ربما يكون المصريون الشعب الوحيد فى العالم الذى يستخدم لفظة «العيش» للدلالة على الحب، فى إشارة واضحة للحياة كما كان لدى أجدادنا الفراعنة، حيث عرف باسم «عنخ» أى حياة، وربما كانوا وحدهم، بخلاف شعوب الأرض، الذين يقسمون به، كما أن السعى نحو الرزق يسمونه أكل عيش، ورغم ذلك فإنه يعرضه على الأرصفة مكشوفا معرضا لكل أنواع التلوث، بينما يضع الأحذية فى واجهات المحلات، ويزينها ويغلفها وهى الظاهرة التى استرعت انتباه كل من مر بشوارع مصر وميادينها. ويقدس المصرى الخبز ويعتبر أنه من المحرم وطأه ولو لقمة داسها دون قصد يستغفر الله بعدها، وإلى اليوم ما زالت سيدات الريف لا يقمن بطقس الخبيز إلا طاهرات تماما فلا تكون حائضا أو جنبا، وعلاقة المصريين بالخبز قديمة وممتدة من قبل الميلاد، ففى خريف عام 2005 اكتشفت بعثة آثار أمريكية تعمل فى منطقة الأهرامات، أقدم مبنى إدارى لبناة هرمى خفرع ومنقرع على بعد 500 متر جنوب تمثال أبوالهول شيد قبل نحو 4500 عام. البعثة الأمريكية التى ترأسها مارك لينر، عثرت على بقايا المبنى شرق منطقة عمل البعثة المصرية فى مقابر العمال، وكانت البعثة قد كشفت عن جزء كبير من المبنى الملكى، وهو عبارة عن سور من الحجر طوله 48 مترا باتجاه شرق-غرب، ويتضمن المبنى المكتشف منطقة لتخزين الحبوب كحصص للمخابز، حيث عثر على أقدم مخبز ووجدت داخله أواني وأدوات كانت تستخدم فى إعداد العجين وخبيزه، وكان ينتج نوعا من الخبز يسمى بالخبز الشمسى الذى ما زال يستخدم حتى الآن فى بعض قرى صعيد مصر، الاكتشاف الذى اعتبره الدكتور «زاهى حواس» الأول من نوعه فى الكشف عن مخبز كبير بهذا الشكل، مزود بالأوانى التى نعرفها فى الريف الآن باسم الماجور، بالإضافة إلى الأوانى التى كانت تستعمل فى صنع الخبز. وفى دراسة له نشرت فى الأهرام عام 2000، يذكر زاهى حواس التطابق التام بين طريقة الخبيز التى عرفها المصرى القديم ومكوناته وتوارثها أحفاده حتى اليوم: قام المصرى القديم بتصوير عملية الخبيز كاملة من بداية عمل الخميرة حتى تقديم الخبز فى النهاية، وهذه أول مرة نجد مناظر كاملة لصناعة الخبز وقد استطاعت الجمعية الجغرافية فى واشنطن، أن تدرس هذه المناظر بالإضافة إلى دراسة أخرى لشكل المخبز الذى عثر عليه، وقام بعض الخبراء بتنفيذ نفس العملية التى قام بها المصرى القديم منذ4600 عام. وفعلا جاءت النتائج متشابهة مع ذلك النوع المعروف فى ريف الصعيد باسم العيش الشمسي. وقد عرف الخبز فى الدولة القديمة بعلامة هيروغليفية، تمثل نصف رغيف دائرى الشكل يشبه العيش البلدى فى شكله الحالي، فضلا عما كان شائعا من أرغفة مثلثة وأخرى فى شكل بيضاوى أو مستطيل أو مخروطي، وعرف المصرى القديم أربعة عشر نوعا من الخبز، مازال بعضها منتشرا فى قرى مصر مثل البتاو والعيش الشمسي، وكان القائمون على العمال بناة الأهرام يقومون بإعداد الخبز وتوزيعه على العمال مع الثوم والبصل. من الضرورى ألا يعجن الدقيق بماء مالح حتى لا يكون طعم الخبز مرًا وتتم عملية العجن مساء ليصبح العجين وقد اختمر، وينبغى أن يجيد العجان عجن العجين، وأن يلقى فيه الملح والخميرة بقدر، وقد خضعت عملية الخبز للرقابة من قبل المحتسب، وتضمنت الالتزام بأمور منها: نظافة العجان وسلامته ولا يسمح له أن يعجن بقدميه ولا ركبتيه، لأن هذا يعد ازدراء للنعمة، الحرص على عدم تساقط شيء من عرق إبطى العجان وبدنه وإلزامه بارتداء ثوب من غير كُم، وأن يكون ملثما إذ ربما يعطس أو يتكلم فيتناثر بصاقه أو مخاطه فى العجين، أن يحلق شعر ذراعيه وإبطيه لئلا يسقط شيء منه فى العجين، ولا بد أن يكون بجانبه مساعد فى يده (منشة) لطرد الذباب أو أي من الهوام كما يجب تنظيف المواجير عقب العجين كل يوم. وكان هناك أناس بعينهم تخصصوا فى العجن بحسب الجبرتى: و«منصور بن حسن العجان» يؤجر نفسه للعمل لرجل يدعى أبى النصر أحمد وكان رقاقا (يصنع الرقاق) ليلا ونهارا طوال شهر رمضان بأجر قدره 5.5 نصف فضة فى نهاية اليوم والليلة، وقد وضع له صاحب العمل شرطا جزائيا ينص على أنه متى عطل عن العمل كان عليه القيام بدفع عشرة دنانير. وقد انتشرت الأفران العامة التى حظيت بالعناية والاهتمام بعمارتها، فى الغالب كانت تجاور الطواحين، منها ما ذكره المؤرخ «جمال محمود» عن فرن فى الإسكندرية كان قد استأجره خبازان مغربيان من مدينة فاس بإيجار شهرى 16 بارة. وامتلك الشيخ عبدالله الشرقاوى العالم الشهير الذى عاصر الحملة الفرنسية، فرنًا للخبز التركى فى الأزبكية، وقد صدر له قرار فى عهد محمد على بعدم التعرض لهذه الطابونة أو البائعين التابعين له إكرامًا لحضرة الأستاذ. وقد شاع تأجير الأفران فى العصر العثماني، ولم يكن هذا النشاط بعيدا عن المرأة، حيث نجد امرأة تدعى عزيزة ابنة عبدالقادر تستأجر فرنًا فى بولاق بما فيه من قاعة للعجن والمنافع الأخرى، بإيجار قدره دينار ذهبى سلطانى وأربعة أنصاف، وقد ضمنها فى الأجرة أحد الخبازين كما التزمت بما يحتاجه بيت النار بالفرن من التبليط وغيره. وقد تنوعت فئات الخبازين فكان منهم مصريون وشوام وأرمن ومغاربة وفرنسيون وقبارصة وهؤلاء تخصصوا فى صناعة الخبز للأوروبيين وهى عادة خاصة لأن له صناعة خاصة، فقد أدخل فى صناعته مواد أخرى كالحمص وغيرها، وأشرف على صناعته نائب قنصل البنادقة. ويتجمع الخبازون أحيانا فى أماكن خاصة بهم، حيث كانت لهم حارة بالمنصورة تسمى بحارة الخبازين. وقد وصف الرحالة الإيطالى «فانسيلبو» الخبز بقوله: «خبزهم لذيذ فى المدن ولكن سيئ على الأرجح فى القري، بسبب عدم توفر أفران فى كل مكان ولذا أحيانا يلزم على المسافرين أكل الفطير وهو خبز مطبوخ تحت الرماد». وكانت عملية الخبز تخضع لمنظومة يأتى على رأسها شيخ الطائفة، وقد انتمى لهذه الطائفة النساء مع التسليم بدور الخبازات النساء فى البيوت فى المدينة أو الريف، إلا أن وجود خبازة تنتمى لطائفة الخبازين فهو جديد يؤكد اضطلاع المرأة العاملة بدور مهم فى ذلك العصر حفظت لنا الوثائق اسم «سورباى بنت عبدالله الجركسية» عرفت بانتمائها ل «طائفة الخبازة».