كان الأديب الراحل يحيى الطاهر عبد الله على علاقة خاصة مع شهر أبريل، ففيه ولد، وفيه عاد ليلقى ربه، وبين هذا وذاك عاش الصعيدي ابن محافظة الأقصر حياة حافلة مليئة بالأدب والفنون، صادق خلالها من صاروا فيما بعد نجومًا في عالم الشعر والأدب، لم يترك جيل الستينات إلا بعد أن صار واحدًا من معالمه، وظهرت في أعماله ثورته الدائمة على أشكال القهر والاستبداد، وكتب مخترقًا التابوهات المسكوت عنها، وطشف عبر عالمه القصصي الكثير من أسرار الحياة اليومية؛ التي ظهر فيها عالمه الجنوبي الساحر، ليحفر -رغم عمره الأدبي الذي لم يتعد العشرين عامًا- في ذاكرة القارئ مفرداته الخاصة، فابتكر الكثير من النقاد مصطلحًا نقديًا يتماشى مع أدبه وهو "القصة القصيدة"، بينما لقّبوه ب"شاعر القصة". ظهر يحيي الطاهر إلى الوجود في 30 أبريل عام 1938 بقرية الكرنك بمحافظة قنا، وماتت أمه وهو صغير، فقامت خالته بتربيته، وظل بقريته التي تلقى فيها تعليمًا بسيطًا، فحصل على دبلوم الزراعة المتوسطة، وعمل موظفًا بوزارة الزراعة لفترة قصيرة، حتى انتقل إلى مدينة قنا في سن في الحادية والعشرين، وهناك كان اللقاء الذي غيّر حياته نحو الأدب، حيث التقى كُلًا من الشاعر عبد الرحمن الأبنودي والشاعر الراحل أمل دنقل، لتجمعهم بعد ذلك رحلة صداقة طويلة، فتشاركوا السكن في قنا لثلاث سنوات. "البنت ثوب أبيض طويل الذيل...عليها أن تمسك بذيل ثوبها وتمشي في الطريق محاذرة...وهل بالطرق غير التراب والوحل...والقش!!".. بدأ يحيى الطاهر مشواره الأدبي الحافل -والقصير في الوقت نفسه- عام 1961، فكتب أولى قصصه القصيرة "محبوب الشمس"، وأعقبتها "جبل الشاي الأخضر"، وكان عليه بعدها أن يتحمل فراق مؤقت لصديقيه، اللذان شكّلا معه مُثلث أثّر في عالم الأدب فيما بعد، ففي نهاية شتاء عام 1962 انتقل عبد الرحمن الأبنودي إلى القاهرة، بينما سافر أمل دنقل إلى الإسكندرية، وظّل يحيى الطاهر مُقيمًا في قنا لعامين، ليلحق بعدها بالأبنودي في القاهرة حيث الحركة الأدبية الحقيقية في فترة الستينيات، وأقام معه في شقة بحي بولاق أبو العلا، والتي شهدت كتابة بقية قصص مجموعته الأولى "ثلاث شجرات كبيرة تُثمر برتقالً". "حتى الطير في الدنيا مقسوم ياقاسم،، طير مشرد في السماء وطير على الارض يمسك ويذبح وهكذا حالنا، العالي في العالي يرانا من شباكه دود الأرض فوق التراب".. كان انتقال يحيي الطاهر إلى القاهرة هو شرارة الانطلاق الفعلية لمشواره الأدبي، حيث أخذ يتردد على المقاهي الثقافية التي اشتهر بها وسط القاهرة، والمنتديات الثقافية المُتعددة، ليُعرف خلالها كظاهرة فنية متميزة، فهو الكاتب الشاب الذي لا يُعطي نُسخًا من أعماله، ولكنه كان يُلقي قصصه التي كان يحفظها بذاكرة قوية إلى حد الغرابة، وكأنها قصائد نثرية، وهو الأسلوب الذي امتاز به، وكان يُحاول بذلك تقريب المسافة بين كاتب القصة والرواة الشعبيين الذين كانوا يحكون قصصهم على أنغام الربابة، وكانت صدفة مُهمة في حياته، وقُدّر لها أن تلعب دورًا هامًا في مُستقبله الأدبي، عندما كان يُلقي إحدي قصصه في مقهي ريش بوسط القاهرة، فاستمع له الأديب الراحل يوسف إدريس، ليُقدمه بعدها في مجلة الكاتب، وكذلك قدمه الكاتب الراحل عبد الفتاح الجمل في الملحق الأدبي لجريدة المساء، لتلتفت إليه الأوساط الثقافية والأدبية في مصر. "ها هو مرة أخرى تحت طائلة العقاب لا يملك مهما حاول دفع أو إيقاف ذلك الذي داهمه: هذا الشعور الواقعى أنه مُهان".. كان صاحب "الطوق والإسورة" يرى أن الكتابة في حد ذاتها انحياز لوجهة نظر في قضايا بعينها، ووسيلته للتعبير عن حياة البشر البسطاء في ربوع مصر، وعلى الأخص في جنوب وادي النيل حيث كانت نشأته، شارحًا ارتباط الناس بالمكان وما يحويه من حياة وحكايات ومعتقدات وأساطير، مُعتبرًا أن الحكي والقص ليس فقط تسجيل لكل هذا، ولكنها كذلك إعادة بناء لعلاقة البشر بالحياة والمكان، والمبنية على تراكم الخبرات والثقافة، بما يُساعد على توضيح هذه التجارب الإنسانية؛ وكان كذلك شديد الحرص على أن تعكس الكتابة تجربته الشخصية، ولكنه لم يكن يركز على الأحداث التي يمر بها في حياته، ولكن كان الأهم أن تعكس فهمه لأحداث الحياة. تمردت أعمال يحيي الطاهر على القوالب الثابتة في القصة، فأوجد لغة خاصة به يمتزج فيها سرده، أو الحكي، بلغة شاعرية وإيقاعات منغمة، فأطلق عليه عدد من النقاد "شاعر القصة"، في الوقت الذي أطلق البعض الآخر على أدبه "القصة القصيدة"؛ حيث توغل في مناطق غير مأهولة أدبيًا، وكشف عن مناطق مجهولة ومسكوت عنها في الحياة إليومية في قرى الجنوب، والتي يعرف بحُكم نشأته فيها كل دقائقها، والعوالم السفلية لصعاليك المدينة التي برع في التوغل فيها منذ انتقل ليُقيم في القاهرة، ومزج بين الحكي والأسرار والتابوهات على خلفية من التراث، كما تمّيز عالمه بحضور قوي لعالم الأسطورة والخرافة، حيث كان يستخدم الرمز ببراعة في أعماله، وكان بتلك الرمزية، في نظام شمولي وآلة أمنية قمعية، يستطيع التعبير عن مدى انسحاق المواطن البسيط تحت وطأة آلات القهر والظلم. https://www.youtube.com/watch?v=jivHr_j885w وأبرزت أعمال يحيي الطاهر تمتعه بوعي قوي بمفردات الشخصية المصرية، وقدرته على صياغة هذه المفردات فنية تُعيد تشكيل الواقع والشخصيات، فجعل قارئه يتعاطف مع الصعاليك المشوهين، والمتمردين على واقعهم؛ وأبرز ذلك واحدًا من أهم الأعمال المتميزة له "تصاوير من الماء والتراب والشمس"، وهي عمل من ذلك النوع الذي يبقى مُعلقًا بين القصة الطويلة والرواية القصيرة، فاختار أشخاص وواقع يصعب تصويرهما متناولًا الواقع المسكوت عنه للمجتمع، والذي تنعدم فيه أدنى وسائل المعيشة الإنسانية؛ والتي تميز فيها بقدرة إبداعية على تصوير الواقع بعمومه، والشخصيات بتفردها في عالمه الخاص، بلُغّة قادرة على امتصاص الواقع، وتجسيده بلغة فنية دون نقل الواقع بذاته؛ كما أن أبطاله وواقعه يصعب تصويرهما دون أن يندمج الكاتب فيهما وتعايش معهما، فحكايات يحيى الطاهر تتناول الواقع المسكوت عنه للمجتمع، والمصير المعتم، حيث تنعدم أدنى وسائل المعيشة الإنسانية، فلا سكن، وظيفة، أو حتى أسرة؛ مُبرزًا أنماط فريدة في شخصياته، مثل الذي بدأ حياته في القاهرة شيالًا في سوق الخضار، ثُم انخرط في حياة الصعلكة بعد وفاة ابنه وأم ابنه، وكذلك اللص الذي تخصص في سرقة الطيور من البيوت، واللص المتخصص في سرقة المنقولات الثمينة ثم يقوم ببيعها إلى المتخصصين والإسكافي الذي ترك مهنته وأسرته، وتحول إلى إدمان الخمر وأصبح لا يستطيع التوقف عن، وكذلك لا يستطيع التوقف عن الاحتيال من أجل الإتيان بالخمر؛ وهذه الشخصية تحديدًا ظلّت حية في عقل ووجدان كل من قرأ العمل، حيث برع فيها الطاهر في تصوير شخصية المحتال الأعظم، صاحب الفلسفة في كل شئ، الصعلكة، والاحتيال، والموت، والحياة. "أحب الموت، وكلما أجدني على حافته أحب الحياة".. توفيَّ يحيى الطاهر عبد الله في التاسع من أبريل عام 1981 إثر حادث سيارة أثناء عودته من الواحات، فصعدت روحه في سيارة الإسعاف بسبب اختناق مروري في شارع الهرم، ورثاه صديق عمره الشاعر الراحل أمل دُنقل بقوله الشهير "ليت أسماء تعرف أن أباها صعد لم يمت هل يموت الذي كان (يحيا) كأن الحياة أبد وكأن الشراب نفد وكأن البنات الجميلات يمشين فوق الزبد عاش منتصبًا بينما ينحني القلب يبحث عما فقد".. وعقب وفاته، قرر المخرج خيري بشارة أن يصنع فيلم مأخوذ عن رواية للعملاق الراحل، وكان فيلم "الطوق والأسورة"، والذي يُعتبر واحدًا من أهم أفلام السينما المصرية المأخوذة عن عمل أدبي، وشارك افي كتابة السيناريو مع خيري شلبي صديق يحيى الآخر عبد الرحمن الأبنودي، وأصبح الفيلم واحد من كلاسيكيات السينما بالنسبة للمثقفين، رغم أنه لم يجد قبولًا أو انتشارًا على المستوى الجماهيري.