أمرًا لا يصعب على التنظيم. ورغم ذلك، يدعي التنظيم أنه لا يستطيع تنفيذ عمليات في إسرائيل وأنه يحتاج إلى تمويل عناصره هناك بالتبرعات، وأطلق حملة باسم "جهزونا" في نهاية 2015 لجمع التبرعات لمقاتليه في غزة. والطريف أن تلك الحملة لم تهدف بالأساس إلى محاربة المحتل بل إلى "جهاد الكافرين وفرض الإسلام"! والدلالة الأخرى المهمة التي تتعلق بهجوم نيس، أن داعش نفذ عددًا من العمليات الخطيرة في الدول الغربية في الفترة الأخيرة، وروّج لأن منفذيها مناصرون للتنظيم يتصرفون بشكل فردي، وابتكر مصطلح "أنصار الخلافة" أو "جنود الخلافة" للتعبير عنهم، وهو ما أثار الرعب بين أوساط المحللين من ظاهرة الإرهابيين الذين لا ينتمون بشكل رسمي للتنظيم بل يتصرفون على أساس تأثرهم به، وبالتالي لا يمكن توقعهم أو توقع شكل الهجمات التي يقومون بها. ولكن تلك العمليات حملت أدلة خفية على صلة مباشرة بين منفذيها وتنظيم داعش؛ ففي الحادث الأخير بفرنسا حملت الشاحنة كمية من الأسلحة والمتفجرات، يصعب أن يوفرها المنفذ منفردًا دون معاونة التنظيم. وفي الهجوم على ملهى المثليين في مدينة أورلاندو الأمريكية تمكن عمر متين من قتل نحو 50 شخصًا وإصابة 53 آخرين واحتجاز رهائن بسلاح ناري واحد، وهو ما يبدو مستحيلًا دون تدريب هذا الإرهابي على القيام بعملية بهذه القوة. أما في حادث طعن الشرطي الفرنسي وزوجته في باريس فقد أدلى منفذها عبد الله العروسي بمعلومات تخص تنظيم داعش، في مقطع فيديو قام بتصويره قبيل مداهمة الشرطة لمنزله وبثته القنوات الرسمية التابعة للتنظيم، ومنها أن التنظيم "عنده مفاجآت لمباريات كأس الأمم الأوروبية (يورو 2016)". ويوضح نشر التنظيم للفيديو تواصله المباشر مع العروسي. ويؤكد ذلك التواصل بين منفذي الهجمات الفردية وداعش أن التنظيم يمتلك خلايا خفية واسعة الانتشار في الدول الغربية، تتمكن من تجنيد الأشخاص ذوي التاريخ العدواني أو الإجرامي أو المتطرف دينيًا وتوفير التدريب والسلاح لهم. كما يدلل وجود تلك الخلايا بشكل خاص على ضعف سيطرة الأجهزة الأمنية، التي لم تتمكن من منع دخول الأسلحة والمتفجرات والكشف عن الخلايا الإرهابية الخفية. وفي هذا السياق كشفت صحيفة "تايمز" البريطانية، في أبريل الماضي، أن وزارة العدل البريطانية أجرت تحقيقًا سريًا حول دور الأئمة الذين توظفهم الوزارة لتقديم الوعظ والإرشاد للسجناء الإسلاميين. وأوضحت نتيجة التحقيق أن الأئمة يقومون بتسريب كتيبات متطرفة داخل السجون، ويجمعون التبرعات لجمعيات خيرية على صلة بالإرهابيين. ورغم أن الهجوم الأخير لم يكن الأكبر في عدد الضحايا من القتلى والمصابين، إلى أنه نجح للمرة الأولى في تاريخ الإرهاب العالمي في فرض ما يشبه حظر التجول في دولة أوروبية، حيث طالبت السلطات الفرنسية المواطنين بالتزام المنازل عقب الهجوم. كما يحقق فائدة عظيمة أخرى لداعش تتمثل في ضرب أحد أكبر المراكز السياحية الفرنسية. ويشكل ذلك تحولًا هائلًا في مسار التنظيم الذي بدأ يحقق سيطرة حقيقية داخل أوروبا من خلال عمليات "الذئاب المنفردة"، بعدما كانت عملياته في الغرب مجرد استهداف للشهرة في حين يسيطر واقعيًا على الدول العربية رغم التراجع المستمر لنفوذه فيها، ويبدو أن داعش قرر مواجهة تراجعه وإثبات وجوده والحفاظ على تقدمه على التنظيمات الإرهابية الأخرى من خلال جزء كبير من نقل ثقله العملياتي إلى الخلايا الأوروبية. ويضيف العقيد حاتم صابر، خبير الإرهاب الدولي والمحاضر بأكاديمية ناصر للعلوم العسكرية العليا، أن هجوم نيس جاء خلال حالة من التراخي الأمني الفرنسي، الذي أعقب تشددًا أمنيًا خلال مباريات كأس الأمم الأوروبية، وهو ما يؤكد أن اختيار الهدف ومعاينته واختيار التوقيت المناسب أمنيًا جاء من قبل أجهزة مخابرات دولية دقيقة، وليس من مجرد فرد أو تنظيم إرهابي. وتابع، أن "التنظيمات الإرهابية بشكل عام صنيعة المخابرات الغربية، توجهها وفقًا لمصالحها، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي جاء بسبب كثرة الخلايا الإرهابية وتوغلها داخل المجتمع الأوروبي، وهو ما يهدد الحدود البريطانية". معتبرًا أن حادث اليوم أتى ضمن مخطط لتفكيك الاتحاد الأوروبي بالكامل، ودفع فرنسا إلى الخروج منه بعد بريطانيا، وذلك لمصلحة الولاياتالمتحدة وإسرائيل بعد اختلاف مصالحهم مع أوروبا. وأوضح صابر أن المصالح اختلفت بين الطرفين، رغم اتفاقهما السابق على إحالة العالم العربي إلى حالة الفوضى خلال فترة ثورات الربيع العربي، لأن خطتهما كانت لإشغال العرب بأنفسهم ثم انقلبت عليهم، بانتقال مشكلة اللاجئين إلى أوروبا. وبالتالي أصبحت القارة الأوروبية في حاجة إلى تغيير سياستها الداعمة للاضطرابات العربية حتى تحافظ على مصالحها وأمنها.