ليست المرة الأولى التى أدخل فيها مع فاطمة وهيدى إلى صندوق الدنيا. أخذتنى معها مرات سابقة إلى تفاصيل دنيانا. إنها فسيفساء الحياة التى رأيتها مع فاطمة فى مجموعاتها القصصية السابقة. وفى مجموعتها الجديدة: «ما لم تقله شهر زاد» الصادرة عن دار «النابغة للنشر والتوزيع». سبعون قصة قصيرة جدا أو كما سمتها الكاتبة «قصص كسيرة» فبعضها لا يتجاوز عدد كلماته العشر. قصص قصيرة جدا مكتملة، وأول شروط الاكتمال القدرة على الحكى، فالكاتبة ومن أول الحكاية تمسك بالقارئ إلى العالم الذى تحكى عنه هى وليس كما حكت شهر زاد حكايات فاطمة سوف تستقر فى الذاكرة كما استقرت قصص قصيرة للكبار. وهذه قصة مجرد نموذج أجزم أننى لن أنساها قصة «شاهد»: «طلب المُعلم من تلاميذه كتابة موضوع عن «البر بالوالدين»، كتب أحدهم: «أجلس إليهما.. أبكى. أجثو أمامهما طويلا..ألوذ بهما.. أحدثهما.. ولكنهما حجر أصم!» وبخه المعلم أمام زملائه، فبكى متمتما: «كنت أصف شاهدى قبرهما». وفى صندوق دنيا فاطمة الذى لا يمكن دخوله والخروج منه كما دخلناه.فهى تتعمد أن تفاجئنا بشكل مباغت فى نهايات ومضاتها. هى نهايات لا يمكن توقعها، كما الحياة تماما فمن منا يستطيع أن يتوقع مسارات أيامه. وهذه المباغتة كنموذج نراها فى قصة «عبث»: «احترف إعادة تلوين ابتسامته، وهو يروى حكايته عن يده اليمنى التى سبقته إلى الجنة، فيما كانت يده اليسرى تقتنص لمسات من فاكهتهن المحرمة!». ومن مباغتة إلى أخرى تواصل مفاجآتها فى بقية قصص المجموعة.التى كتبتها بلغة شعرية خالصة فتصبح القصة الومضة أقرب للقصيدة التى تنتقى أبياتها بمفردات ليس بها مفردة واحدة بلا ضرورة كأن تقول فى «قصة متكررة»: «هرولت من أول الشوق إلى آخر الحنين «وفى قصة «دوامة»: «ذات ضجر.. جلس يسامر ظله»، وفى قصة شرف: «تعاظمت الأشواق فى عينيه، حينما هم بقطف زهرتها، توحشت أشواكها». ورغم اكتمال الحكاية عند فاطمة فهى لا تحكى حواديت لقضاء الوقت والأمسيات الهادئة فهى مع كل قصة تحمل موقفا من ومع قيم الحياة والبشر وناس الدنيا فهى مع المرأة ككيان حر ومكتمل، ونرى هذا فى قصة «نهاية»: «تذكر أنه لم يترك فرصة إلا وعيرها بأنها عاقر، وتذكر دموعها المتجمدة كلما لمحت تفاصيل خياناته، وتذكر أنه نعتها بالبرود، لأنه كلما تعمد إهانتها أمام أحد ابتسمت بمرارة، والتحفت الصمت، فأدرك لماذا قتلته» وهذا الانحياز «المبرر» للمرأة يتمثل فى أكثر من قصة فى المجموعة التى تقدم الموقف الإنسانى والأدب الإنسانى المنحاز بوعى لبنات جنسها. تحكى فاطمة ولكن ليست حكاياتها للترفيه ولا حكايات مجانية فهى صاحبة موقف وانحياز يسرى معنا كالهواء الذى نتنفسه وكما انحازت للمرأة فهى هنا تنحاز لمن لا يجد فى تفاصيل حياته أملا ولا مخرجا من الفقر كما فى قصة «غيث»: «نظرت إلى سقف غرفتها المتهالك، لم يعد يزعجها صوته المتهدج كلما أزت الريح، فقط.. تواصل دعاءها لئلا يستجيب الله لقومها الذين يقيمون صلاة الاستسقاء»، كذلك كما فى قصة «عجز» عن الأم التى لم تستطع أن توفر لابنتها العلاج، وعن الموت فى الهجرة غير الشرعية التى هى نتيجة الفقر غير الإنسانى وغير الشرعى فى آن واحد. حكايات ليست حواديت. هى تفضح الزيف والكذب ونجد ذلك فى قصص المجموعة المكتوبة بصدق كأنها مكتوبة بدم القلب كما قصة «عبث» و«غيرة» و«عاطل» فهذه مجرد أمثلة ففضح الزيف والكذب يبدأ من أول سطر إلى آخر المجموعة. هى ليست حكايات ولا حواديت وفى قلب صندوق الدنيا الذى تدعونا لدخوله سنكتشف موقفا فلسفيا من الحياة، ومن البشر، ومن التفاصيل كما فى قصة «وهم» على سبيل المثال: «ركض فى ظل أحلامه اللاواقعية قبل أن يدرك انفراط عقد أيامه، تعثر بصره فى خطوط جبينه، توسل إلى الزمن ليعود، عاجله أحدهم بطلب ترديد الشهادة». إنه صندوق الدنيا الذى ندخله مع فاطمة وهيدى. ونجد فيه الحياة، ونجد أنفسنا.