تواجه الصحافة اللبنانية العريقة أزمة مالية واقتصادية حادة غير مسبوقة تراكمت خلال السنوات الماضية، ولكن بدأت تظهر تداعياتها مؤخرا. وفي مؤشر واضح على ما وصلت إليه الأزمة المالية والاقتصادية التي تعاني منها الصحافة اللبنانية، أعلنت صحيفة (السفير) - إحدى أشهر وأعرق الصحف اللبنانية - في منشور داخلي وزع في الذكرى الثالثة والأربعين لصدور الجريدة، أنها تواجه أزمة مالية تضافرت مع نمو الإعلام الإلكتروني في المنطقة، إضافة إلى الأزمات الاقتصادية والسياسية التي يمر بها لبنان وتطور الأوضاع في المنطقة العربية نحو الأسوأ، كل ذلك انعكس على توزيع الجريدة والدخل الإعلاني والاشتراكات. وكشف المنشور الذي حمل عنوان "رسالة للأسرة" أنه نظرا لهذه الظروف المرشحة للتدهور فإن مجلس الإدارة طرح كل الخيارات للنقاش بما فيها خيار التوقف عن الإصدار. وقال المنشور إنه حتى يتم تبلور القرار، تستمر (السفير) بالصدور حاملة شعاراتها ومواصلة التزاماتها، وطمأن رئيس التحرير في المنشور العاملين في الصحيفة بأن حقوقهم مصانة بل مقدسة. وسبق هذا التطور في جريدة (السفير) أزمات مماثلة في العديد من الصحف اللبنانية، فصحيفة (اللواء) ذات الشعبية الكبيرة في العديد من الأوساط اللبنانية أبلغت موظفيها، بمذكرة مطبوعة عن فتح باب الاستقالات، جاء فيها "نظرا لإجراءات التقشف الأخيرة، وإفساحًا للمجال أمام الزملاء لاتخاذ الخيار المناسب لكل منهم، تقرر فتح باب الاستقالة أمام من لا يستطيع الاستمرار في العمل في هذه الظروف القاسية". كما أفادت تقارير إعلامية متعددة عن أزمات مالية مماثلة أدت أحيانا إلى وقف الرواتب وتأخرها في العديد من الصحف اللبنانية. ومن أبرز الصحف المتأثرة بالأزمة صحيفتا (النهار) و(المستقبل) وكذلك (تليفزيون المستقبل)، الصحيفة والتليفزيون تابعان لتيار المستقبل. وقال نقيب الصحافة اللبنانية عوني الكعكي إن الأزمة لا تشمل جريدة (السفير) فقط، بل إن الأزمة أكثر حدة في صحف أخرى، مضيفا أن الأزمة ليست ابنة اليوم بل عمرها سنوات، معتبرا أنها أزمة تاريخية تعود بجذورها إلى الستينيات. وكشف عن أنه بين 110 امتيازات إعلامية مسجلة في لبنان لصحف ومجلات (59 صحيفة و51 مجلة)، لا يصدر منها إلا نحو خمسة عشرة مطبوعة تقريبا. وأضاف الكعكي أن الأزمة تعود إلى الوضع الاقتصادي في لبنان، الذي يتراجع يوميا، كما أن هناك العديد من الأسواق العربية المهمة للإعلام العربي أغلقت أو تراجعت. وتابع "إن السوق العراقي كان الأساسي بالنسبة للإعلام اللبناني، خاصة المجلات، وكانت أي مجلة تباع للعراق تؤمن وضعها الاقتصادي، وكذلك مصر، ولكن المنافسة المحلية وارتفاع تكلفة المطبوعات المحلية أثرت على توزيع المجلات اللبنانية في مصر، إضافة إلى إغلاق سوق ليبيا". وأشار إلى أنه بالنسبة للخليج، فقد بدأ في الستينات العد العكسي للصحافة اللبنانية هناك، لأنه مع ظهور النفط أصبح لدى الدول الخليجية صحف ومجلات خاصة بها. وأردف "إننا مقبلون على أزمة كبيرة، وحل الأزمة يحتاج إلى تمويل"، مشيرا إلى أن صحفا لبنانية كبيرة لم تدفع رواتب موظفيها منذ أشهر. ولفت إلى أن مجلة (الحوادث) أعرق مجلة في العالم العربي أغلقت أبوابها أمس، ورأى أن المشاكل الأمنية لها تأثيرها على الوضع العام في لبنان وبالتالي وضع الإعلام. من جانبه، قال الباحث اللبناني أحمد الزعبي مدير تحرير (موقع لبنان 24)، إن الإعلام في لبنان بمختلف تجلياته المرئي والمكتوب والإلكتروني يعيش أزمة منذ عام 2009، بعد آخر انتخابات نيابية جرت في لبنان. وأرجع أهم أسباب الأزمة إلى أن معظم المؤسسات الإعلامية تعتمد في التمويل على جهات سياسية وأطراف إقليمية، ومعظم الجهات السياسية في لبنان باتت تعاني من أزمة تمويل، مما انعكس على وسائل الإعلام. ولفت كذلك إلى أن تراجع الإنتاج التليفزيوني المشترك مع محطات عربية، انعكس على المحطات التليفزيونية في لبنان، التي باتت ترزح تحت ديون كبيرة. وأشار إلى أن مؤسسات إعلامية كثيرة لم تدفع رواتب منذ عدة أشهر، ومؤسسات أخرى تتأخر في دفع الرواتب. وحذر من أن هذه الأزمة تهدد صورة الإعلام في لبنان، ولها تداعيات على موقع لبنان في المشهد الإعلامي العربي، إضافة إلى تداعياتها الإنسانية على عدد كبير من العاملين وعائلاتهم. وقال "ينبغي التحرك سريعا لإيجاد مخارج له، ولا يجوز أن يترك الإعلام يتكفل وحدة بالتمويل وملاحقة الخبر، وصناعة الحدث، معربا عن اعتقاده أن من أسباب الأزمة صغر حجم السوق الإعلاني في لبنان ليس مصر ودبي وتركيا، ومؤسسات دولية كثيرة كانت تعلن في الإعلام اللبناني خرجت أو أوقفت أنشطتها في لبنان في ظل الأوضاع السياسية والاقتصادية الحالية. وأضاف أن هناك تحديا آخر يتمثل في الصحافة الإلكترونية التي باتت تأخذ من حيز الصحافة الورقية، وتراجع الصحافة الورقية أمام زحف الإلكترونية خاصة في ضوء قلة تكلف الصحافة الإلكترونية. ولفت إلى أن عشاق الصحافة المكتوبة أغلبهم من كبار السن، وهم عشاق التحليلات، نظرا لأن أي حدث الآن لا يمكن أن يبقى مجهولا بعد لحظات من وقوعه، وبالتالي باتت الصحيفة مساحة للتحليلات وليس الخبر. وتعد الصحافة اللبنانية الأكثر عراقة عربيا بعد الصحافة المصرية، وارتبطت صحافة البلدين منذ نشأتهما، فكان اللبنانيان سليم وبشارة تقلا هما مؤسسا صحيفة الأهرام أعرق الصحف المصرية. ولكن الصحافة اللبنانية منذ نشأتها تواجه تحدي صغر حجم السوق اللبناني في بلدة يبلغ سكانه نحو 4 ملايين نسمة، وأحيانا ارتفاع التكلفة بالنظر لأن لبنان يعد من أعلى الدول في تكلفة المعيشة في العالم العربي. ولكن الصحافة اللبنانية تغلبت على هذه المشاكل تقليديا بتوسعها في الأسواق العربية، وعلاقتها وتحالفاتها الإقليمية، ولكن مع استمرار تطور الإعلام في المنطقة العربية، تعددت المنابر الإعلامية العربية التي تستند في الأغلب لدول عربية ثرية، مما أفقد الصحافة والإعلام اللبناني برمته كثيرا من نقاط تفرده. وبذلك تتضافر الأزمات الاقتصادية والسياسية في لبنان وتغيير البيئة الإقليمية العربية مع صعود الصحافة الإلكترونية لتهدد عرش درة التاج اللبناني "صحافة بلاد الأزر العريقة".