يمكن أن تقبل القرآن كعلاج نفسى، بنفس الدرجة التي ترفضه كعلاج عضوى.. اللعب في المساحة النفسية أكثر منطقية. سمعتها أول مرة وأنا في الكتَّاب، قالها الشيخ عبدالجواد محفظ القرآن: «لما باكون تعبان نفسيا باقرأ القرآن، عمرى ما قريته وأنا تعبان إلا وبقيت كويس». هذا المعنى البسيط ظل ملازما لى، أحيانا كنت أدخل في نوبات نفسية سخيفة، ضيقا وإحباطا ويأسا واكتئابا، وتحلو لى الحالة، فلا اقترب من القرآن، لأننى كنت على يقين أننى لو قرأت الآيات والسور التي أحبها وأفضلها، سأخرج من حالتى، لم أجرب هذا كثيرا بالطبع، ولا أستطيع أن أحسمه، لكن تجارب الآخرين تقول ذلك. كثيرون حاولوا أن يفتحوا ملف العلاج النفسى بالقرآن، لكن لم يكن لهذا المجال نجوم كثيرون. ■ ■ ■ عندما تفتش مثلا في المكتبة العربية ستجد بعض المحاولات. في العام 1962 صدر في القاهرة كتاب «القرآن وعلم النفس» مؤلفه هو عبدالوهاب حمودة، وهو كتاب لا تتوفر نسخ كافية منه، وإذا حاولت أن تعثر عليه ستجده في المكتبات الجامعية على الأرجح، فقد نفدت نسخه، ولم تقدم دور النشر على طباعته بعد ذلك. صدر بعد ذلك كتاب «ملامح علم نفس إسلامى» لمحمد ماهر عمر، ثم كتاب حسن محمد الشرقاوى «نحو علم نفس إسلامى» في العام 1983، وهو الكتاب الذي عرض له الدكتور مصطفى محمود عرضا مطولا في أحد مقالاته الصحفية، ثم ضم المقال إلى كتاب عنوانه «من أسرار القرآن»، ثم وضع بعد ذلك كتابا كاملا في العام 1998 اسمه «علم نفس قرآنى جديد». توالت الكتب بعد ذلك، فصدر كتاب محمد عثمان نجاتى في العام 1987 واسمه «القرآن وعلم النفس»، وفى العام 1990 أصدر الدكتور محمد المهدى أستاذ الطب النفسى الشهير كتابه «نحو علم نفس إسلامى.. العلاج النفسى في ضوء الإسلام»... وبعد ما يقرب من اثنى عشر عاما وتحديدا في العام 2002 أصدر كتابه المهم «سيكولوجية الدين والتدين». في العام 1993 صدر كتاب لرشاد على عبدالعزيز موسى اسمه «علم النفس الدينى.. أساليب العلاج النفسى في ضوء القرآن والسنة النبوية»، وفى العام التالى مباشرة 1994 صدر كتاب محمد يوسف خليل «تلاوة القرآن الكريم وأثرها على اطمئنان النفس»، وفى العام 1996، صدر كتاب «علم النفس القرآنى والتهذيب الوجدانى» لعبدالعلى الجسمانى، وفى العام 2006 صدر كتاب «الإعجاز العلمى للقرآن الكريم في علم النفس والتحليل النفسى» لمحمد رمضان محمد. لن نتوقف بالطبع عند كل هذه الكتب، كان تسجيلها هنا مجرد إشارة إلى أن هناك من اهتم وبحث في هذه الزاوية المهمة، التي أعتقد أن أسرارها لا تزال كثيرة، ورغم كل ما كتب فيها إلا أنها يمكن أن تفصح عن الكثير. ■ ■ ■ ما رأيكم أن نتوقف عند محاولة حسن محمد الشرقاوى، صاحب كتاب «نحو علم نفس إسلامى»؟ في هذا الكتاب يسعى صاحبه إلى عرض وجهتى نظر العلم والدين في «النفس» التي يعتبرهما الكثيرون لغزا عصيا على الفهم. بالنسبة للشرقاوى لا ينظر العلماء إلى النفس إلا من خلال العيوب والأمراض والآفات والعلل، ولا يفتشون إلا في الانحرافات والتشوهات والعقد، ولا يقدمون لنا شيئا إيجابيا عن النفس السوية الصحيحة، كما أن المنبع الوحيد للسلوك عندهم هو إشباع شهوة، والمرجع الرئيسى الذي يفسر به فرويد جميع التصرفات هو عقدة أوديب وألكترا، وهى شهوة الطفل في أن يعاشر أمه وشهوة البنت في أن تعاشر أباها، وهى هلوسة سمعها من مرضاه الهستيريين فجعل منها تهمة عامة ألصقها بالكل، ومن هنا كان الإحساس بالذنب عند فرويد مرضا، والتوبة نكوصا، والندم تعقيدا، والصبر على المكاره برودا، وقمع الشهوات كبتا له عواقبه الوخيمة. يرى الدين، طبقا لما يراه الشرقاوى، الأمر على عكس ذلك تماما، ففى الدين قمع الشهوات شاهد على سلامة النفس واقتدارها، والإحساس بالذنب علامة صحة، والتوبة تدل على فطرة سوية أدركت الله، وعرفت أنه دائما مع الحق والخير والعدل. لا يرى الدين أن النفس محض فجور، بل يصفها بأنها قابلة للفجور وللتقوى، وأن الله ألهمها فجورها وتقواها معا، فهى تستطيع أن ترتقى في معراج نورانى نحو الله، أو أن تتهابط سفليا في درك الشهوات، وهى في ذلك مخيرة، وكل إنسان يتصرف على شاكلته. الأحلام كانت مساحة للمقارنة أيضا، فهى عند فرويد لا تمثل إلا جانبا جنسيا حسيا شهوانيا، فالأحلام كلها إشباع لرغبات مكبوتة، وهى تحرس النوم بهذا الإشباع المتجدد الذي يريح النفس من أشواقها الملحة فتسترسل في نومها. في القرآن الوضع مختلف تماما، فالأحلام فيه نوعان، نوع يطلق عليه «أضغاث أحلام» وهو حديث النفس الأمارة بشهواتها ورغباتها أو حديث الشياطين إلى تلك النفس أثناء النوم، وهو ما اشتغل فرويد بتفسيره، والنوع الثانى هو الرؤى التي تأتى إلى النفس، من الملأ الأعلى، وتكون حديثا من الله إلى نفس النائم أو حديثا من الملائكة المكلفين إلى تلك النفس، ومثال ذلك الرؤى الصادقة التي تتحقق بحذافيرها ونصها، ولا مكان لهذه الرؤيا عند فرويد، بل إن نظريته تعجز كما يقول الشرقاوى تماما عن تفسيرها، مع أنها خبرة عادية عاشها كل منا وجرب طرفا منها. ويختلف العلم عن الدين في علاج الأمراض النفسية. ففى الوقت الذي يرى فيه العلم أن النفس لا يمكن تبديلها أو تغييرها جوهريا، لأنها تأخذ شكلها النهائى في السنوات الخمس الأولى من الطفولة، ولا يبقى للطبيب النفسى دور سوى إخراج المكبوت إلى الوعى، أو فتح نوافذ للتنفيس والتعبير وتخفيف الغليان الداخلى، وللوصول إلى ذلك يلجأ الطبيب النفسى إلى العلاج بالتحليل أو بالإيحاء أو بالتنفيس أو بالفن أو باللعب أو بالاستغراق في عمل آلى. للعارفين بطبيعة الأمور، كل هذه الصور من العلاج النفسى أشبه بعلاج السرطان بالمراهم أو المسكنات؛ لأنها لا تحاول أن تغير من النفس شيئا، فكلها تقبل وجود الدمل النفسى على حاله، ثم تقول للمريض: اصرخ أو غن أو ارقص لتنفس عن آلامك، أو تضع اليد على الدمل وتقول للمريض: هذا هو الدمل.. ولا يجدون شيئا يقولونه بعد ذلك. الدين لديه وصفة مختلفة، فهو يقول بإمكانية تبديل النفس وتغييرها جوهريا، ويقول بإمكانية إخراجها من الظلمة البهيمية إلى أنوار الحضرة الإلهية، ومن حضيض الشهوات إلى ذروة الكمالات الخلقية، وذلك كله من خلال الرياضة والمجاهدة. وحتى لا تتعامل مع ما يقوله الشرقاوى على أنه مجرد كلام إنشائى، اسمع له وهو يقول لك: هذا العلاج بالطبع يتم على خطوات. الخطوة الأولى هي تخلى النفس عن عاداتها المذمومة، وذلك بالاعتراف بالذنوب والعيوب وإخراجها إلى النور. الخطوة الثانية هي التوبة وقطع الصلة بالماضى والندم ومراقبة النفس فيما يستجد من أمور ومحاسبتها على الفعل والخاطر. الخطوة الثالثة هي مجاهدة الميول النفسية المريضة بأضدادها، وذلك برياضة النفس الشحيحة على الإنفاق وإكراه النفس الشهوانية على الدفع، ودفع النفس الأنانية إلى البذل والتضحية، وحث النفس المختالة المزهوة على التواضع والانكسار واستنهاض النفس الكسولة إلى العمل، وبمعالجة الضد بالضد تصل النفس إلىالوسط العدل، وهو صراط الحكمة، وهو حظ الكاملين من البشر. يمكنك أن تسأل عن ذروة العلاج النفسى في الإسلام، يقول الشرقاوى عن ذلك إنه «الذكر»: ذكر الله بالقلب واللسان والجوارح والسلوك والعمل، واستشعار الحضرة الإلهية على الدوام وطول الوقت في كل قول وفعل، وفى الذكر شفاء ووقاية وأمن وطمأنينة، لأن الذكر يعيد الصلة المقطوعة بين العبد والرب، ويربط النفس بمنبعها ويرد الصنعة إلى صانعها، حيث هو الأعلم بعيوبها والأقدر على علاجها. إذا عرضنا ما قاله الشرقاوى في كتابه على طبيب نفسى الآن، سيتعامل معه على أنه مجرد كلام إنشائى، لا يقدم ولا يؤخر، ظاهره كلام منمق وجميل ورائع وراق تماما، فحتى لو افترضنا أن الدين يقدم لنا هذا العلاج النفسى، فلابد له من إجراءات وتدريبات، فتغيير جوهر النفس ليس أمرا هينا ولا سهلا. ■ ■ ■ المفاجأة أن الدكتور مصطفى محمود الذي كانت له محاولة لتفسير القرآن بما يتناسب مع العصر، التقط ما كتبه الشرقاوى، وتعامل معه على أنه ترسيخ ل «علم نفس قرآنى». حاول مصطفى محمود أن يضيف لما بين يديه، لخص الحالة النفسية السوية التي يخلقها القرآن في النفس من خلال آياته في الآتى، يقول: «كلما ترك المؤمن شهوة من شهواته وجد عوضا لها حلاوة في قلبه، مما يلقى من التحرر الداخلى من أغلال النفس، ومما يجد من النور في بصيرته، وهو يترك السعى إلى الحظوظ للسعى إلى الحقوق، ويترك الدعاوى إلى الأوامر، يترك أهواء النفس إلى وجه الحق، ويكف عن التلهف والحركة وراء الأغراض والمناصب والرياسات والمغانم ويسكن إلى جنب الله.. فهل بعد الله مغنم». ويضيف مصطفى محمود: «القارئ للقرآن الكريم بخرج بعلم نفس قرآنى متميز بديع ومتفرد في تربيته للمسلم، وليس عجيبا أن القرآن الذي أقام حضارة وصنع تاريخا، أن يقيم إنسانا ويربى نفسه سوية متفردة في تكاملها ويشرق عليها بسكينة لا مثيل لها». ■ ■ ■ إلى جوار كل هذه المحاولات كانت هناك محاولة من الدكتور جمال ماضى أبوالعزايم الذي كتب عن «القرآن والصحة النفسية».. وهو كتاب صدر في العام 1994، سجل فيه تأملاته في الآيات القرآنية المتعلقة بالصحة النفسية، وأعتقد أنه كان تطويرا للورقة التي قدمها في العام 1978 لمؤتمر كلية التربية بالرياض عن الإسلام والصحة النفسية، ونسج فيها العلاقة التي تربط القرآن بعلم النفس والعلاج النفسى. في تقديمه لدراسته يقول أبوالعزايم: «كنت إبان دراستى في سنوات حياتى الأولى شغوفا بقراءة القرآن، وقد حفظت منه عدة أجزاء، ومنذ بدء الدراسة في كلية طب القاهرة، وجدت أن القرآن قد سبق العلماء في كثير من الحقائق العلمية، وأنه كتاب يحوى كنوزا شتى، وبدأ تدبرى فيه وقراءة التفاسير المختلفة في آياته، وكتبت عدة مقالات عن إعجاز القرآن العلمى نشرت بالصحف الدينية، وبعد تخصصى في الطب النفسى وجدت أن كتاب الله يعتمد في طريقة هديه اعتمادا تاما على مخاطبة النفس الإنسانية وإقناعها وإصلاحها وتطويرها، كما تبين لى أن كثيرا من الحقائق النفسية التي نشرت بالغرب تجد أصولها في القرآن، فزاد اهتمامى بجمع الآيات التي تتحدث عن علم النفس وعن الصحة النفسية». تناول الكتاب تقليدى إلى حد كبير، لا يمكن أن تتعامل معه على أنه تفسير للجوانب النفسية في القرآن الكريم، حرص مؤلفه على أن يربط فروض الدين كلها بالراحة النفسية، وعليه فهو كتاب وعظى أكثر منه كتابا علميا، لكنه على أية حال أدخل القرآن إلى مساحة جديدة، وهى مساحة العلاج النفسى. ■ ■ ■ من المحاولات المهمة في هذا السياق كتاب الدكتور محمد عثمان نجاتى «القرآن وعلم النفس»، ولاحظ أن هناك كتبا كثيرة صدرت بهذا الاسم، وعندما تتصفحها ستجد كثيرا منها صدى لبعضها البعض. في كتاب نجاتى الذي صدر عن دار الشرق في العام 1982، وصدرت طبعته الرابعة عشرة في العام 2014، فصل كامل عنوانه «العلاج النفسى في القرآن».. يعتمد فيه على أن في القرآن طاقة روحية هائلة ذات تأثير بالغ الشأن في نفس الإنسان، فهو يهز وجدانه، ويرهف أحاسيسه ومشاعره، ويصقل روحه، ويوقظ إدراكه وتفكيره، ويجلى بصيرته، فإذا بالإنسان بعد أن يتعرض لتأثير القرآن يصبح إنسانا جديدا، كأنه خلق خلقا جديدا. يسند نجاتى ظهره إلى أنه بذلت جهود كثيرة في ميدان العلاج النفسى للأفراد الذين يعانون من اضطرابات الشخصية والأمراض النفسية، وظهرت في هذا الميدان أساليب مختلفة للعلاج النفسى، غير أنها جميعا لم تحقق النجاح المرجو في القضاء على الأمراض النفسية أو الوقاية منها، فقد بينت الدراسات أن معدلات الشفاء بين المرضى النفسيين الذين يعالجون بطريقة التحليل النفسى تتراوح بين 60٪ و64٪، وهى معدلات غير مرضية، إذا وضعنا في اعتبارنا أن معدلات المرضى النفسيين الذين يتخلصون من أعراضهم دون أن يتلقوا أي علاج نفسى تتراوح بين 44٪ و66٪، ثم إن كثيرا منهم كانت حالتهم تسوء بعد العلاج النفسى. وكما شكك نجاتى في أساليب العلاج النفسى في القضاء على الأمراض النفسية، شكك كذلك في نظرة المدارس المختلفة للعلاج النفسى لطبيعة الدوافع الأساسية المحركة للسلوك، وإلى طبيعة التهديدات المثيرة للقلق، والمسببة لنشوء أعراض الأمراض النفسية والعقلية، فاختلاف هذه النظرة يجعل من الصعب الوصول إلى اتفاق عام بين هذه المدارس المختلفة حول نظرية متكاملة في الشخصية وتوافقها، وفى العوامل المسببة لسوء التوافق، وفى أساليب العلاج النفسى، فكل مدرسة من هذه المدارس تنظر إلى الإنسان من زاوية معينة محددة، ولم تستطع أن تنظر إليه نظرة كلية شاملة، وهو ما جعلها عاجزة عن فهم الإنسان فهما سليما ودقيقا. لم يفعل صاحب «القرآن وعلم النفس» ذلك كله إلا ليصل إلى نتيجة واحدة، وحتى لا يشكك أحد في دوافعه وانحيازه، فقبل أن يقول إن العلاج النفسى الصحيح في القرآن والإيمان، يقول: «أشار كثير من المفكرين الغربيين في العصر الحديث إلى أن أزمة الإنسان المعاصر إنما ترجع أساسا إلى افتقار الإنسان إلى الدين والقيم الروحية، فقد أشار المؤرخ أرنولد توينبى إلى أن الأزمة التي يعانى منها الأوروبيون في العصر الحديث إنما ترجع في أساسها إلى الفقر الروحى، وإن العلاج الوحيد لهذا التمزق الذي يعانون منه هو الرجوع إلى الدين». ويعلق نجاتى على ذلك بقوله: «إن للإيمان تأثيرا عظيما في نفس الإنسان، فهو يزيد من ثقته بنفسه، ويزيد قدرته على الصبر، وتحمل مشاق الحياة، ويبث الأمن والطمأنينة في النفس، ويبعث على رحة البال، ويغمر الإنسان بالشعور بالسعادة». ■ ■ ■ أعرف أطباء كثيرين يعتمدون على المداخل الإيمانية لعلاج مرضاهم، يحدث هذا باجتهاداتهم الشخصية، وانطلاقا من ثقافتهم الدينية، إلا أننا لا نملك حتى الآن تفسيرا واضحا للجوانب النفسية في القرآن، ومن يدرى، فقد يقدم أحدهم على هذا العمل، فيصبح عندنا وقتها محاولة مكتملة لتفسير نفسى للقرآن، بدلا من هذه المحاولات الكثيرة غير المكتملة.
