كنا قبل ثورة يناير 2011 نعيش فى ظلام دامس، فكان قيام الثورة فى ذلك الوقت بمثابة بزوغ الفجر، غير أننا لم يتبين لنا الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر بسبب ضباب كثيف أعمى عيون الناظرين، وهو الفتنة التى وقعت بفعل فاعل من الخارج بين المصريين، ثم كان قيام ثورة يونيو 2013 بمثابة شروق للشمس، غير أننا وإن كنا نرى الآن ضوء النهار إلا أننا لم نر بعد قرص الشمس، ولم نر له أى شعاع بسبب ازدياد كثافة الضباب بصورة غير مسبوقة فى مصرنا المحروسة. لم يجعلنا الضباب فى الثورة الأولى نستمتع ببزوغ الفجر، ولم يجعلنا فى الثورة الثانية نفرح بشروق الشمس، فلقد كان بمثابة ستار يحجب الرؤية وحال فى كل ثورة بين عيوننا وكل مظاهر الجمال الحلوة. إنه يغشانا كقطع الليل المظلم، وكلما ظننا أنه بدأ ينقشع نجده يزداد كثافة مع الأسف، لكن الضباب لن يستطيع بمشيئة الله الصمود لوقت طويل أمام أشعة شمس النهار، سيتبدد كما تبدد من قبل الظلام، وسنرى من بعد الليل الطويل والضباب الكثيف قرص الشمس الجميل، وسنعمل كلنا لنهضة بلدنا تحت أشعة الشمس، الفلاح فى الحقل والرئيس فى القصر والمهندس فى الموقع والموظف فى المكتب وكل راع من أجل رعيته وبلده سيعمل، سنعمل حتى تصبح بلدنا مصر أقوى وأغنى قطر، وحتى نستغنى كشعب عن كل الخلق، سنعمل بيد ونحمل السلاح بيد ضد من يريد لبلدنا الشر، سنعمل من أجل أن نخرج بلدنا من عنق زجاجة الدول المتخلفة، لتسبح كما ينبغى لها فى فضاء الدول المتقدمة بقوة حتى تصير فى المقدمة. حينما تكون المسائل الهندسية صعبة ومستعصية ولا تكفى معطياتها وحدها لحلها، فإننا يجب أن نعمل عملًا كأن نصل بين نقطتين خطًا أو أن نسقط عمودًا من نقطة مثلًا حتى يتيسر لنا الحل بمشيئة الله عز وجل، ومشاكل مصر الحالية أشبه بالمسائل الهندسية المستعصية، لا تكفى معطياتها وحدها لحلها، ولهذا يجب علينا أن نحلها بفكرة من إبداعنا وابتكارنا، ونحن نستعين بالله خالقنا ليباركها، وإن حدث أن فعلنا ذلك بعناية وخرجت مصر من عنق الزجاجة فإن بلدنا فى تلك اللحظة تكون أمامها فرصة كبرى لأن تكون إحدى الدول العظمى بشرط أن تحسن فيها كل سلطة استغلال تلك الفرصة. فمصر التى يلقبها العالم بأم الدنيا، لأنها أقدم وأول دولة تمكنت من صناعة حضارة عظمى قادرة اليوم على استعادة مجدها السابق وصناعة حضارة رائعة أخرى تجعلها بين الأمم فى عصرنا الحالى دولة عظمى متقدمة، ولدينا من المؤهلات الحقيقية والجينات الحضارية ما يمكننا من استعادة مكانتنا الماضية. هناك مثل إنجليزى يقول: «الحديقة الأجمل هى التى فى الجانب الآخر من السور»! أى أن الحديقة الأجمل ليست هى حديقتى التى تقع بين فيلتى والسور المحيط بها، وإنما هى حديقة جارى التى على الجانب الآخر من سورى، ذلك لأن من عادة المرء أن يزهد فيما يملك، ويتطلع إلى ما متع الله به أناسًا غيره. وهذه هى نظرة الكثيرين من أبناء بلدنا الذين يرون أن بلادًا أخرى غير بلادنا هى المؤهلة أكثر منا لتكون دولًا عظمى. ولهؤلاء أقول: «الحديقة الأجمل ليست حديقة غيرنا، وإنما هى حديقتنا التى تقع داخل محيط سورنا، نعم فمصر تملك مؤهلات كبرى تمكنها من صناعة نهضة عظمى فى مجالات شتى إدارية وعلمية واقتصادية وصناعية وزراعية وهندسية وفنية وأدبية ورياضية، وأولى هذه المؤهلات فى بلدنا هى عقول أبنائها، ألم تعترف أمريكا ذات يوم بأن عالمنا المصرى الدكتور أحمد زويل يعد واحدًا من بضعة عشر عالمًا منهم ألبرت أينشتاين ومارى كورى هم الأفضل والأشهر على المستوى العالمى صنعوا النهضة الحالية للولايات المتحدة الأمريكية؟ عندنا مؤهلات كبرى بشرية وعسكرية واستراتيجية وجغرافية واقتصادية... إلخ لصناعة حضارة عظمى تاريخية كالتى صنعها أجدادنا والتى تعد آثارها فى بلادنا وثائق تاريخية على أننا كأحفاد لأولئك الأجداد نحمل ولا ريب ذات الجينات الحضارية. ليس الضباب عائقًا أمام تحقيق هذا الإنجاز، لأنه لن يستطيع بمشيئة الله أن يصمد طويلًا أمام أشعة وحرارة شمس النهار، وإنما يوجد عائقان آخران هما الظلم الاجتماعى والفساد اللذان لم تتمكن من القضاء عليهما ثورتان. إننا نحتاج إلى ثورة ثالثة، لكنها هذه المرة ثورة تقوم بها السلطة فى الدولة على الفساد ولضبط ميزان العدل الاجتماعى الذى مال حتى أوشك على الانقلاب.. ثورة دون مظاهرات.. ثورة تشريعية وقضائية وإدارية على كل مظاهر الفساد المتفشية فى الأجهزة والمؤسسات، وعلى كل أسباب اختلال العدل الاجتماعى بين الناس.. ثورة تقوم بها سلطات الدولة الثلاث. ولأن لكل وقت آذانا، ولكل مقام مقالا، فإنى لا أظن أن ثورة السلطات الثلاث يمكن أن تتم فى العهد الحالى، وإنما ستتم إن شاء الله فى عهد تالٍ.. ذلك لأن أولى الأمر لا تشغلهم فى الداخل مثل تلك الثورة وإنما تشغلهم فى الخارج أمور أخرى يظنون اليوم أنها أولى وأجدى.. لأنها تصارعهم كدوامات وأعاصير فى بحر الحياة تريد أن تغرقهم، وسفينتهم مصر فى الماء تقبرهم تحت فى القاع، بينما السفينة تشق طريقها بنجاح عبر جبال وأودية الأمواج.. ويقترب منها شاطئ الأمان كما توضع فوق سطحها أجهزة الجى بى إس وشاشات الرادارات.. ولما ترسو السفينة إن شاء الله على بر الأمان ستشرع سلطاتها الثلاث فى القيام بالثورة الثالثة داخلها ومن ثم الإصلاح.