انطلاق المؤتمر الختامى لنادي المناظرات والسياسات بجامعة أسيوط    رئيس مركز الفرافرة يواصل لقاءاته الدورية مع المواطنين ويبحث مطالبهم    بلينكن: العمليات الإسرائيلية قرب معبر رفح صعبت إدخال المساعدات لغزة    برلماني: مصر تمارس أقصى درجات ضبط النفس مع إسرائيل    إعلام إسرائيلي: صفارات الإنذار تدوي في مستوطنات شمالي الأراضي المحتلة    أشرف صبحي يلتقي مجلس إدارة اتحاد الكيانات الشبابية    الكشف عن ملعب نهائي دوري أبطال أوروبا 2026    طعنه بالصدر فأودى بحياته، مصرع شاب علي يد آخر بالقليوبية    مجلس أمناء جوائز الصحافة المصرية يرشح جلال عارف للجائزة التقديرية    أسباب التعرق الشديد عند الأطفال وطرق التعامل معه    انتبه- 8 أعراض للسكري تظهر على الأظافر    تقارير| بوتشتينو يدخل اهتمامات اتحاد جدة    اتحاد الكرة يكرم حسن وسامي بعد ظهورهما المشرف في كأس الأمم لكرة الصالات    كيليان مبابى يتوج بجائزة هداف الدورى الفرنسى للمرة السادسة توالياً    مراقبة بدرجة أم.. معلمة بكفر الشيخ "تهوي" للطالبات في لجنة الامتحان "فيديو"    وزير الري يشارك في جلسة "نحو نهج عالمي واحد للصحة" بمنتدى المياه.. صور    قيادى بحماس: حملات إسرائيل استهدفت قطر بالأمس القريب واليوم تبدأ على مصر    محمد درويش يكتب : « نقطة فى بحر »    رئيس البريد: لدينا 30 مليون عميل وحسابات التوفير حصيلتها 300 مليار جنيه    سام مرسي يفوز بجائزة أفضل لاعب في دوري القسم الثاني بتصويت الجماهير    وزارة الصحة تقدم نصائح للحماية من سرطان البروستاتا    هلا السعيد تكشف تفاصيل جديدة عن محاوله التحرش بها من سائق «أوبر»    6 يونيو المقبل الحكم بإعدام المتهمة بقتل طفلتيها التوأم بالغردقة    ضبط المتهمين باختطاف شخص بسبب خلاف مع والده فى منطقة المقطم    إقبال متوسط على انتخابات الغرف السياحية.. والقوائم تشعل الخلافات بين أعضاء الجمعية العمومية    موعد وقفة عيد الأضحى وأول أيام العيد 2024    رئيس هيئة تنمية صناعة التكنولوجيا: التصميمات النهائية لأول راوتر مصري نهاية العام    مجلس الوزراء يبدأ اجتماعه الأسبوعي بالعاصمة الإدارية لبحث ملفات مهمة    وزير الصحة يفتتح الجلسة الأولى من تدريب "الكبسولات الإدارية في الإدارة المعاصرة"    السكة الحديد: تخفيض سرعة القطارات على معظم الخطوط بسبب ارتفاع الحرارة    لمواليد برج الجوزاء.. توقعات الأسبوع الأخير من شهر مايو 2024 (تفاصيل)    البنك المركزي يكشف عن وصول قيمة أرصدة الذهب لديه ل448.4 مليار جنيه بنهاية أبريل    مسابقة 18 ألف معلم 2025.. اعرف شروط وخطوات التقديم    فرقة طهطا تقدم "دراما الشحاذين" على مسرح قصر ثقافة أسيوط    العمل تنظم فعاليات "سلامتك تهمنا" بالمنشآت الحكومية في المنيا    أدعية الحر.. رددها حتى نهاية الموجة الحارة    عاجل..توني كروس أسطورة ريال مدريد يعلن اعتزاله بعد يورو 2024    التصريحات المثيرة للجدل لدونالد ترامب حول "الرايخ الموحد"    أبرزهم بسنت شوقي ومحمد فراج.. قصة حب في زمن الخمسينيات (صور)    افتتاح ورشة "تأثير تغير المناخ على الأمراض المعدية" في شرم الشيخ    تريزيجيه جاهز للمشاركة في نهائي كأس تركيا    «مواني البحر الأحمر»: تصدير 27 ألف طن فوسفات من ميناء سفاجا ووصول 742 سيارة لميناء بورتوفيق    للمرة الأولى منذ "طوفان الأقصى".. بن جفير يقتحم المسجد الأقصى    واشنطن بوست: خطة البنتاجون لتقديم مساعدات لغزة عبر الرصيف العائم تواجه انتكاسات    بإجمالي 37.3 مليار جنيه.. هيئة قناة السويس تكشف ل«خطة النواب» تفاصيل موازنتها الجديدة    الأكبر سنا والمربع السكني.. قرارات هامة من «التعليم» قبل التقديم للصف الأول الابتدائي 2024    الصحة: برنامج تدريبي لأعضاء إدارات الحوكمة في مديريات الشئون الصحية ب6 محافظات    لأول مرة .. انعقاد مجلس الحديث بمسجد الفتح بالزقازيق    حفظ التحقيقات حول وفاة طفلة إثر سقوطها من علو بأوسيم    تعديلات جديدة على قانون الفصل بسبب تعاطي المخدرات    مصر والأردن    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 22-5-2024 في المنيا    رئيس جهاز مدينة 6 أكتوبر يتابع أعمال التطوير بالقطاعين الشرقي والشمالي    هكذا تظهر دنيا سمير غانم في فيلم "روكي الغلابة"    هل تقبل الأضحية من شخص عليه ديون؟ أمين الفتوى يجيب    إنبي: من الصعب الكشف عن أي بنود تخص صفقة انتقال زياد كمال إلى الزمالك    خبير في الشأن الإيراني يوضح أبرز المرشحين لخلافه إبراهيم رئيسي (فيديو)    هل ملامسة الكلب تنقض الوضوء؟ أمين الفتوى يحسم الجدل (فيديو)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قتيل مدرسة البنات
نشر في البوابة يوم 12 - 04 - 2013


قتلته...
نعم قتلته
كنت فى الخامسة من عمرى عندما قتلت خميس الذى لم ولن أعرف بقية اسمه...
وتمر السنوات ، أكثر من أربعين سنة ، ومازلت كلما تذكرتة وهذا يحدث كثيراً أحس بوخزة شديدة فى صدري ...
كان خميس منادى سيارات عمومياً ، رفيعا للغاية ، كانت صابونة ركبته كسن القلم ، البسط تكاد تخرق بنطاله الأزرق الصوفي لبذته الرسمية ، والوحيده لتبدو من القطع .. رقبته كانت كالفتلة ، كثيرة الغضون العرضية ، فيها حفرة يبن الترقوتين واسعة مستديرة كفوهة بركان بعيدة الغور ، اما تفاحة آدم فكانت كرة بنج بونج كاملة ، تصعد وتهبط كلما بلع ريقه وترتج على محورها ، حينما يضحك ضحكاته السمجه ، ولأن رقبتة كانت كالفتلة ، كان لابد أن يمتلك وجهاً صغيراُ ، وجمجمه فى حجم كرة شراب ، صنعت بقليل من الإسفنج ... فى وجهه الصغير حفرت التجاعيد أخاديد ومسارب ومخرات تتشابك جميعها عند خديه المدورين ، كالعشرة الصاغ الفضية ، وكانت عيناه صغيرتين غائرتين لا تكاد تلمح بياضهما اللهم إلا شريطا أصفر ضيقاً يدور حول الننى الأسود الباهت تحت وفوق جفون محمرة ، وكأن اليد التى تخنقه لاتفلت عنقه أبدا ، و كانت له شفتان مكتنزتان منفرجتان دوما عن أسنان بنيه أكلها الدخان بأنواعه المختلفة ، والمعسل الذى يمصُّة معظم الوقت بطريقة مقززة ، وكانت له طريقه خاصة فى التدخين ، يضع السيجارة بين إصبعية السبابة والأوسط ، ويكور يديه الاثنتين متداخلتين فى بعضهما ثم يشد النفس من الثقب الكائن بين الإبهامين وراحة الكفين ، ليطلق دخانا كثيفاً من أنفه مختلطا برائحة جوفة العطنة ، تلك الرائحة التى لا أظن أحداً يشمها إلا الأطفال أمثالى هؤلاء الذين قضت ضآله قاماتهم بان تجعلهم تحت مستوى أنوف الكبار ..
كانت بذتة الرسمية الزرقاء ذات الرقعة الكبيرة المخيطة على ركبتة اليسرى قد تركت منذ زمان نهباً لكل أنواع القاذورات ، لم تكن تهمه البذة فى شئ ، إلا فى جيبها العلوى ناحية اليسار ، حيث كتبت مهنتة ، أكل عيشه “,” منادى عمومى “,” بالخيط السميك ، لم يكن يهتم بالبذة وهى كل رأسمالة فى الحياه ، لكنة كان فخورا أيضاً بهذه الصاجة على كتفة المكتوبة عليها مهنتة نفس المهنة بحروف مضغوطه ، والتىتكون كلمات يحفظها ويرددها كثير عن ظهر قلب ...
وقتلته !!
كنت فى الخامسة وكانت أمى كنساء الشريحة العليا من الطبقة الوسطى فى هذا الزمان حريصة على أن تكون لها شخصية مميزة فى كل أمر من أمور حياتها ، وأهمها على الإطلاق تسريحه الشعر ، وطريقة وضع ، ونوع مساحيق ، المكياج التى تميزهن كبصمات الأنامل فى المجتمع ، كانت أمى تقضى الساعات الطوال أو هكذا كان يقيسها إحساسى الملول بالوقت أمام المرآة تصنع فى صبر ودأب يغيظان ، تسريحة شعرها المميزة ، تصنع فيما أذكره اكثر من ضفيره من بعض شعرها الأسود ، كالليل المنسرح كذيل الحصان، ثم تلف الضفائر بنظام خاص كحكة عند قذالها ، أما بقية الشعر الغزير اللامع بفعل بريانتين ( ياردلى ) الشهير فكانت تديره جالبة إياه إلى الأمام ، فتصنع منه فى دقة متناهية تعريجات محسوبة المقاييس فوق جبهتها العربية العريضة ، كل تعريجة تثبت بفورتيكات ( هي بنس طويلة كحرف يو الإنجليزى ، ذات ذراعين طويلين متعرجين عند نهايتهما ) ثم بعد ذلك تفعل أمى ما لا أدرى كنهه ، لتحصل فى النهاية على نظرة رضاء من المرأة .
كنا نترقب فى شغف قتّال مواعيد خروجنا مع أمنا ...وتحلق بنا السعادة إلى سماوات بعيدة خضراء ، عندما تأمرنا فى حزم “,” البسوا ز.. “,” ، كنا نلبس ما تشير علينا به فى ثوان معدودة ، وننطلق مسبسبى الشعر الخشن ، أنا وأخوتى ، إلى حجرتها فرحين ، لنصطدم بمرآها وهى مازالت أمام المرآة ، تبدأ فى تسليك شعرها ، فنتسلق سريرها مكبوسين نتنهد ، وقد عرفنا أن وقتا طويلا جدا سيضيع هدراُ قبل أن نبدأ خروجنا المرتقب ، نجلس وأقدامنا ، التى ستنقضي سنوات طويلة قبل أن تصل إلى الأرض ، تتطوح فى الهواء من فعل الضيق ..تبتسم أمى فى المرآة وتقول :
انتظرونى تحت ..
فى ثانية واحدة كنا ننهب السلمات الرخامية ، الأربع والثمانين ، لنكون “,” تحت “,” فى مدخل عمارتنا المطل على شارع القصر العينى .. فى المدخل نتوقف لاهثين تبحث أعيننا عن عم على البواب الأسمر المخيف ، فاره الطول ، وعندما لا نجده على دكته الخشبية تتهلل جوانحنا ، ونجرى نتسلق الدكة ، ونجلس لنراقب الشارع الصاخب ، نراقب دنيا كانت تتضاءل كثيرا عندما ننظر إليها من شبابيكنا العالية ، وتنفتح تفصيلاتها المدهشة إذا ما جلسنا “,” تحت “,” ...
كانت عيوننا “,” تحت “,” تتلهف لتحتوى كل التفصيلات المدهشة ، الترام ، وهذا الكمسارى الشجاع ، كالشاطر حسن ، الذى نحسده لأنه يقفز إلى سلم الترام وهو ماش ، بعد أن يكون قد أطلق على المحطة صفارته الطويلة ، ذات الذيل المتأرجح كالصهيل ، أتوبيسات أبى رجيلة ، مقار ، فؤاد درويش ، التى لكل منها نوعه وشكله المميز ، التاكسيات المرسيديس فى نهاية الخمسينات بعيونها المدورة ، وحقيبتها التى يميس انبعاجها ، التاكسيات الفيات القديمة ، ذات الثلاثة الصفوف من المقاعد ، تلك المكعبرة الجميلة ، عربات الحنطور ، كاريتات بائعى اللبن بأجراسها المميزة ، و الكاريتات الراقية لأغنياء المعلمين ، ذات الأحصنة البنية ، الرشيقة المملوءة كبرياء ، و المغذاة على الغالي ، عربات اللحوم ذات الثلاث العجلات ، والناس !! .. كنا نعشق هذة اللحظات ، التى ننفتح فيها على العالم بمكوناتة المبهره ، بل أكاد أجزم أنها ظلت أسعد لحظات حياتى على الإطلاق ...
سعادتى الغامرة تلك ، دأب خميس على إفسادها لفترة طويلة ، ولهذا قتلته !
كانت سعادتنا ، على دكه عم على ، ما أن تبدأ حتى يطل علينا وجه خميس هذا بابتسامته الشوهاء يحيينا ، تنقلب الدنيا رأسا على عقب ، تتغير ألوانها من الفاتح المبهج إلى الغوامق الداكنات ، لكننا خوفا منه لا نجسر إلا على رد تحيته ، رداً لا يفلح خوفنا فى ألا يجعله مقتضبا ، لا روح فيه ...
كان يسقط جالساً إلى جوارنا ، فنقع فى حيص بيص ، لو نزلت أمنا ، ورأتنا نكلمة ليس هو بالخصوص ولكن أى كبير فى الشارع فلن يكون هناك بعدها “,” انتظرونى تحت “,” ، بل لن يكون هناك خروج على الإطلاق ...
وكان بارداً ، كلما تململنا لا يعير تململنا أى اعتبار ، كان وحيداً مقطوعاً من شجرة ، لا أهل ولا ناس كما يقولون ، يقضى أغلب ساعات النهار لا يجد من يكلمه ، فالجميع الجميع يحتقرونه ولا يخافون منه مثلنا ، لعل هذا كان سر فرحته بى وبأخوتى الجنباء ، لأننا ننفر منه فى صمت ، و لا يزيده نفورنا إلا رغبة فى التلطف والاستظراف ...
كان فى محاولة عقيمة يائسة لإسعادنا يمثل لنا مشاهد مسرحية ، هو بطلها الذى يقوم بكل الأدوار فيها ، سيدة تتعارك مع زوجها فى التليفون ، يبدأ من أول جرس التليفون بل من أول إدارة قرصه ، إلى أن تنتهى المكالمة بالمشاجرة ، كنا لا نعرف وقتها ما هو الكلام القبيح ، لكننا كنا نعرف أن ممنوعاً علينا أن نسمع كلام الكبار ، وكانت مشاهده كلها كلام كبار ، أو الكلام الذى حين يبدأ فى أى جلسة ، تتسع عينا أمى ، وتلمعان ، فنطيع أمرهما ونغادر المكان ، مشاهد كثيرة كان يصمم على أن يعرضها لنا ، ونحن نتململ ..نتلصص بالنظر خلفنا خشية أن تفاجئنا أمى ، و تضبطنا متلبسين بالكلام مع الكبار ، وهذا الرذل لا تنطبق له شفتان غليظتان على فم مشوه !!! .
لكن السعادة كالنبات تخرق الأسفلت المتصلب ، كانت السعادة تخترق إصراره عندما يلمح عربة فارهة تركن إلى الرصيف ، ساعتها يتركنا ويجرى إلى العربة ، فندعو الله جميعا أن يكون صاحب العربة مصطفى باشا النحاس ..
كان مصطفى باشا النحاس ، إذا ظهر فى الشارع يقوم له الشارع على رجل ، ويهرع الجميع من كل مدخل بيت أو محل ، ليسلموا على الباشا الذى دارت عليه دوائر الثورة ، يمضى الباشا بين الناس ، الذين يعشقون الثوار بحق ، ويعلقون صورهم فى محلاتهم ، وبيوتهم ،لا تفارق البسمة شفتيه ، ولا البريق الطيب عينيه الحولاوين ..ويظل ينتقل والناس وراءه يتزايدون ، بين محل عواض الفكهانى ، وعم محمد الشامي البقال ، وفرن سميراميس ، ينتقى ما يشاء من السلع ، والكل ، بأكبر رأس فيهم ، يصمم على أن يحمل مشتروات الباشا إلى العربة بنفسه ، حتى عم محمد البقال البدينللغاية ، الذى لم نره أبداً إلا محشوراً وراء طاولة الحساب ،كنا نراه يترجرج مهللاً يحمل ، ومن ورائه صبيانه ، الأكياس البنية الطويلة ، لكى يرصها بنفسه فى شنطة العربة الفارهة ، الرابضة أمامنا كوحش أسطورى ينتمى إلى زمان أخر.
وقت طويل كان ينشغل فيه خميس عنا ، يريحنا من همه ، وخوفنا وينشغل فيه عم سيد الجزار ، هو وصبيان محله فى تنظيف المحل على عجل بالماء والصابون .. وبل الشاش النظيف فوق قطع اللحم المعلقة ، وفى تلميع الزجاج فى الضلفتين العريضتين فى واجهة الدكان ، ورش الرصيف بنشارة الخشب فى كرم حاتمى ، أما أخر جولة فللمرآة ومقابض الثلاجات المعدنية ، لجعل نحاسها يبرق ب “,” البراسو“,” ، بعدها يقف عم سيد بجلبابه الأبيض المعلق فى حيره على كتفين رفيعين ضامرين وبطن كبطن جارتنا ، مايسة الشيخ ، التى لا تخلو أبداً من الأطفال ، بينما رأسه المنضغط ، فى أكثر من مكان ، يتلفت ليسمح لعينة اليمنى التى تخاصم اليسرى بأن تلتقط أية إشارة بانتهاء جولة “,” الباشا “,” إلى محله ، كان الباشا يهل عليه بطلعته الوضيئة ، فيلوي عم سيد الجزار رأسه ناحية اليمين ، يلقى نظرة أخيرة على المحل ، ليتأكد من أن كل شئ فيه يشف ويرف ، ثم يرسم ابتسامة عريضة ، و يتقدم ناحية الباشا ليصافح يده اليمنى ، هو يريد تقبيلها ، و هى تتأبى إلى أن تنسحب ، بينما لسان “,” الباشا “,” يردد ، “,” أستغفر الله ..أزيك ياسيد “,” ، ساعتها يخف الجسد الثقيل ، ويصبح وكأنما ركبه عفريت ، متقافزا ، ليسمح بوصول الباشا إلى المحل النظيف ، الذى لم يدخله الباشا أبداً ولم يلمس كعب حذائه بلاطاته ، ولو لمرة واحدة ، يقف الباشا ، وينظر إلى الداخل ، يهرع عويس الصبى ، إذا لم يكن فى السجن ، خارجا ليسلم ، مقبلا الهواء وراء اليد التى لا تعرف أين تختفى ، ثم يبدأ الباشا كلامه قائلا : ما اوصيكش ، لينتهى كلامه بعدها مباشرة ، فيجرى سيد إلى العربة يفتح بابها منحياً ، ناظراً شزراً إلى خميس المنادى ، الذى يقف كالقط الجائع أمام كلب يأكل ، لا هو يستطيع الاقتراب ، ولا تطاوعه نفسه أن يبتعد ، يستوى الباشا فى عربته فيكاد يختفى ، ولا يبين من زجاجها ، عند ذلك ينادى خميس ليقترب ، فى تلك اللحظة يفسح عم سيد مرغماً المجال لخميس ،الذى يتقدم صائحاً فين أيامك يا باشا ، ويقبض بيده على ما يجود به صاحب المقام ، الذى بقى حتى موته رفيعا ً.
كنا إذا رأينا الشارع ينحنى تبجيلاً ايذانا برحيل عربة الباشا ، نبدا نحن فى التلفت ، داعين الله أن تكون أمنا قد نزلت والجميع مشغولون عنا ، لكن دعواتنا تلك لم تكن لتجاب ، عكس كل الدعوات الأخرى ، وتداهمنا البسمة اللزجة لخميس من جديد ، وقد عاد موفور النشاط ، بحيث لا تستطيع كارثة أن تسكته أو تأخذه بعيداً ...
وذات يوم وكان أخوتى قد سبقونى أنا الاصغر الذى رجله على رجل أمه إلى البيت الكبير فى الحلمية الجديدة ، بدأت أمى تمشيط شعرها ، ولما رأت قدمىّ تتطوحان فى الهواء ، معلقتين فوق حشايا سريرها ، بعيدتين للغاية عن الأرض ، ابتسمت ، وقالت لى : أنتظرنى تحت ، فرحت للغاية . وجريت ، وجاءنى صوت أمى “,” إذا لم تجد على البواب تحت اطلع على طول “,” ، انطلقت بعد أن أوقفنى صوت أمى ، وكلى سعادة انهب السلمات ، وأنا معلق بالدرابزين .
فى تلك اللحظة لم أكن أعى حجم المأساة التى تنظرنى “,” تحت “,” !! ..
بدأ الأمر عند ما لم أجد عم على البواب “,” تحت “,” ، عقلى راح يشدنى من يدى لأطلع ، وعيناى راحتا تجذباننى ناحية الشارع ، قلت لنفسى “,” انتظر قليلا ، قد يحضر عم على البواب ، وأجلس فى حماه ، و قال لي الشيطان أننى هكذا لا أخالف أوامر أمى “,” و قلت لنفسي : دقيقة واحدة إذا لم يحضر بعدها عم ععلي سأجرى طالعاً “,”، وكنت خائفا يرتج داخلي ، مرعوباً من كونى وحدى لأول مره ، دون أخوتى الخوافين ، و مرتبكاً لانني وربما لأول مرة أخالف أمراً صريحاً لأمى ، لسبب أعرف أنها لن تقتنع به ، جلست على الدكة ، وأخذنى الشارع من نفس ، مرالوقت ، ولم أفق إلا على تلك الابتسامة اللزجة تسد الأفق أمامى ، فكرت لحظتها أن أقوم وأجرى طالعاً ، لكن ماذا أقول لأمى ، لن أستطيع أن أكذب فى مواجهتها لأقول أن عم على كان يجلس معى ومضى إلى مشوار فطلعت أنا ، جلس خميس إلى جوارى ، قررت أن أجرى وأقول الحقيقة لأمى ، أمى أرحم من خطر لا أدرى كنهه ، وعندما قررت أن أقوم وجدتنى مكبلاً بخوف جديد ، لم أكن أدرى كنهه ، خوف من عين خميس ، التى عهدتها لا تستقر حدقتها على وضع ، ماذا لو جريت وجرى ورائى على السلم ؟! ، لابد سيلحق بى ، ساعتها تمنيت لو أننى أستطيع قتله ، لم أكن وقتها أعرف أننى سوف أستطيع بعد أيام معدودة ، المهم ، كبلنى الخوف ، وصرت نهباً سهلاً لكلماته المتناثرة ، التى يقذفها فمه الكريه مختلطة بلعابه ، لانفاسه العفنه التى تصلنى مع دخان سجائره الزنوبيا القصيرة البنية الشوهاء ، للسانه الاحمر المندى ذى الحواف البيضاء المقرفة ، الذى يخرجه بين الحين والحين ، ليعاود لحس اللعاب السائل على شفته ، وركني فمه ، لكلام الكبار الذى يصر على أن ينطق به أمامى .
ظللت أفتعل النظر إليه وفى داخلى وهن يريد أن نفك به لولا تأكده من ضعفه فى مواجهة هذا الرجل المخيف .. وفجأة جاءنى الفرج .. وقف خميس ذائغ النظرات يصيح :
الست أم كلثوم .. ست الستات !!!! ..
جرى خميس إلى عربة ( كاديلاك ) فارهة ، فتح بابها ، لتهبط منها أم كلثوم ، لم أفكر ساعتها فى أن أجرى صاعداً ، فكرت فقط فى أن أم كلثوم لها تسريحة خاصة بها كما لأمى تسريحتها الخاصة ، أعجبتنى ابتسامتها الودود ، التى لا تنقص شيئاً من كبريائها ، إنها كأمى حين تضحك ، رحت أتصور نفسى وأنا أحكى لأخى أكبرنا الذى سبقنى للحياه بأكثر من عشر سنوات كيف رأيت أم كلثوم التى يحبها كل الحب ، ويفهم وحده ، ما تتغنى به ، وأتصور أننى أرى فى عينيه أنه يغبطنى لأننى الذى رأيتها ، وليس هو .
مضت أم كلثوم إلى جولتها المعتادة ، الفكهانى ، البقال ، الفرن ، وعم سيد الجزار وانا فرح أنتظر ، إذا ما دخلت مكان ، خروجها منه ، وإذا خرجت من مكان ، ترحيب المكان الآخر وهى تدخل إليه ، كنت أقول لنفسى “,” لن يصدقنى أخى عندما أقول له أن أم كلثوم أقصر من طنط سوسو ، وأن أنفها يشبه أنف دادا فتحية ، وأنها تحب اللون الليمونى ، كماتيلدا ، التى يطل شباك غرفة نومنا الجانبى على حمامها ، والتى تعلق في شباكه ملابسها الداخلية ، السفلى خاصة ، و يعشق أخى قراءة الكتب لساعات بالقرب من هذا الشباك ، وفجأه انتهت جولة ام كلثوم ، ولم أفق إلا على نظرات يلمع دمعها من عين خميس ، أراد بها أن يتأكد من أننى أراه وهو يفتح باب العربه لست الكل ، و صوته يتهدج ، وهو يوصلها إلى عربتها مكرراً : ست الكل ، و عهد الله ست الكل .
فكرت أن أجرى وهو منشغل عنى لاصعد سلالم البيت ، لكن خميس ظل بين الفينة والأخرى ، ينظر لى ، وكأنه لا يريد أن تفلت منى لحظة واحدة من موقفه العظيم ، تأكدت من أننى أذا ما جريت سيلحظ الأمر ، وربما حاول اللحاق بى ، جلست ، مدت أم كلثوم يدها لخميس بنقود من نافذة السيارة ، التى يبرق معدنها ، لكن خميس رفض أن يلتقط ما فى يدها ، راحت سبابتة تهتز فى الهواء معلنه رفضه فى إباء وشمم !! ، وبغتة مال برأسه ، مقترباً من نافذة العربة ، ومرت لحظات سمعته بعدها يغنى ( أنا فى أنتظارك ) !! .
لا أعرف كيف طاوعنى قلبى ، ورحت أضحك مثلى مثل كل من تجمعوا فى الشارع ، من باعة مودعين ، وإناس يتلهفون على رؤية ( الست ) ، جاء عويس صبى عم سيد الجزار ، ذو الابتسامة الطفولية المرتعشة بين شعرات واقفة فى شاربة وذقنه ، اللذين لم أرهما حليقين أبداً ، ساعتها لم أستطيع أن أحدد هل ضحكاتى أنا أم ضحكات عويس هى التى تهز دكة عم على ، وتكاد تخلع مفاصلها فجأة تفرق الجمع الذى كان أمامى ، وأنشق عن خميس العائد يترنح من نشوة ملأت جوانحه ، دخل عم سيد محله ، وبطنه مازالت تعلو وتهبط من الضحك ، وانطلق عويس الذى كان وجوده قد طمأننى ،فهو الذى يحمل اللحم إلى بيتنا ، إذا لم يكن بالسجن وكنت أراه شهماً ، محبوباً من الجميع ، انطلق عويس فى أثر الحاج سيد صائحاً ( شفت ياحاج ) ، ومرة أخرى أصبحت وحيدا أحاول إخفاء خوف يرجنى من داخلى ، بينما الكائن الشائه خميس يتقدم منى بابتسامة مقززة ، وعينين ارتحلت نظراتها فى الأعلى ولم تعد من الملكوت ! ..
جلس خميس إلى جوارى على الدكة ، مد رجليه ، تنهد من أعماق لابد وأنها شديدة الغور ، و العفونة ، فى داخله ، وراح يغمغم :
ح تجبلى راديو !!!
وعلى حين غره انفجر ضاحكا ، وراح كتفاه يتناوبان الصعود والهبوط ، كأرجوحة الاتزان فى حديقة الأطفال ، إذا ما ركبها عفريتان ، وفجأه قام يمثل أمامى مشهد لقائة الأخير بأم كلثوم ، و عويس العائد يتابعه ، كان يقفز فى الهواء ويعطينى جنبه ، ويرسم ( القلاطة الشديدة ) على ملامحه ، متكلما من مناخره ، عندما يؤدي دور أم كلثوم ، ثم يقفز مولينى وجهه الكئيب ، منحياً فى أتجاهى ، وأنفاسه تتخلل شعرى ، عندما يمثل لى كيف رد على أم كلثوم ، وهكذا مراراً حتى أنتهى من قص المشهد كله بتفاصيله المملة ، والمدهشة معا ..
مد يده وقد ثنى مرفقه عاليا ، وقبض فى الهواء على نقود وهمية ، وقال من مناخره
خد .. أنا متشكره قوى ..
و قفز ليمثل دوره :
فلوس !! أنا موش عايز فلوس ياست
وارتسمت ابتسامة متزلفه محزنه على وجهه وهو يقول :
الفلوس دى ياخدها اللى عايش ياست.
وفجأة واجهني ، فى وضع أم كلثوم الجانبى :
هوه أنت بسم الله الحفيظ !!
أنا ميت يا ست الكل طول ما أنا ما بسمعكيش .
وفجاه قطب ما بين حاجبيه ، ونظر كأنه تأثر فى الوضع الجانبى ، ثم قفز ليواجهنى فى مسكنه تحسده عليها فاتن حمامه :
نفسى يا ست أسمعك زى كل الناس..
ومرة واحدة انطلق يغنى فى تخنث شديد
أنا فى انتظارك خبيت نارى فى ضلوعى ، و حطيت إيدي على خدي ، وعديت ، بالثانية غيابك ولاجيت ..
ثم انقلب إلى وضعة الجانبى ، وأخنفت انفه وهو يضحك :
ما أنت بتسمعنى أهوه
كنت باسمعك ياست قبل الرزق ما يرمينى النواحى دى ، الحتة دى حتة أكابر مافيهاش قهاوى ، الاكابر بيستعيبوا يقعدوا على القهوة ...
وفجأة تكلم بمسكنة شديده واسى يعتصره ، تحسده عليهما أمنية رزق بجلال قدرها :
أنا ياست مقطوع من شجرة ، لا بيت ولا تيت ، لا أنيس ولا جليس ، أنا بانام هناك ياست ...
وأشار بيده إلى شارع صفية زعلول حيث تتصدره مدرسة التجارة الثانوية بنات :
بانام جنب السورده .. مع الكلب اللى واقف هناك ده لا مؤاخذه ...
و قفز واعطانى جانب وجهه ، ورسم إمارات تفكير وحيرة على وجهه ، وملامح ألم عظيم :
و بتهوهو زيه ..
يجوز ..
لأ بتهوهو “,” أنا في انتظارك مليت ..
الله يا ست !! .. شفت أنا محروم من إيه ..
متأكد انك موش عايز الفلوس دى ؟
أنا اللى عايزه ياست وعارف إنه مستحيل انك تغنيلى ..
ضحك ضحكة أودعها كل مايستطيعه من قلاطه .
ح ابقى أنا وأنت بنغنى لى ؟!.. كفاية أنت .
واكمل ضحكته مرتجا بقهقهه طويلة ، ثم أردف فى وضعه الجانبى :
تعرف أن صوتك جميل وانك ممكن تكسب منه دهب ..
معقوله دى ياست ؟
شوف أنت تقف وسط الشارع وترقع ( أنا فى انتظارك ) كل العربيات ح تركن من الخضة ..
و الم منهم ما قسم ..
لا..الحكومه هى اللى ح تلمك ، و جايز تدفع لك عشان المرور يمشى ..
و أكمل قهقهته القليطه .. وفجأه استدار وقدا أربد وجهه وسالت دموعه!! ، ثم فرد
راحه يده اليمنى ، و وضع اليسرى فى وسطها على سيفها :
لو حتة راديو يا ست من الصغيرين دول ، عمرى ما ح افتحه و عهد الله إلا لو
كنتى بتغنى ..
خلاص … ح اجيبلك راديو …
قفز فى الهواء
صحيح ياست !! ، أعتبر الكلام ده وعد ياست ؟!!!
أعتبره كلام ستات ..
التفت فى هذه اللحظة وكأن شيئاً لسعنى فى ظهرى ، كانت عينا أمى متسعتين من الدهشة ، تنظران لى وقد نزلت وضبطتنى أكلم الكبار .
جريت فى اتجاه أمى لاختفى فى فستانها ، ذى الصدفات المزركشة ، هربا من عينها ، ولابد أن خميس كان قد لاحظ اتجاه نظراتى ، فقد سبقنى إلى أمى ، وحال بينى وبين ثنيات الفستان صائحا :
الست الهانم !! ثانيه واحده ويكون هنا اجدع تاكسى فى الحته كلها ..
انطلق جاريا ليحضر عم عبدالرحمن - السائق السودانى - من الموقف القريب ...
ظلت أمى شاخصة إلى الأمام لا تريم ، بينما كفى تحاول ان ترتفع لتلامس كفها متمنيه أن تقبض عليها كفها المفروده المتشنجة ...
لم تقل أمى شيئاً ، ركبنا التاكسى وانطلق بنا إلى الحلمية الجديدة .
كانت هذه هى المرة الأخيرة التى قالت لنا أمنا فيها “,” أنتظرونى تحت “,” عرفت هذا بعد أسبوع ، حين وافى ميعاد الخروجة التالية ، دخلت واخوتى على أمى ، مسبسى الشعر ، وملابسنا على سنجه عشرة ، كانت ذاكرتى الطفلة قد نسيت كل شىء ، وكانت أمى قد بدأت لتوها تسليك شعرها المنسرح ، وفجأة تذكرت الأمر كله عند ما قالت أمى فى حزم “,” استنونى فى أودتكم “,”
يارب تموت يا خميس !
جلست فى الحجرة تطبق جدرانها على جنونى وثقل جسيم يرزح فى قلبى الطفل يسحب روحى كلما تساءل اخوتى عما اغضب أمى فجعلها تحرمنا من انتظارها “,” تحت“,” ، “,” تحت “,” حيث الحياة صاخبة والرؤى لا تُمل ، كان داخلى المرتعش بالغضب والحسرة يصرخ :
يارب تموت .. يارب تموت ... يارب تموت يا خميس..
ومات خميس !! ، و لم أعرف ..
بعد أيام نزلت بنا دادا زينب آخذة إيانا إلى حديقة الأطفال ، وعندما رأت عويس على دكته عم علي بادرته بالسؤال :
ايه القلبان اللى كان فى الشارع النهارده يا عويس ده ؟
الواد خميس يا ستى ...
ماله ؟!
غار فى ستين داهية .
قبضوا عليه ؟
مات...
إيه !!
الست أم كلثوم جابت له راديو ... راح استقضى له سيجارتين حشيش ، يتزفت بيهم ولف البطانيه حوالين جسمه ،و رقد يسمع الحفله ، باينه نام والسيجارة فى أيده ، ولا أتسطل وأتدروخ ، و السيجارة وقعت من بين صوابعه ، والبطانية ولعت فوقه ، الناس الصبح لاقوه حته فحمه ....
فى حديقة الأطفال كنت ابكى مخفياً دموعى عن أخوتى حتى لا يسألونى عن السبب ، وبينما المرجيحه تعلوبى وتقربنى من السماء ... صاح داخلى ...
ليه يا رب تصدقني و تموته ليه !!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.