على أعتاب الثمانين "التي سيصلها في منتصف الشهر المقبل" يتوج المخرج البريطاني كين لوتش، نهجًا واقعيًا نقديًا سار عليه طوال أكثر من نصف قرن من حياته المهنية بعمل سينمائي حظي باحتفاء نقدي واستقبال حافل في الدورة 69 من مهرجان كان السينمائي. يقدم لوتش في "انا دانيال بلاك" أحد أجمل أفلامه وأكثرها تأثيرًا، ويصل فيه إلى ذروة دربته في جعل مشاهديه يتماهون مع أزمة بطله، ونموذجه الإنساني، الذي يمثل الإنسان العادي البسيط الذي يسحق وسط اختلالات النظام الاقتصادي المهيمن وما ينتجه من اغتراب وأزمات اجتماعية. إنها سينما تهدف إلى خلق هذا الشعور بالتضامن، وبالتالي تحض على الفعل والعمل على التغيير، وهي ما يجيده كين لوتش الذي بات يقف على رأس هذا النهج الواقعي النقدي منذ سلسلة أعماله التلفزيونية التي قدمها لبي بي سي منذ منتصف الستينيات مرورا بأعماله السينمائية التي تزيد عن 30 فيلمًا. وببساطة ساحرة وتقشف في استخدام التقنيات السينمائية يقدم لنا لوتش جماليات تنهل من العادي والمألوف واليومي، في عمل يذكرنا بأعمال الواقعية الجديدة الإيطالية التي تربى لوتش عليها. فتراه يرصد لحظة انسانية صافية، ويحرص على إدخال مشاهده في قلبها في نوع من التقمص العاطفي، مالئا إياه بمشاعر الغضب والتعاطف والتضامن. ولا شك أن لوتش في هذا النهج يقف على حافة الميلودراما، ولكن من دون السقوط في فخاخها، بفعل دربته وبراعته كصانع سينمائي مميز. انه يستخلص من الحياة اليومية وعبر تلك الأدوات البسيطة المقتصدة قالبا فنيا له جلال تراجيديا أغريقية. في هذا الفيلم يعود صاحب أفلام "الريح تهز الشعير"(المتوج بالسعفة الذهبية لكان 2006)، "أرض وحرية"، "أغنية كلارا"، "أنجلز شير" (جائزة لجنة التحكيم في كان 2012) و"ايرش روت" (والأخير تدور أحداثه في العراق)، إلى موضوعة سبق أن عالجها بصيغة أخرى في عمله التلفزيوني المبكر لبي بي سي " كاتي تعود إلى البيت" 1966، حيث تنهار حياة كاتي وشريك حياتها ريغ الذي يصاب ويفقد عمله، لتنتهي الى الشارع بلا مأوى وبلا حتى اطفالها الذين تأخذهم ادارة الرعاية الاجتماعية. موت مواطن بُنى الفيلم على شخصية دانيال بلاك، التي استخلصها السينارست بول لافيرتي بعد بحث لأسابيع ومقابلات مع أشخاص في المنظمات الخيرية التي ترعى المعوقين والعاطلين عن العمل وزيارات ميدانية لبنوك الطعام، التي تقدم خدماتها للمشردين والمعدمين، فضلا عن أحاديث مع السكان في مجتمع مدينة نيوكاسل البريطانية. وهذا هو النهج الواقعي الذي دأب عليه كاتب السيناريو لافيرتي في معظم سيناريوهاته التي تبنى على تجربة واقعية وبحث ميداني فتكاد تقترب في الغالب من الدراما الوثائقية "ديكو دراما"، وبات الشريك المفضل للوتش في أعماله الاخيرة منذ تعاونهما في فيلم "أغنية كلارا" عام 1996 الذي بني على تجربة لافيرتي في العمل في منظمات حقوقية في نيكاراغوا ووسط أمريكا اللاتينية في ثمانينات القرن الماضي. أذ درس لافيرتي الفلسفة والقانون وعمل في المحاماة قبل أن يتحول إلى كتابة السيناريو مع لوتش. وبلاك (ديف جونز) هو نجار من مدينة نيوكاسل في ال 59 من عمره، يبلغه الأطباء بأن حالته الطبية لا تسمح بعودته إلى العمل بسبب مرض في القلب، فيتحول إلى تلقي مساعدة الرعاية الاجتماعية، لكنه يواجه تعنت النسق البيروقراطي في جهاز قطاع عام مترهل يحاول جاهدا حماية نفسه بدرع من القوانين الصارمة والاستعانة بشركات خاصة. وكما نلاحظ في استهلال الفيلم في الحوار الصوتي بين بلاك وموظفة لا نراها تسأله أسئلة عامة عن قدرته على العمل، وعند اجابته عليها بصراحة تقلل من نقاط تقييم عجزه ومن دون أن تذهب مباشرة الى مشكلة القلب التي يعانيها. ونفهم من كلام بلاك معها أنها من شركة أمريكية تعمل لحساب نظام الرعاية الاجتماعية. وهنا يضعنا لوتش في قلب مشكلة فيلمه، وهي التناقض بين نظام أفرز من اختصوا بالتحايل عليه وابتزازه ويجاهد لاصلاح نفسه، ونموذج لعامل مكافح ومواطن صادق يعيش حياته بإخلاص ونزاهة ويمكن أن يستحيل إلى ضحية لاختلالات هذا النظام. ويرسم لنا لوتش صورة بلاك العامل المخلص في عمله الذي يحب مساعدة الاخرين والحنو عليهم، الذي قضى حياته في مهنته غير ملتفت لتلك التحولات المتسارعة في الواقع المحيط به، فنراه لا يجيد استخدام الكومبيوتر، ويكتب بالقلم الرصاص، ولا يجيد كتابه سيرته الذاتية للتقدم إلى عمل جديد. ونراه يكافح مع الجهاز البيروقراطي الذي يعيد تقييم حالته ويجبره على التحول إلى باحث عن عمل كي يستمر في تلقي المعونات الاجتماعية، ويدخله في دوامة كافكاوية من المراسلات عبر الانترنت أو المراجعات يتيه وسطها وتدفعه إلى تحدي تعقيداتها التي ترفض الاستماع ببساطة شديدة إلى مرضه. وخلال هذه التجربة يتعرف على كاتي (الممثلة هيلي سكوايرز) شابة اضطرت إلى الانتقال من لندن إلى نيوكاسل مع طفليها لكي تحظى بسكن من الدولة، لكنها تظل بلا عمل وعاجزة عن اطعام طفليها، فيحنو بلاك عليها ويتحول بمثابة أب لهذه الشابة وراع لطفليها. ويقدم لوتش عبر هذا العلاقة مشاهد رائعة مفعمة بالإنسانية تصل ذروتها في المشهد الذي يأخذ فيه كاتي إلى أحد بنوك الطعام لتلقي مساعدات، فتضطر لجوعها الى فتح علبة فاصوليا والتهامها قبل ان تنهار باكية وسط الناس. ويكابر بلاك للاحتفاظ بكرامته فنراه يبيع أثاث بيته كي يحصل على بعض المال يصرفه على احتياجاته اليومية. وفي مشهد آخر، يقدم نقدا قاسيا لازدواجية النظام، عندما تضطر كاتي لسرقة حفاظات نسائية فيقوم رجل الأمن في مركز التسوق بالإمساك بها، لكنه يقدم لها تلفونه لاحقا بحجة مساعدتها، وعندما تلجأ إليه يقدمها إلى شبكة تعمل في الدعارة، فيحاول بلاك إنقاذها بالدخول وكأنه زبون إلى منزل الدعارة. وبلاك مواطن يعيش في حدود بقعته الجغرافية، ليس مثل جارة الشاب الأسود الذي يستخدم عنوانه لتلقي بضائع رخيصة بماركات شهيرة من الصين ويربح من فرق اسعار بيعها، وفي مشهد طريف يقدم لنا لوتش إثر العولمة التي نقلت العمالة خارج حدود الدول، مع الشاب الصيني الذي يعمل في مصنع ينتج أحذية لشركة بريطانية في الصين، والذي نراه متابعا لدوري كرة القدم الإنكليزي وعارفا بلاعبيه أكثر من بلاك نفسه. وفي نهاية يمكن توقعها منذ بداية مسار الأحداث، ينتهي بلاك إلى العيش على الكفاف في شقة خالية، وعندما تحاول كاتي مساعدته ومتابعة الشكوى ضد التقييم الخاطئ لحالته، يموت بلاك بأزمة قلبية في دائرة الرعاية الاجتماعية التي اقتنعت لجنتها اخيرا للأخذ بالاعتبار حالته المرضية. بيروقراطية وتمرد لقد غاص لوتش ولافيرتي في تلك المنطقة الرمادية ليكشفا عن التناقض القيمي بين قيم النظام وبيروقراطيته وقيم التضامن والصدق والعمل، على الرغم من اشتراكهما رسميا في الاستناد إلى قيم انسانية عامة. لقد قدم بلاك لطبقات "السيستم" المترهلة كل ما يساعدها على الشك به والاصطدام بنظامه القيمي وبالمقابل مارست طبقات البيروقراطية أقصى حيلها التي يسمح بها القانون لإذلال من يتمرد عليها. يحرص لوتش على أن يعامل الفيلم كوسيط لحمل رسالة في فضاء كفاح اجتماعي، لذا تتركز دربته السينمائية على إبعاد كل ما يشوش على هذه الرسالة، مركزا على اكتشاف جماليات تقوم على الايجاز والوضوح والبساطة، من دون افتعال أي ألعاب جمالية خالصة. فنراه يسعى مترسمًا خطى الواقعية الجديدة إلى تقديم مشاهد تشبه الحياة في جريانها وبساطتها وقسوتها ورثاثتها أحيانا، ومن هنا حرصه على التصوير في الأماكن الواقعية وبالإنارة الطبيعية في المشاهد الخارجية . ويبدو الفيلم لدى لوتش سلسلة مشاهد اقتطعت من الحياة وليس تدفقا لحركة متواصلة كتلك التي نراها في أفلام الحركة، ولكل مشهد وحدته الداخلية، لذا غالبا ما ينتهي بإظلام تدريجي للشاشة لننتقل الى مشهد آخر. وحرصت كاميرا روبي رايان على تجسيد هذا النهج في الواقعية والبساطة في تصويرها لإحياء نيوكاسل الشعبية أو تلك المشاهد الداخلية فيها المقتصدة في ديكورها وإنارتها. وهذا ما أكده لوتش في المؤتمر الصحفي الذي أعقب عرض الفيلم حين قال: "لقد شعرنا أن القصة قوية جدًا، لذا علينا أن نكون بسيطين جدًا في التصوير. إنها لا تحتاج إلى أي زخارف". لذا نراه يحرص على أن يضع ممثليه ببساطة في مواجهة الكاميرا بدون مكملات وتفاصيل إضافية في المشهد مركزا على رصد انفعالاتهما الإنسانية. ونجح لوتش في استخلاص أداء رائع من ممثليه الرئيسين في دوري العمر بالنسبة لهما، فبرع ديف جونز، وهو ممثل يعمل في سياق ما يسمى بالستاند أب كوميدي "أي هذا النمط من الكوميديا الذي يخاطب به الممثل الجمهور مباشرة في عرض منفرد يقدم ارتجالا في الغالب"، في تقديم أداء مؤثر في دور بلاك، وهي شخصية تراجيدية قدمها بأداء بارع وبحيادية لا تظهر الكثير من العواطف المبالغ بها بل تختزنها إلى لحظة الانفجار الدرامي. وكذلك الحال مع الممثلة هيلي سكوايرز في دور الأم الشابة، التي بدت رائعة جدا في تجسيدها للشخصية بعينيها الواسعتين وقدرتها على التعبير بوجهها الذي ظل يجسد حالة القلق والتعب والتوتر التي تعيشها في كفاحها لتربية طفليهاحتى في المشاهد التي تبدو مسترخية فيها. لقد كان أداؤها مؤثرا ومشحونا بالعاطفة وصل ذروته في مشهد التهام الطعام وانهيارها في بنك الطعام. وسكوايرز كاتبة مسرحية أيضًا وتعرف جيدًا معاناة هذه الشريحة، فما زالت أمها تعيش في مسكن من نظام الرعاية الاجتماعية. في الختام نتمنى أن لا يكون "انا دانيال بلاك" رسالة لوتش الأخيرة، إذ إنه سبق أن أعلن عن اعتزاله بعد إنجاز فيلم "صالة جيمي" عام 2014، بل بداية مرحلة جديدة ليس لفنان قدم للسينما بعض من نتاجاتها ذات النزعة الإنسانية المميزة، حسب، بل لناشط ومدافع مجالد عن حقوق المهمشين والمستصعفين في هذه الأرض.