تزخر السودان بمجموعة من الأسواق القديمة، التي تفوح من جنباتها رائحة التاريخ وترفرف عليها روح العصر.. ومن أكبر وأقدم هذه الأسواق "سوق أم درمان" أو "السوق القديم" كما يطلق عليه السودانيون، فهو سوق متمرد على الشيخوخة، فكلما زاد عمره زاد حداثة ورقيا. وحين تذكر مدينة "أم درمان" يذكر معها سوقها العتيق الذي يقربها في العمر، ويرجع تاريخ إنشائه لسنوات الثورة المهدية، وقتها كان يفتقر للنظام.. ويذكر التاريخ أن الخليفة عبدالله التعايشي أول من أسس السوق بطريقة حديثة واضعا عليه شيوخا يقومون بشئون تنظيمه وإدارة العمل فيه. وكانت محال التجار الهنود تجاور محال الأقباط المتخصصين في المنسوجات والمفروشات الذين جاؤوا من صعيد مصر، تجاورهم أيضا محال اليمنيين الذين يشتهرون بتخصصهم في مجال البقالات.. ثم اكتسب السوق نوعا من الحداثة فأصبح هناك مكان مخصص لكل حرفة، مثل شارع الصياغ، وشارع الدكاترة، وسوق العناقريب، إضافة لزقاق الهتش والكراكيب، وغيرها من الحرف والبضائع. ويبدأ سوق "أم درمان" شمالا بمبنى البريد، الذي شيد إبان الاستعمار الإنجليزي، والذي يسور مبناه الضخم باعة الكتب والمجلات قديمها وحديثها، أو يفرشونها على الأرض أو يعرضونها في محال قد لا تتجاوز مساحة بعضها المترين، ثم الكتب الدينية على الواجهة الشمالية للمبنى تشاركها السبح وسجاجيد الصلاة، وعلى الجانب الآخر محال الحلاقة. وبالسير قليلا داخل السوق تطل علينا من الجانبين محال الأغذية والإنارة والكهرباء والأحذية، ثم نصل بعد ذلك إلى سوق الخضر والفاكهة والتوابل بمحالها القديمة والحديثة.. ونجد في سوق أم درمان "سوق الأناتيك"، الذي يعرض مصنوعات يدوية من تحف وحقائب وغيرها من المنتجات الجلدية، وكل أنواع الفلكور الشعبي. وتحيط الورش بمعارض "الأناتيك" أو تجدها داخلها في بعض الدكاكين، فمنها تأتي كل حاجات المعارض عدا القليل المستورد من الجنوب والدول المجاورة، فحرفة النحت يشتهر بها هذا السوق حيث أن كل الموجودين به ورثوا هذه الحرفة أبا عن جد. كما نجد "سوق التشاشين" الذي قبل أن تصل إليه تخترق أنفك رائحة البهارات، وتتوافر فيه كل أنواع التوابل، وتشاهد فيه المحال التي تبيع العطارة المعبأة مسبقا والأخرى الأكثر اتساعا والتي تعرض بضائعها سائبة في مشنات مرصوصة على شكل هرمي عند المداخل.. وللطب في السوق نصيب، حيث يأتي الناس لشراء عشبة "الحرايب"، التي توصف لمرضى الكلى، إذ تعمل على تنقية الكلى من الحصى وتعالج التهابات المسالك البولية. ونجد أيضا في سوق أم درمان "شارع الصياغ الصيني"، حيث يخطف بصرك بريق الذهب الأصفر، ويمتد من الركن الشرقي للبريد حتى نهاية الطريق.. وهناك أيضا "سوق القصيرية" الذي كان لبائعيه الأفضلية والإقبال قبل أن تأتي ثقافة الملابس الجاهزة لتأخذ من اليد المقص الذهبي الذي كسا كل أجساد زائري السوق، وغرق كل الترزية في طوفان الملابس الجاهزة والمستوردة، وبات السوق شبه مغلق ليشهد تراجعا كبيرا وتدهورا ملحوظا في محال الترزية. وبسؤال أحد كبار تجار سوق "أم درمان" ويدعي توني وديع عن أقدم محال السوق، قال - لموفدة وكالة أنباء الشرق الأوسط إلى السودان - "إن محال الطوخي من أقدم المحال بالسوق حيث يعود عمرها إلى ما قبل 100 عام لخواجة يوناني يدعي نوري جوليكيان، ثم قام وليم القبطي بشراء هذه المحال من صاحبها". وأضاف "أن شارع السوق كان يسمى قديما "في شارع التمارة" لشهرته بتجارة التمور، مشيرا إلى أنه يشتهر حاليا بتجارة الحبوب والبهارات والأحجار الكريمة أو كما يطلق عليها بالعامية السودانية "السوكسوك"، ومنها العقيق وحجر الجمر الذي يتردد أنه يعكس صورة القمر ليلا". وللباعة المتجولين في سوق أم درمان نصيب، حيث يرصون بضاعتهم المختلفة من ملابس وأدوات مطبخ وإكسسوارات على الأرض.. وهناك على جانب آخر بائعات الشاي والقهوة في كل ركن بالسوق يضعن المواقد إلى جانبهن وحولها مقاعد قصيرة، بينما مازال القهوجي يأخذ حيزا من المشهد، أما الوجبات فيحصل عليها العاملون بالسوق من المطاعم الشعبية المنتشرة، وتعتمد على العصيدة والملاح والفول، ويتم حملها لأصحاب المحال حيث يضعونها على الأرض ويجتمعون حول الصحن الكبير ويدعون الزبائن المارة بكرم أصيل ليشاركوهم تناول الوجبة. وهناك سوق "الدباغة"، الذي يقع شرق (عمارة أبو مرين) أول عمارة بنيت بالسوق ويرجع تاريخها إلى أربعينيات القرن الماضي واشتهر أهلها بتجارة كل مستلزمات الأعراس كالحنة والبخور والصبغة، وتدلنا عليه رائحته حيث يجمع جلود مئات الخراف لدباغتها، وبينما بغرب (عمارة أبو مرين) يقع سوق "العناقريب" أي الأسرة جمع سرير، وتصنع العناقريب من جذوع الأشجار الضخمة وتربط أضلاعها بالحبال، وهذه الصناعة على وشك التلاشي حيث لا يستخدم العنقريب الخشبي الآن إلا في الأعراس أو يوضع عليه الموتى لنقلهم إلى المقابر. وفي ناحية أخرى من سوق أم درمان نجد سوق "الحرفيين القديم"، الذي يتوارث أصحابه مهارات التصنيع أبا عن جد، ويبدو هادئا منزويا عن صخب السوق إلا من هدير واهن لماكينات الخياطة قديمة الطراز.. ويجلس الحرفيون مستغرقون في صناعة الأحذية والأحزمة والحقائب الجلدية المصنوعة من جلد التماسيح والثعابين الكبيرة وجلد التيوس، فضلا عن العمل في صناعة المنحوتات الخشبية والحلي والأواني الفضية. وبات سوق الحرفيين مهددا بالانقراض نتيجة تغير الأذواق، التي أصبحت تفضل الأحذية الإيطالية والسورية التي تملأ السوق، وكذلك بسبب القوانين المشددة في صيد التماسيح والثعابين المهددة بالانقراض، إلا أن الحرفيين يقاومون ذلك عن طريق صناعة الأحذية من جلود الأبقار ثم يضعون عليها نقاطا سوداء ليصبح شكلها مشابها لجلد النمر.. وينتهي سوق "أم درمان" بحي "المسالمة" العريق جنوبا، وشارع "كرري" شرقا، وشارع "الشنقيطي" غربا. ورغم انتشار المحال الضخمة والمولات في أنحاء العاصمة الخرطوم، إلا أن سوق "أم درمان" مازال من الأماكن التي يكثر السياح من زيارتها، كما ظل محتفظا بماضيه القديم في صناعة المنتجات المحلية وشكل عرض السلع والمحال القديمة، فضلا عن قيام الباعة بعملهم في خدمة الزبائن بالجلاليب السودانية التقليدية. ومن الأسواق القديمة أيضا في السودان "السوق العربي"، وهو يقع وسط الخرطوم، ويعد من أعرق مراكز التسوق والتجمع لمواطني مدينة الخرطوم، حيث تعتبر مقاهيه وفنادقه الأماكن المفضلة للكثير من شخصيات المجتمع ورجال الأعمال، وبه أشهر محال الأقمشة والعطور، وكذلك هو السوق المركزي للذهب والمجوهرات.. ولكنه أصبح في الوقت الحالي مركزا للكثير من المباني التجارية الحديثة، وبه المحطة الرئيسية لوسائل المواصلات من وإلى العاصمة. وهناك بالسودان أيضا "السوق الأفرنجي"، الذي أطلق عليه هذا الاسم نتيجة للطراز الأوروبي الذي شيد به التجار الأجانب محالهم التجارية في القرن العشرين، ويحده من الناحية الجنوبية ميدان (أبو جنزير) ومن الناحية الغربية ميدان جمال عبدالناصر، ويشتهر كمركز لبيع الأجهزة والمعدات والملابس والأثاث المستوردة من الخارج، وكمجمع للكثير من الوكالات التجارية ومكاتب الخطوط الجوية، إضافة إلى كونه مركزا لمحال بيع منتجات الصناعات اليدوية مثل (الذهب، الفضة، العاج، الأبنوس، والجلود). ويضم "السوق الأفرنجي" أيضا عددا من المقاهي والمطاعم العريقة، وقد دخلت عليه اليوم عوامل كثيرة غيرت من طبيعة الأشياء وبنية العمل التجاري به. ويعد من أشهر أسواق الخرطوم أيضا "السوق الشعبي"، وهو يقع في الجزء الجنوبي من الخرطوم، ويعتبر مركزا لوسائل النقل البري في السودان حيث توجد في جزء منه محطة شهيرة مهيأة بكل أنواع الخدمات تنطلق منها الأتوبيسات إلى مناطق السودان المختلفة. ويكتظ السوق بالمحال المتخصصة في بيع السلع المختلفة مثل (المعدات الكهربائية، المفروشات، الأواني، الملابس) وغيرها من المستلزمات المنزلية والأسرية.. فالسوق الشعبي هو مقصد للأسر المتوسطة في السودان. وتبقى أسواق السودان القديمة صامدة ببنيانها التاريخية، منفتحة على التطورات العصرية لتؤكد في كل حين أنها تُعمر ولا تَشيخ.