بقدر ما يتردد السؤال على ايقاع الرحيل المباغت للغزال الأسمر فى الملاعب المصرية: "ماذا فى إبراهيم يوسف"؟! بقدر ما تشكل الإجابة صفحات مضيئة فى ثقافة الساحرة المستديرة كتبها هذا اللاعب الذى بكته مصر كلها. ويجمع النقاد على أن إبراهيم يوسف كان أحد أفضل من أنجبتهم مصر فى مركز قلب الدفاع وتميز بمهاراته الرفيعة المستوى والخفة والسرعة والرشاقة حتى استحق عن جدارة لقب "الغزال الأسمر". هذا اللاعب سيبقى طويلا فى ذاكرة الحنين لأروع أيام الساحرة المستديرة فى مصر شأنه فى ذلك شأن لاعب كبير مثل "الساحر الانجليزى" الراحل ستانلى ماتيوس او "المايسترو المصرى" صالح سليم حيث يتحول هذا النوع من اللاعبين إلى ما يشبه الأسطورة التى تتناقلها الأجيال ويرويها الآباء للأبناء والأحفاد. وعلى النقيض من السير ستانلى ماتيوس ساحر الكرة الإنجليزية الذى "عمر طويلا فى الملاعب" ودع "الغزال الأسمر" إبراهيم يوسف الملعب مبكرا وهو لم يبلغ بعد ال28 عاما جراء مشاكل طبية وإصابات فى الركبة. وللساحرة المستديرة ثقافتها ومصطلحاتها وأيامها الحميمة للغاية مثلما يقول البعض فى مصر: "لقد عشنا زمن صالح سليم" أو "زمن الغزال إبراهيم يوسف" تماما كما يقول الإنجليز من كبار السن :"عشنا زمن ستانلى ماتيوس وشاهدناه يلعب فى كأس إنجلترا وهو فى التاسعة والأربعين من عمره"!. وفى كتاب جديد صدر بالإنجليزية بعنوان: "الساحر: حياة ستانلى ماتيوس" يقدم المؤلف جون اندرسون سيرة ذاتية لحياة نجم كرة القدم الإنجليزية والحاصل على لقب "سير" ستانلى ماتيوس فيما يبحث هذا الكتاب عن إجابة للسؤال الكبير: "ماذا فى هذا اللاعب وأى سر جعله حيا فى القلوب والعقول بعد رحيله؟!" ولعله سؤال ينطبق أيضا على "الغزال الأسمر" إبراهيم يوسف. لم يخيم الحزن على نادى الزمالك وحده لفقدان "الغزال الأسمر" وإنما عمت حالة الحزن كل الأندية المصرية وجماهير كرة القدم فى ساعات تبدت فيها دموع الساحرة المستديرة وهى تودع أحد أروع عشاقها ولاعبيها الكبار الذى رحل عن هذه الحياة الدنيا فى أول أيام شهر الصوم الفضيل. وكان مجلس إدارة اتحاد كرة القدم قد اتفق مع الأندية على إلغاء الدورى الممتاز هذاالموسم رسميا فى ظل تأكيدات على أن "مصلحة الوطن العليا تفتضى الإلغاء" فيما ذكرت صحف ووسائل إعلام أن مجلس إدارة الاتحاد "قرر مخاطبة وزارة الداخلية للمرة الأخيرة" لإبداء رأيها حول هذا الموضوع. وبدأ الاجتماع الأخير لمجلس إدارة اتحاد كرة القدم وممثلى الأندية بالوقوف دقيقة حدادا على روح إبراهيم يوسف عضو مجلس إدارة نادى الزمالك ونجم المنتخب الوطنى السابق. ومثله مثل السير ستانلى ماتيوس الذى ولد فى الأول من فبراير عام 1915 وقضى فى الثالث والعشرين من فبراير عام 2000 عرف إبراهيم يوسف مجال التدريب بعد اعتزاله كلاعب والطريف أن "الغزال الأسمر" كان من ضباط الشرطة وقضى وهو برتبة العميد أما ستانلى ماتيوس فتزوج فى زمن الحرب الباردة والصراع بين حلفى الأطلنطى ووارسو من عميلة للشرطة السرية فى تشيكوسلوفاكيا، لكنه كان يصف زوجته "ميلا وينتروفا" بأنها "حبه الكبير". وإذا كان مؤلف كتاب "الساحر" قد سعى فى سياق بحثه عن إجابة لسؤاله الكبير حول سر تعلق الجماهير الانجليزية بستانلى ماتيوس للتطرق للياقته البدنية العالية والسرعة والجلد وهى سمات تمتع بها أيضا إبراهيم يوسف تماما، كما أن صفة الاستقامة الأخلاقية التى تمتع بها ستانلى ماتيوس كانت تنطبق بامتياز على "الغزال الأسمر". اللاعبون من هذا الطراز الرفيع المستوى يكتبون بالفعل صفحات مضيئة فى ثقافة الساحرة المستديرة ويجيبون فى المستطيل الأخضر عن السؤال :"كيف ينبغى أن تلعب كرة القدم"؟!..وكل لاعب من هذه السلالة التى ينتمى لها إبراهيم يوسف لديه "كيمياء خاصة للغاية فى التواصل مع الجماهير وفهم احتياجاتها فى اللحظات الحرجة". ومن هنا فإن ستانلى ماتيوس مازال بعد كل هذه السنوات من رحيله يشكل مصدر سحر لجماهير الكرة الانجليزية وربما لكثير من عشاق الساحرة المستديرة فى العالم لأنه لم يهجر كلاعب المستطيل الأخضر حتى سن ال50 عاما وكذلك إبراهيم يوسف مع أنه ودع المستطيل الأخضر مبكرا. وإبراهيم يوسف لم يكن ليتفق مع كتاب آخر جديد بنزعته المثيرة للقلق نحو "برمجة الساحرة المستديرة وتحويلها لنماذج رياضية وإحصائية" والتى تتصادم مع أجواء يحبها المصريون شأنهم فى ذلك شأن كل شعوب العالم العاشقة لكرة القدم!..هذا كتاب ينتمى لما يسمى بثقافة الحداثة الكروية ولايعرف بحساباته الباردة دفيء القلوب والأرواح وغواية الأحلام وشروق البراءة!. فى كتاب"لعبة الأرقام:لماذا كل ماتعرفه عن كرة القدم هو خطأ؟!"-يناقش كريس اندرسون ودافيد سالى طرفا من هذه القضية حيث بات علماء الرياضيات على تماس مباشر مع الملاعب والرياضة كما يعشقها الجماهير لا الرياضيات بصرامتها وجديتها وأرقامها الجافة. ودافيد سالى هو عالم متخصص فى نظريات السلوك الاقتصادى ويحب أن يصف نفسه بأنه "محدث كرة قدم" اما كريس اندرسون فهو استاذ جامعى فى العلوم السياسية وكان من قبل يلعب كرة القدم فى دورى الدرجة الرابعة الألمانى وهاهما الآن يثيران الكثير من الأسئلة فى هذا الكتاب عن لعبة الأرقام والاحصاءات وبناء النماذج الحسابية الرياضية فى عالم الساحرة المستديرة!. فثمة اتجاه واضح بالفعل فى الغرب "لبرمجة الألعاب الرياضية ومزجها بالرياضيات" وبحيث يكون المدرب او الادارة الناجحة فى هذه الحالة هى الأكثر براعة فى بناء النماذج الاحصائية والقيام بتحليلات رياضية يعول عليها فى الفوز أكثر من مهارات اللاعبين وفنون الملاعب !. والمعنى الخطير الذى ينبه له هذا الكتاب الجديد أن اللاعبين أنفسهم يمكن أن يتحولوا لشيء أقرب للانسان الآلى او الروبوت وبحيث تقاس مهاراتهم فعليا حسب استجاباتهم لعلماء الرياضيات وأصحاب التحليلات الاحصائية والنماذج التى تبنى قبل اى مباراة بناء على هذه الاحصاءات بدلا من مهاراتهم على المستطيل الأخضر!. انها نظرة للرياضة عموما وكرة القدم على وجه الخصوص كصناعة واستثمارات قبل أن تكون متعة وبهجة !.ولايمكن لعشاق الساحرة المستديرة و"الغزال الأسمر" و"المايسترو" أن يتفقوا مع هذه النظرة، فلاجدال أن كل هذا السيل من الأرقام ينزع البراءة عن لعبة اقترنت بكثير من البراءة فى بداياتها ويؤدى لتآكل البهجة فى عالم الساحرة المستديرة . هاهى هيئات واتحادات تحمل صفة العالمية تظهر متخصصة فى الاحصاءات الخاصة بكرة القدم فيما يسعى البعض بجدية "لبرمجة" اللعبة التى أجمل مافيها أن أحدا لايعرف الفائز او الخاسر قبل أن يطلق الحكم صافرته ايذانا بنهاية المباراة . وهناك فى أمريكا من يسمونهم بسحرة الأرقام والذين يختزلون لعبة البيسبول بكل شعبيتها لدى الأمريكيين لمجموعة من الجداول والأرقام التى تتصادم بجفافها وغلظتها مع مشاعر دافئة من الحماس والرغبة فى المتعة لدى مشجعى هذه اللعبة الذين لايعنيهم كثيرا فى الملاعب النظريات الثورية فى الرياضيات الحديثة لعلماء جامعة اوكلاند!. ومع أن هذا الكتاب الجديد الصادر بالانجليزية يلفت عن حق لنقطة هامة وهى أن لعبة كرة القدم على وجه الخصوص تختلف عن كثير من الألعاب الرياضية الأخرى ومن بينها البيسبول من حيث صعوبة "قولبتها او برمجتها وتحويلها لنماذج رياضية وتحليلات احصائية بسبب طبيعة الساحرة المستديرة وخاصيتها الأصيلة فى صعوبة التنبؤ على وجه اليقين بنتائج مبارياتها" فإن ذلك كله لم يفت هؤلاء الساعين "لبرمجة الساحرة المستديرة"!!. وقد يشعر عشاق الساحرة المستديرة بكثير من القلق والكدر عندما يقول مؤلفا الكتاب أن هناك أندية بالفعل فى أوروبا طلبت الاستعانة بخدماتهما فى مجال البرمجة والنماذج الاحصائية!.. والقضية فى جوهرها متصلة بصلب اشكالية "تسليع كرة القدم التى باتت صناعة هائلة ذات استثمارات ضخمة ويهمها تحقيق المزيد من الأرباح قبل اى شيء آخر". لكن "الغزال الأسمر" كان منحازا للمتعة فى ثقافة الساحرة المستديرة تماما مثل اريجو ساكى المدرب السابق لمنتخب إيطاليا وفريق ميلان الذى يقول :"لايجوز أبدا أن نتجاهل قيمة اللعب البديع والسخى والجماعى والمرح والكرة الجذابة"..انها ثقافة مضادة للرأسمالية المتوحشة التى تريد التهام الساحرة المستديرة وسرقة المتعة البريئة للجماهير!. إنه إبراهيم يوسف صاحب الاشارة والعلامة..المنحاز لثقافة البهجة والبراءة فى عالم الساحرة المستديرة..ابن الجنوب الذى عانق مصر كلها..لن تقول وداعا أيها الساطع العبق..فمثلك سيبقى للأبد فى ذاكرة الساحرة المستديرة وذاكرة شعب منحته فرحة مستحقة..سنكفكف الدموع ونعرف أين تتجه الصعاب!.