إعداد: ياسر الغبيري إشراف: سامح قاسم "لقد تلقفوني فور عودتي من دمشق وأرسلوني.. لكن مهلا، ليس في معتقل من المعتقلات الحكومية المعروفة والمزدحمة بالنزلاء، وإنما في مستشفيات المجانين، مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية!!...المهم أنني خرجت من مستشفى الأمراض العقلية بمعجزة حطاما أو كالحطام! خرجت إلى الشارع.. إلى الجوع والعري والتشرد والبطالة والضياع وإلى الضرب في جميع أقسام البوليس المخلص في تنفيذ أغراض الأعداء والمحسوب علينا من المصريين أو نحن العرب! خرجت أدور وأدور كالكلب المطارد بلا مأوى، بلا طفلي وزوجتي.. وظللت مجمدا محاصرا موقوفا. وبعيدًا عن مجالات نشاطي كمؤلف مسرحي ومخرج وممثل، وبعيدًا عن ميادين النشر كشاعر وناقد وزجال ومؤلف أغان"! بهذه الكلمات وصف عملاق شعر ومسرح ستينيات القرن الماضي نجيب سرور، حاله التي يرثى لها في رسالة استغاثة أرسلها إلى يوسف إدريس، قبيل فترة قصيرة من وفاته. ميلاد الأسطورة كان مشوار حياة الشاعر والكاتب المسرحي والناقد والمترجم الكبير نجيب سرور مثال لحياة الكفاح والنضال التي مر بها كل المناضلين المصريين، في مقاومتهم للحكم الديكتاتوري والسلطوي وللظلم والقهر الذي كانت تمارسه السلطة في عهده. حيث ولد سرور عام 1932 في قرية صغيرة من قرى الدقهلية الفقيرة تسمى "إخطاب"، مركز أجا، وهي إحدى أهم قلاع الإقطاع المصري في ذلك الزمن، تقتات القرية بجني ما يزرع أهلها وما يربون من الدواجن والمواشي، بعيدًا عن أية رعاية حكومية، وترسل أبناءها بقليل من الحماس إلى المدارس الحكومية المجانية المكتظة بالتلاميذ يتعلمون بشروط بائسة القليل من المعرفة والعلم بعكس مدارس المدن الكبيرة أو المدارس الخاصة ذات المصاريف الباهظة. وكان أبواه يتعرضان للمهانة والضرب من قبل عمدة القرية الذي كان جشعًا جلفًا ظالمًا قاسي القلب يتحكم في أرزاق الفلاحين وفي حياتهم، وكانت هذه النشأة سببًا في ترك بذور الثورية في نفس الفتى الذي امتلأ قلبه حقدا على الإقطاعيين وسلوكهم غير الإنساني تجاه الفلاحين. ورغم كل ذلك فقد تميز سرور في أشعاره بالرقة ورهافة الإحساس، وكان كبير القلب وإنسانًا في جميع المواقف، التي ألمت به على مدى حياته، ورغم الظلم الذي تعرض له، منذ بداياته، فإنه لم ينكسر يومًا من الأيام أمام ظالم أو مستبد أو طاغية. وجعل من الدفاع عن المهمشين والفلاحين والمنكسرين قضية عمره، وجسدها في كل أعماله المسرحية تقريبًا، وذلك لإدراكه أهمية عالم المسرح بالنسبة لهذه القضية، الأمر الذي جعله يترك دراسته الجامعية في كلية الحقوق قبل التخرج بقليل والالتحاق بالمعهد العالي للفنون المسرحية والذي حصل منه على الدبلوم في عام 1956 وهو في الرابعة والعشرين من العمر. بصمة واضحة وقد شهد "سرور" وهو على مقاعد الدراسة انطلاق ثورة 23 يوليو وواكب -بعد التخرج- العدوان الثلاثي على مصر مما عمق في نفسه الكرة الشديد للامبريالية والاستعمار والرأسمالية، وكان منطقيًا أن يلتزم الخط الأحمر فانتمى إلى الحزب الشيوعي، وطار إلى موسكو في بعثة حكومية لدراسة الإخراج المسرحي وصدم -كما صدم غيره- بالوحدة الارتجالية مع سوريا، ثم بمؤامرة الانفصال وراقب عن كثب بطش المخابرات المصرية بالطلبة فتحول إلى (معارض) سياسي في الخارج وسحبت منه البعثة والجنسية فزاد اقترابًا والتحامًا بأمميته!! لم تمتد حياته الأدبية رغم ثرائها الشديد والبصمة الكبيرة التي تركها في الوسط الأدبي والثقافي طويلا، فقد بدأت حياته الفنية والأدبية والسياسية، والتي استمرت قرابة الأربعة عشر عامًا حتى وفاته متأرجحًا بين النجاح والمعاناة الشديدة، بكتابة وتقديم النصوص الدرامية ومسرحياتها، استهلها في عام 1965 بعمل مسرحي من إخراج كرم مطاوع بعنوان "ياسين وبهية". تفوق مبكر وفي كتابه المهم الذي تناول العلاقة الإبداعية بين أدب نجيب سرور وأبو العلاء المعري، يرصد الدكتور حازم خيري بدقة المؤثرات التي سيطرت على أدب سرور وعلى رأسها قرية إخطاب بفلاحيها ومآسيها وغيطانها، حيث ظلت متغلغلة في نسيج حياته وفي الكثير من كتاباته ومسرحياته، منها استخرج المادة البشرية والحياتية الأولى لأدبه، وفيها تلقى معارفه الأولى، إذ تشرب بالموروث الشعبي من عادات وحكايات وأمثال واعتقادات وأساطير. وفيها قرأ ما ألقت به الأيام بين يديه، خاصة أن والده محمد سرور امتلك مجموعة من الكتب يُعتد بها، وكانت له محاولات شعرية وقصصية. وكثيرًا ما حث الأب ابنه نجيب على القراءة والكتابة، على خلاف الحال مع ثروت الأخ الأكبر لنجيب الذي اختصته الأسرة بأعمال "الغيط"، والذي أكمل تعليمه لاحقًا، على أمل أن يحقق الابن نجيب سرور حلم الأب محمد سرور، بأن يصبح كاتبًا وأديبًا يُشار إليه بالبنان، فلم تكن المناقشات الأدبية بين الابن نجيب سرور ووالده لتنقطع يومًا في تلك المرحلة. وبالفعل التحق نجيب بالمدرسة الابتدائية وبدأ رحلته التعليمية، وتفوق وشُغف بالقراءة، وتمتع بحس نقدي راق، حتى أن الكتاب لم يكن ليفارق يده. ومرت الأيام ونجح نجيب في الابتدائية، ثم التحق بالمدرسة الثانوية، فلم تكن على أيامه المرحلة الإعدادية. وبدأ الصبي نجيب ينضج، كان لا يترك كتب الشعر من يديه وخاصة كتب أبي العلاء المعري - موضوع هذا الكتاب - على صعوبتها، خاصة لمن هم في مثل سنه آنذاك. وطبقًا لرواية نجيب سرور (فارس آخر زمن!) وهى رواية غير منشورة تجسد السيرة الذاتية لنجيب سرور، حال رحيله دون اكتمالها، كان الوالد محمد سرور بحكم وظيفته دائم التنقل من قرية إلى قرية ومن مدينة إلى مدينة بين الوجهين البحري والقبلي، فقد ترك التدريس الإلزامي والتحق بمدرسة الصيارفة، وأصبح يملك ثلاثة عشر فدانا. وفي مدرسة مغاغة الثانوية اشترك نجيب لأول مرة في تمثيل مسرحية "أصدقاء السوء". وفي كلية الحقوق التي اختارها له والده انضم نجيب إلى فريق التمثيل، واشترك مع زميله كرم مطاوع في تمثيل مسرحية (نهر الجنون)، لتوفيق الحكيم من إخراج سعد أردش الطالب آنذاك. وبدأت اهتمامات نجيب تزداد بالتمثيل، فالتحق مع كرم مطاوع، وفي عام واحد، بالمعهد العالي للفنون المسرحية مع كلية الحقوق، بيد أن نجيب لم يلبث أن ترك دراسة الحقوق في السنة النهائية ليتفرغ للمعهد. ولكم أغضب ذلك الأب، الذي لم يلبث أن غفر لابنه فعلته تلك بعد أن عرف أن هناك نية لإيفاد بعثات إلى الخارج، وإلى روسيا بالذات، فقد كانت طرق البعثات إلى لندن وباريس مغلقة عقب حرب 1956. بعثة إلى الخارج ودكتوراه قد تحمي ابنه من الضياع في عالم الفن والأدب بين أذرع الأخطبوط الذي كان يوشك هو -الوالد نفسه - أن يضيع بينها في مطلع شبابه حين كان يكتب الشعر والمسرحيات!.. ويحمل مجرد شهادة مدرسة المعلمين. وبالفعل فاز نجيب بالبعثة، وكان قد أقسم بينه وبين نفسه على ألا يعود إلى مصر، فيما لو اتيحت له فرصة الخروج منها، لما سادها آنذاك من قمع شرس لأصحاب الرأي وسجناء الضمير. وراح الأب محمد سرور يشترى لولده لوازمه، وأوصاه في قصيدة الوداع التي ألقاها بين المودعين أن يعيش دائمًا بعقله وقلبه ووجدانه في وطنه مصر مهما باعدت بينهما المسافات والسنوات! عزلة وشكوك وفي موسكو ضرب نجيب على نفسه عزلة، لاقتناعه - كما قال لصديقه أبو بكر يوسف فيما بعد - بأن المبعوثين المصريين آنذاك (عام 1959)، كانوا منتقين بعناية من أجهزة المباحث بحيث لا يفلت منهم تقدمي واحد. أما هو فأفلت بأعجوبة، لأنه وصل إلى موسكو في قمة الحملة المعادية للشيوعية في الجمهورية العربية المتحدة، وهي حملة صاحبت إقامة الوحدة بين مصر وسوريا. ولعبت دورًا مأساويًا في حياة نجيب سرور في موسكو، فما أن أفصح نجيب سرور عن انتمائه للفكر الماركسي، وأشاع أنه كان عضوًا بأحد التنظيمات الشيوعية في مصر (جماعة حدتو) حتى وجد نفسه محاصرا بشكوك وريب قوية من قادة التنظيمات الشيوعية العربية في موسكو، وخاصة تنظيم الحزب الشيوعي السوري الذي كان يقوده في موسكو أحد أعضاء اللجنة المركزية للحزب اللاجئين إلى الاتحاد السوفيتي. وكان مبعث الريبة هو: كيف يتمكن شخص يقول أنه شيوعي من المجيء إلى موسكو في هذه الفترة بالذات، ويفلت من أجهزة المباحث المصرية التي كانت في أوج عنفوانها، بل وفوق ذلك يأتي طالبًا في بعثة حكومية! وفي محاولة منه لتبديد هذه الشكوك جنح نجيب إلى التطرف، فلجأ إلى تشكيل مجموعة من "الديمقراطيين المصريين"، لإصدار البيانات واتخاذ المواقف المعادية للنظام الحاكم، واستغل ذات مرة فرصة انعقاد أحد المؤتمرات التضامنية مع الشعب الكوبي في جامعة موسكو فقفز إلى المنصة واستولى عليها، وأطلق بيانًا ناريًا ضد "النظام القمعي الديكتاتوري" في مصر وسوريا. وبينما هدرت القاعة المملوءة بالعرب وأجانب بالتصفيق ظهر الحرج والضيق على أوجه المسئولين في الجامعة، الذين وضعهم نجيب في ورطة شديدة. ونجحوا أخيرًا في تنحيته عن المنصة ولكن بعد فوات الأوان! ففي اليوم التالي احتجت السفارة المصرية على جامعة موسكو، وفُصل نجيب من البعثة (هو وماهر عسل الذي ترجم له البيان وألقاه بالروسية)، وأُلغى جوازا سفرهما، وطالبت السلطات المصرية المسئولين السوفيت بترحيل نجيب سرور وماهر عسل إلى القاهرة فورًا! بهذه الحركة نجح نجيب في كسب ثقة الشيوعيين العرب في موسكو فدافعوا عن بقائه فيها وتكللت مساعيهم لدى السلطات السوفييتية بالنجاح فظل نجيب في موسكو، ولكنه نُقل إلى مدينة جامعية أخرى حتى لا يحتك بالمبعوثين المصريين الهائجين ضده. وبمرور الوقت أدرك نجيب أنه ارتكب حماقة، ولم يعد يدري ماذا يفعل بهذه المجموعة الصغيرة التي التصقت به. واعترف لأعضائها صراحة بأنه لا يفقه شيئا في السياسة، وأنه لا يريد أن يلحق بهم الضرر، ولذلك قرر تركهم والانصراف إلى الدراسة، ونصحهم أن يحذو حذوه. وبالفعل، وفي الوقت الذي بدا وكأن أمور نجيب سرور تسير إلى الأفضل، بعد تبدد سحب الشكوك فيه وانتصاره في المواجهة مع السلطات الحكومية المصرية آنذاك، سواء برفضه أمرا منها بالعودة إلى مصر بعد 3 أشهر، من وصوله إلى موسكو، أو بصموده أمام الضغوط التي مورست ضده بعد فصله من البعثة، أخذ نجيب يبتعد عن مجموعته الصغيرة ويغرق في الشراب والديون. وفى هذه الفترة بدأ يكتب قصيدة "العودة" التي أورد مقاطع منها في ديوانه "لزوم ما يلزم"، وهى قصيدة مغرقة في اليأس والضياع والحنين إلى الوطن: "يا مصر يا وطني الحبيب! يا عش عصفور رمته الريح في عش غريب يا مرفئي.. آت أنا آت.. ولو في جسمي المهزول آلاف الجراح.. وكما ذهبت مع الرياح.. يومًا أعود مع الرياح.. ومتى تهب الريح.. أو هبت.. فهل تأتي بما يهوى الشراع؟ ها أنت تصبح في الضياع.. في اليأس.. شاة عاجزة.. ماذا لها، إن سُلت السكين، غير المعجزة؟!.."