لم يكن جميلا، ذلك الصباح البعيد من شهر يوليو، كان وجه السماء عابسا ومنذرا بخطر، يبدو للرائي حقيقيا وهائلا وطاغي الحضور، لم تكن الشمس طيبة، تخفت خلف الأفق المتردد بين الرمادي الداكن والأرجواني الملتهب، وراحت تصب جحيمها على رؤوس الكائنات، وأسطح العربات، ووجوه الأرصفة، وواجهات البنايات والدكاكين. الهواء كأنما غادر الغلاف الجوي للأرض، هربا أو قرفا أو طمعا في سكنى كوكبٍ، غير مأهول بكائنات تكتم أنفاسه بدخان مصانعها وعرباتها وسجائرها، والغازات المنبعثة من ثلاجاتها ومكيفاتها ومؤخراتها، وعرق ملحي ساخن، لزج، يلمع فوق الوجوه والجباه، ويصنع أخاديد ومنحدرات بين مسامّ الأجساد المرهقة، الفارّة إلى البيوت الأكثر بردا وسلاما، رغم أنها لا تخلو من منغصات، وإن بدت سخيفة وغير محتملة، إلا أنها أخف وطأة من هذا التعذيب الصيفي المتكرر. في صباح كهذا، صحا من نومه ضيق الصدر منكودا، لم يتّخذ بعدُ قرارَه اليوميّ بالابتهاج، الأنف، أنفه بداية الوعي الحاد الصفيق، الرائحة الخانقة المقززة الباعثة على الغثيان، تتموّج وتنتشر وتتشظّى في تلافيف مخِّه وخلايا جسده الفارع القوي، المسكون - في تلك اللحظة - بجنون لا مبرر له، سوى تلك الرائحة الواقفة بين “,”زناخة“,” عرق الآباط، ونتانة البول الكثير، المتخمر في خرابة يتقاسمها شحاذون ومشردون وكلاب، وكائنات، ليس مهمّا التأكيد على حصر أنواعها، وقدرتها الفذة على العيش في هذا المحيط العفن، فرَّ هاربا من فضاء الغرفة النظيفة اللامعة الأنيقة، المرتبة، والمرشوشة سماؤها - منذ الليلة الفائتة - بمعطًر جوٍّ قويٍّ ونفّاذٍ، ولا أثر له الآن، صرخ مناديا الخادمة الأربعينية الواقعة تحت قصف المرض لجسدها الممتلئ في غير تناسق، جاءت مهرولة، متعثرة في اندهاشها من صراخه العصبي الحاد، هي التي لم تعهده - ربما بفعل الخمر - إلا رائق المزاج ضاحكا، وغير مبالٍ، حتى إنه في بعض الليالي، وأمام الزوجة الجميلة الشابة، والغارقة في القتامة، كان يداعب بقرص خفيف وحلو صدرَها المتهدِّل، وهو يطلب منها إعداد الحمام، فتفرّ من أمامه، ومشاعر متضاربة تتقاذفها، وتفتت روحها، ما بين خجل ليس مصدره لمسات أصابعه المدربة الساحرة، وإنما نظرات الزوجة القاسية المتعالية، وبصاقها الذي يبقّع السجّاد الفارسي الفاخر، ويبقّع روحها أيضا، وبين الفرح المراهق، والتحول العجيب لكل خلية من خلايا جسدها إلى مشروع رغبة قابلة للانفجار، في وجه العطش الذي يشقق كيانها، منذ وفاة الزوج قبل بضع سنوات. تدفع باب الحمام، وتقف مبهورة الأنفاس، مخطوفة الروح، أمام الزوايا المتعددة لانعكاس جسدها، على المرايا الكثيرة التي لم تستطع أن تحدد بداية عشقها لها، لم ترغب مرة في وقف الزحف البطيء اللاهث المحموم، ليدها التي تتسلل إلى فتحة صدر عباءتها، فتفكُّ أزرارها وتندسُّ بين النهدين، تلاطفهما بحنان، ثم تعتصرهما بشدّة، تحاول تحريرهما من الثياب لتقبّل مكان أصابعه، تكتشف أن فتحة الصدر ضيقة، تغمض عينيها وتستحضره، هو سيِّدها وحبيبها وحلمها المستحيل، تختصر البدايات أو تنفيها، ولا ترجع من سرحتها إلا وقد بلغت تفتُّحَها وتحقُّقَها الكاملين، الصور المتقافزة كفراشات ملونة في زوايا الذاكرة، لا تحتل سوى الحيِّز الضيِّق لجزء من الثانية، تخطو بعدها خطوتها الأخيرة، لتصبح مواجهة تماما لصوته القوي الخشن، وهو يأمرها بإعداد الحمَّام، والتخلص من تلك الرائحة بغرفته. * * * * * وحدَك تأكُلك العزلة والاغتراب، والكراهية لنفسك وللعالم، وحدك مع الذي ليس عَرَضاً أو مَرَضاً، أو خللا في وظائف المخ أو الغدد، كما أكد الأطباء، هنا في مصر، وهناك في لندن، وحدك بعدما حوَّلك الأطباء إلى فأر تجارب، فتضاعفت كراهيتك للطب والأطباء والأجهزة والمختبرات والأشعة والتحاليل والعينات، وامتدت لتشمل جسدك وروحك وحياتك، ليصبح الموت أغلى أمنياتك، وحدك مع المجهول، غير المفهوم، وغير المتوقع، وغير المبرر، وغير القابل للعلاج أو الإزالة، حتى ولو عن طريق البتر. وحدك، بعدما جاء للاطمئنان عليك الأصدقاء والمسؤولون والعملاء والمنتفعون، وانفضّوا جميعا من حولك وهم يسدُّون أنوفهم بالمناديل المعطرة، ويتحرَّجون من الإشارة إلى الرائحة الكريهة، والتي لا يعلمون أنها رائحتك، نعم رائحتك، وليست رائحة جثة (كاتي)، قطة زوجك المدللة، والتي اعتقدت في البداية أنها نفقت تحت سريرك، أو في أحد أركان غرفتك، اشرب كأسك ولا تبحث عن إجابة للسؤال المحير، ولا تصدِّق التفسيرات النفسية أو الأخلاقية أو الدينية، إذ ما جدوى اقتناعك بكل التنظيرات، والرائحة اللعينة حقيقية تماما، وأنت لا شكَّ مصدرُها؟!. لا تبالغ في الاستحمام وإغراق مسامّك بالبرفانات الباريسية الفاخرة، افتح النافذة، وامنح هواء الفجر فرصة ليغسلك، السماء، متى انقطعت علاقتك بالسماء، أنت الذي أدمنت صُنع إلهك الخاص، ورحت تعبده، هناك وراء الأبواب الخلفية لمجلس الحي، الذي كنت أحدَ صغار مهندسيه، حيث يقبع الدُّرج الأول في مكتبك، فاتحا فكَّيه كفوَّهة بئر لا تشي بامتلاء، وحيث تخطر (دنيا) كفيض من نور إلهي يسعى على الأرض، متّجهة بثقة واعتداد من تدرك سلطوية أنوثتها، إلى مكتب رئيس الحي . - ابنته.. ليس الحب مفردةً مُهمَّة في معجم حياتك، أنت الإفراز الطبيعي للالتحام الكوني الهائل بين النار والنار، الرجل يحبك، يرى فيك امتدادا طبيعيا له، رغم انتفاء إرث الدم، وهي (دنيا) على طبق من ذهب، فامدد يديك وخذها. الليلة الأولى، لا داعٍ للولوج من الأبواب الخلفية، الفتيات - عادة - ينفرن من تلك الأمور . لكنها سرعان ما سوف تمسي أسيرة العادة، وأنت، متى أجبرك (سيد قورة) لأول مرة على ذلك؟!، الذاكرة حجر يحتضن التفاصيل، ورشة المعلم جاد، السيارة ال “,”فيات“,” الرابضة كجثّة على أرض الورشة، “,”سيد“,” رغم برودة الجو يعمل بنشاط، أنت في التاسعة، ورثت جمال أمّك، و .... - مفتاح خمستاشر يا نصّ الانهيار السماوي المباغت يرعش أطرافك بالخوف، الطوفان المائي لا ينتظر الإذن لاحتلال الورشة المنخفضة قليلا عن سطح الشارع، أنت مرتبك وخائف - اقفل الباب بسرعة يا نصّ ارتدّت جحافل الماء، لكن الظلام غول يخطف روحك، آخر حصونك، يدك تحت القصف المدوي للرعد، فتتحجر في مقلتيك دموع مالحة، أمك مريضة، وأبوك غائم الملامح، وهدى الصغيرة لا تكفُّ عن الصراخ، سيد يدخّن سيجارة حشيش بتلذًّذ لم تكن تدرك كنهَه وقتها، تبحث عن موضع لخطواتك بين الظلمة والطين، حتى تصل إلى السيارة، حيث يجلس “,”سيد“,” داخلها مسترخيا، وهائما في ملكوت غير مرئي، في المقعد الخلفي، تجلس واضعا رأسك بين كفيك، لا تحب أن يرى أحد دموعك، لا تذكر أنك احتجت إلى أبيك من قبل، تُرى أين هو الآن؟، الدموع تتحوَّل رغما عنك إلى نهنهة تستعيد “,”سيد“,” من ملكوته، فيغادر مكانه ويجلس إلى جوارك، يمسح دموعك بيده الخشنة، يحتضنك بحنان مريب فتكاد تُزهق أنفاسَك رائحةُ الخلِّ التي تفوح من مسامّه، تدفعه بكل قواك المحدودة، فيفلتك ذاهلا. - يا ابن المجنونة تلمح في عينيه ذلك البريق المجنون الذي يفجره الغضب، المعلم “,”جاد“,” كان يمنعك منه كلما همَّ بضربك، لكنه الآن في بور سعيد لشراء بعض قطع الغيار، فمن يوقف هذا البغل؟، القبضة الحديدية تكاد تهشِّم عظام ذراعك. - شوف بقى يا روح أمك، الليلة دي لا فيه جاد ولا سنيّة، يعني انت الليلة دي ... ولم تدرك معنى عبارته إلا حين وطأ كيانك، ذلك المزيج العجيب من الألم القاهر والمتعة الحارقة . متى اكتشفت “,”دنيا“,” أنك تضع لها الحبوب المنومة في عصير البرتقال؟!، جرس التليفون يوقف تدفق الذكريات، لابد أنه “,”الليثي“,”، ذلك الشيطان الكهل، كنت تنتظر صوته كعابد ينتظر ليلة القدر، فلماذا لا ترغب في الرد عليه الآن؟، ليس “,”الليثىي“,” مجرد موظف عادي، أو حتى خازنة أسرار، إنه نصف عقلك الآخر، مدخلك السحري إلى كنوز الملك سليمان، معا بعتما الموت والتاريخ، وصنعتما امبراطورية (منصور أبو حجر)، آه... متى ينتهى هذا العذاب؟!، الرائحة تطلع من هناك، من قبرٍ في هوَّة الروح، تمتزج بدمك، تسري في الأوردة والشرايين، في الأوعية الدقيقة، في الخلايا، في النواة الأولى للخلق، تحاصرك وتكتم أنفاسك، الرأس معتم معتم، الدموع نزيف داخلي، الموت يبرك على رئتيك، الاختناق، الهواء، العفونة تنشع من مسامّك، أين ذهب الهواء؟!. *********** أنا ذا قد جئت أطلبك، فأين أنت الآن؟، خرج السؤال حائرا ممزقا، ملتهبا عصيَّا، وارتطم بالسكون الممتد اللا نهائي، للصحراء الشاسعة التي تفوح منها رائحة شواء الرمل، تحت القصف البربري لشمس يوليو العفيّة، كانت قد مضت عليه ثلاثة أيام وهو هائم على وجهه في الصحراء، عاري النصف الأعلى، منكوش الشعر والمشاعر، زائغ النظرات، حافي القدمين، وقد طالت لحيته، وأنهكه الجوع والعطش والتعب، والتهب جلده، وأصيب بما يشبه البثور المليئة بالتقيُّحات والصديد، وأخيرا فقد القدرة على تحريك ساقيه، وبدأ رأسه يدور، ودخل كل شيء في دائرة التلاشي، الجبال والكثبان الرملية، الشمس ونقطة التقاء السماء بالأرض في نهاية الأفق، وبدأ جسده يتداعى، حتى ارتطم جسده بالأرض، والتصق وجهه بالرمال الملتهبة، وقبل أن يغمض عينيه، ربما تلك الإغماضة الأخيرة، وقبل أن يفارقه الوعي تماما، رأى السماء تمطر، واندهش لمَّا رأى الماء أبيض، يميل قليلا إلى الاصفرار، وعبَّقت الجوَّ رائحةٌ تشبه رائحة اللبن، يا الله، كانت السماء بالفعل تمطر لَبَناً، والأغرب أن الرمال لم تشرب قطرة واحدة من هذا المطر العجيب، بل أخذ منسوب اللبن في الارتفاع، وحاول جاهدا أن يقف، وأن يجد له مخرجا من الغرق في قلب الصحراء، ولكن خانه الجسد المهدم، والإرادة الاكثر تهدّما، فبدأ يسلم نفسه للمصير المحتوم، وشملته سكينة لم يستشعرها في حياته كلها، وأخذ منسوب اللبن في الارتفاع، حتى غطى جسده ووجهه، لكنه لم يشعر سوى بتلك السكينة تملأ نفسه وروحه، وشعر بنفسه خفيفا رشيقا، حتى ظن أنه يستطيع الطيران لو أراد، فبدأ يحرك ذراعيه، ولم يندهش عندما وجد نفسه يرتفع قليلا قليلا، حتى تلاشى وراء الأفق!!.