بقدر ما يتردد السؤال على إيقاع الرحيل الحزين لثعلب المستطيل الأخضر في الملاعب المصرية:"ماذا في حمادة إمام"؟! بقدر ماتشكل الإجابة صفحات مضيئة في ثقافة الساحرة المستديرة كتبها هذا اللاعب الذي بكته مصر كلها. ويجمع النقاد على أن حمادة إمام الذي قضى أمس الأول السبت عن عمر يتجاوز ال 67 عاما كان أحد أفضل من أنجبتهم مصر في مركز قلب الهجوم وتميز بمهاراته الرفيعة المستوى والخفة والسرعة والرشاقة حتى استحق عن جدارة لقب "الثعلب". ويظهر حجم الحضور في جنازته ومدى التنوع في انتماءات المشاركين في وداع حمادة إمام لمثواه الأخير أمس الأحد تقديرا من المجتمع المصري بكل أطيافه لثعلب المستطيل الأخضر فيما كان من الدال تصدر نجوم ورموز النادي الأهلي مثل طارق سليم ومحمود الخطيب صفوف المشيعين. وحمادة إمام الذي ولد يوم الثامن والعشرين من نوفمبر عام 1948 في القاهرة وانضم لفريق الناشئين بنادي الزمالك عام 1957 ينتمي لأسرة رياضية حيث كان والده يحيي إمام من أبرع حراس المرمى في الملاعب المصرية، كما أن نجله حازم إمام يرأس حاليا جهاز الكرة بنادي الزمالك. هذا لاعب سيبقى طويلا في ذاكرة الحنين لأروع أيام الساحرة المستديرة في مصر شأنه في ذلك شأن لاعب كبير مثل "الساحر الإنجليزي" الراحل ستانلي ماتيوس أو "المايسترو المصري" صالح سليم حيث يتحول هذا النوع من اللاعبين إلى ما يشبه الأسطورة التي تتناقلها الأجيال ويرويها الآباء للأبناء والأحفاد. وإذا كان السير ستانلي ماتيوس ساحر الكرة الإنجليزية قد "عمر طويلا في الملاعب" فإن "الثعلب" حمادة إمام اعتزل كلاعب في الزمالك عام 1974 غير أنه لم يفصم عرى علاقاته الوثيقة بالساحرة المستديرة سواء كإداري كبير بناديه والاتحاد المصري لكرة القدم أو كمعلق ومحلل رياضي على الشاشة الصغيرة. وللساحرة المستديرة ثقافتها ومصطلحاتها وأيامها الحميمة للغاية مثلما يقول البعض في مصر "لقد عشنا زمن المايسترو صالح سليم" أو "زمن الثعلب حمادة إمام" تماما، كما يقول الإنجليز من كبار السن:"عشنا زمن ستانلي ماتيوس وشاهدناه يلعب في كأس انجلترا وهو في التاسعة والأربعين من عمره"!. وفي كتاب صدر بالإنجليزية بعنوان "الساحر:حياة ستانلي ماتيوس" يقدم المؤلف جون اندرسون سيرة ذاتية لحياة نجم كرة القدم الإنجليزية والحاصل على لقب "سير" ستانلي ماتيوس فيما يبحث هذا الكتاب عن إجابة للسؤال الكبير:"ماذا في هذا اللاعب وأي سر جعله حيا في القلوب والعقول بعد رحيله؟!" ولعله سؤال ينطبق أيضا على "الثعلب"حمادة إمام. ولم يخيم الحزن على نادي الزمالك وحده لفقدان "ثعلب المستطيل الأخضر" وإنما عمت حالة الحزن كل الأندية المصرية وجماهير كرة القدم في ساعات تبدت فيها دموع الساحرة المستديرة وهي تودع أحد أروع عشاقها ولاعبيها الكبار الذي رحل عن هذه الحياة الدنيا في مستهل عام جديد. وكان أحد ثعالب الكرة المصرية وهو عبد العزيز عبد الشافي الشهير "بزيزو" والذي يتولى حاليا رئاسة قطاع كرة القدم بالنادي الأهلي قد أعرب عن بالغ حزنه لرحيل حمادة إمام واستدعى ذكرياته مع "الثعلب الكبير على المستطيل الأخضر"، مشيرا إلى أنه كان بأخلاقه الرياضية نموذجا يحتذى. وعلى مدى مسيرته الكروية كلاعب جنبا إلى جنب مع نجوم "جيل الستينيات" كسمير قطب وعبده نصحي ونبيل نصير وعصام بهيج وعمر النور وأبو رجيلة وعلي محسن تمكن فريق الزمالك من الفوز عدة مرات ببطولتي الدوري والكأس. ولاجدال أن "ثعلب المستطيل الأخضر" هو أحد أهم من منحوا فريق الزمالك الكثير من الشعبية في مصر والعالم العربي لتتحول "القلعة البيضاء" إلى منافس يحسب حسابه من جانب "القلعة الحمراء" أو النادي الأهلي بتاريخه المديد وإنجازاته الهائلة وشعبيته الجارفة وشهرته المدوية في العالم قاطبة. واستحق حمادة إمام لقب "الثعلب الكبير" لأنه من أذكى المهاجمين الذين شهدتهم الملاعب المصرية وأكثرهم براعة في خداع المدافعين وتبقى بعض أهدافه محفورة للأبد في ذاكرة الساحرة المستديرة مثل الهدف الذي سجله في مرمى فريق وست هام الإنجليزي عام 1965. ومن هنا حق لسيد عبد الحفيظ مدير الكرة بالنادي الأهلي أن يقول في سياق نعيه لحمادة إمام "فقدنا قيمة تاريخية كبيرة ورمزا من رموز الكرة المصرية"، فيما كشف فاروق جعفر عن أنه وقع في هوى نادي الزمالك ولعب في صفوفه بسبب حبه لثعلب المستطيل الأخضر. ومثله مثل السير ستانلي ماتيوس الذي ولد في الأول من فبراير عام 1915 وقضي في الثالث والعشرين من فبراير عام 2000 عرف حمادة إمام مجال التدريب بعد اعتزاله كلاعب حيث عمل لفترة كمدير للكرة بنادي الزمالك وكان قد وصل لرتبة العميد في صفوف القوات المسلحة. ولئن كان ستانلي ماتيوس قد تزوج من في زمن الحرب الباردة والصراع بين حلفي الأطلنطي ووارسو من عميلة للشرطة السرية في تشيكوسلوفاكيا ايامئذ لكنه كان يصف زوجته "ميلا وينتروفا" بأنها "حبه الكبير" فإن حمادة إمام اقترن بأستاذة جليلة تقدم العلم والمعرفة لطلابها في كليات الإعلام وهي الأستاذة الدكتورة ماجي الحلواني. وإذا كان مؤلف كتاب "الساحر" قد سعى في سياق بحثه عن إجابة لسؤاله الكبير حول سر تعلق الجماهير الإنجليزية بستانلي ماتيوس للتطرق للياقته البدنية العالية والسرعة والجلد والذكاء وهي سمات تمتع بها أيضا حمادة إمام تماما كما أن صفة الاستقامة الأخلاقية التي تمتع بها ستانلي ماتيوس كانت تنطبق بامتياز على "ثعلب المستطيل الأخضر". واللاعبون من هذا الطراز الرفيع المستوى يكتبون بالفعل صفحات مضيئة في ثقافة الساحرة المستديرة ويجيبون في المستطيل الأخضر عن السؤال "كيف ينبغي أن تلعب كرة القدم"؟!.. وكل لاعب من هذه السلالة التي انتمي لها حمادة إمام لديه "كيمياء خاصة للغاية في التواصل مع الجماهير وفهم احتياجاتها في اللحظات الحرجة". ومن هنا فإن ستانلي ماتيوس مازال بعد كل هذه السنوات من رحيله يشكل مصدر سحر لجماهير الكرة الإنجليزية وربما لكثير من عشاق الساحرة المستديرة في العالم لأنه لم يهجر كلاعب المستطيل الأخضر حتى سن ال50 عاما وكذلك حمادة إمام مع أنه ودع المستطيل الأخضر كلاعب منذ عام 1974. ولاعب مهاري كحمادة إمام لم يكن ليتفق مع كتاب آخر جديد بنزعته المثيرة للقلق نحو "برمجة الساحرة المستديرة وتحويلها لنماذج رياضية وإحصائية" والتي تتصادم مع أجواء يحبها المصريون شأنهم في ذلك شأن كل شعوب العالم العاشقة لكرة القدم!.. هذا كتاب ينتمي لما يسمى بثقافة الحداثة الكروية ولايعرف بحساباته الباردة دفء القلوب والأرواح وغواية الأحلام وشروق البراءة!. في كتاب"لعبة الأرقام:لماذا كل ماتعرفه عن كرة القدم هو خطأ؟!"- يناقش كريس اندرسون ودافيد سالي طرفا من هذه القضية حيث بات علماء الرياضيات على تماس مباشر مع الملاعب والرياضة كما يعشقها الجماهير لاالرياضيات بصرامتها وجديتها وأرقامها الجافة. ودافيد سالي هو عالم متخصص في نظريات السلوك الاقتصادي ويحب أن يصف نفسه بأنه "محدث كرة قدم"، أما كريس اندرسون فهو استاذ جامعي في العلوم السياسية وكان من قبل يلعب كرة القدم في دوري الدرجة الرابعة الألماني وهاهما الآن يثيران الكثير من الاسئلة في هذا الكتاب عن لعبة الأرقام والإحصاءات وبناء النماذج الحسابية الرياضية في عالم الساحرة المستديرة!. فثمة اتجاه واضح بالفعل في الغرب "لبرمجة الألعاب الرياضية ومزجها بالرياضيات" وبحيث يكون المدرب أو الإدارة الناجحة في هذه الحالة هي الأكثر براعة في بناء النماذج الإحصائية والقيام بتحليلات رياضية يعول عليها في الفوز أكثر من مهارات اللاعبين وفنون الملاعب !. والمعنى الخطير الذي ينبه له هذا الكتاب الجديد أن اللاعبين أنفسهم يمكن أن يتحولوا لشيء أقرب للإنسان الآلي أو الروبوت وبحيث تقاس مهاراتهم فعليا حسب استجاباتهم لعلماء الرياضيات واصحاب التحليلات الاحصائية والنماذج التي تبنى قبل أي مباراة بناء على هذه الاحصاءات بدلا من مهاراتهم على المستطيل الأخضر!. انها نظرة للرياضة عموما وكرة القدم على وجه الخصوص كصناعة واستثمارات قبل أن تكون متعة وبهجة !.ولايمكن لعشاق الساحرة المستديرة و"ثعلب المستطيل الأخضر" و"المايسترو" أن يتفقوا مع هذه النظرة. فلا جدال أن كل هذا السيل من الأرقام ينزع البراءة عن لعبة اقترنت بكثير من البراءة في بداياتها ويؤدى لتآكل البهجة في عالم الساحرة المستديرة. هاهي هيئات واتحادات تحمل صفة العالمية تظهر متخصصة في الاحصاءات الخاصة بكرة القدم فيما يسعى البعض بجدية "لبرمجة" اللعبة التي اجمل مافيها أن احدا لايعرف الفائز أو الخاسر قبل أن يطلق الحكم صافرته ايذانا بنهاية المباراة. وهناك في أمريكا من يسمونهم بسحرة الأرقام والذين يختزلون لعبة البيسبول بكل شعبيتها لدى الأمريكيين لمجموعة من الجداول والأرقام التي تتصادم بجفافها وغلظتها مع مشاعر دافئة من الحماس والرغبة في المتعة لدى مشجعي هذه اللعبة الذين لايعنيهم كثيرا في الملاعب النظريات الثورية في الرياضيات الحديثة لعلماء جامعة اوكلاند!. ومع أن هذا الكتاب الجديد الصادر بالانجليزية يلفت عن حق لنقطة هامة وهي أن لعبة كرة القدم على وجه الخصوص تختلف عن كثير من الألعاب الرياضية الأخرى ومن بينها البيسبول من حيث صعوبة "قولبتها أو برمجتها وتحويلها لنماذج رياضية وتحليلات احصائية بسبب طبيعة الساحرة المستديرة وخاصيتها الأصيلة في صعوبة التنبؤ على وجه اليقين بنتائج مبارياتها" فان ذلك كله لم يفت في عضد هؤلاء الساعين "لبرمجة الساحرة المستديرة"!!. وقد يشعر عشاق الساحرة المستديرة بكثير من القلق والكدر عندما يقول مؤلفا الكتاب أن هناك اندية بالفعل في أوروبا طلبت الاستعانة بخدماتهما في مجال البرمجة والنماذج الاحصائية!..والقضية في جوهرها متصلة بصلب اشكالية "تسليع كرة القدم التي باتت صناعة هائلة ذات استثمارات ضخمة ويهمها تحقيق المزيد من الأرباح قبل أي شيء آخر". لكن "ثعلب المستطيل الأخضر" كان منحازا للمتعة في ثقافة الساحرة المستديرة تماما مثل اريجو ساكي المدرب السابق لمنتخب ايطاليا وفريق ميلان الذي يقول:"لايجوز ابدا أن نتجاهل قيمة اللعب البديع والسخي والجماعي والمرح والكرة الجذابة"..انها ثقافة مضادة للرأسمالية المتوحشة التي تريد التهام الساحرة المستديرة وسرقة المتعة البريئة للجماهير!. أنه حمادة امام "ثعلب المستطيل الأخضر" وصاحب الإشارة والعلامة..المنحاز لثقافة البهجة والبراءة في عالم الساحرة المستديرة..ابن حي المنيرة القاهري الذي عانق مصر كلها واحبها وخدم في صفوف جيشها الوطني..لن تقول وداعا ايها الساطع العبق..فمثلك سيبقى للأبد في ذاكرة الساحرة المستديرة وذاكرة شعب منحته فرحة مستحقة.