كأن مونديال 2010 شاء قبل ان يرحل ان يشعل حوارات بين اوغاد ونبلاء علي المستطيل الأخضر ويفتح ملف الغش والخداع لتحقيق الفوز بأي ثمن حتي ولو كان علي حساب اللعبة الجميلة ذاتها وخصما من رصيدها ومصداقيتها فيما بات السؤال يتردد بقوة: هل الساحرة المستديرة عادلة؟. وعلي مدي هذا المونديال الذي يقترب حثيثا من لحظة النهاية كان للعين الفاحصة ان تلحظ بسهولة تساؤلات لنقاد ومعلقين كرويين علي مستوي العالم حول مدي عدالة الساحرة المستديرة فيما تردد من كلمات وعبارات دالة مثل: "غش.. خداع.. ألاعيب صغيرة ومؤذية من لاعبين صغار.. المحن التي شهدتها البطولة.. ضربات ترجيح ملعونة.. حظ عاثر.. فوز غير مستحق.. هزيمة للفريق الأفضل". وفي اشارات متوالية لمجريات مباراة غانا واورجواي في دور الثمانية والتي انتهت بخروج النجوم السوداء من المونديال يعتبر العديد من النقاد في الصحافة ووسائل الاعلام الغربية ان هذه المباراة تبرهن علي صدق مقولة في عالم الساحرة المستديرة وهي: "ان الفوز قد لايكون دائما حليف الفريق الأفضل في المباراة". ورغم محاولات يائسة من جانب اوسكار تاباريز المدير الفني لمنتخب اورجواي للدفاع عن لاعبيه ونفيه ان يكون فريقه قد وصل للمربع الذهبي لمونديال 2010 بالغش فان هناك الآن جدلا واسع النطاق حول مافعله اللاعب المهاجم لويس سواريز عندما منع بيده هدفا محققا للغانيين وماذا كان هذا اللاعب الذي اعتبره شعب اورجواي بطلا قوميا هو في الحقيقة وغد من اوغاد المستطيل الأخضر واغتال غدرا الحلم الأفريقي في الصعود للمربع الذهبي للعرس الكروي العالمي. وتسبب لويس سواريز في ان ينقب بعض النقاد والمعلقين ومن بينهم باول فليتشر في ثقافة بلاده وعقد مقارنات بين ثقافة افريقيا وثقافة اورجواي ليخلصوا الي ان مافعله هذا اللاعب هو عمل مرفوض وغش صريح في الثقافة الأفريقية اما في ثقافة بلاده فهو نوع من المكر واستغلال الظروف مهما كانت لتحقيق النصر. غير ان هذا النصر لم يوقف تساؤلات النقاد مثل: هل من العدالة ان يكون منتخب اورو.جواي الذي فاز علي غانا بضربات الجزاء الترجيحية وفي مباراة كانت كفة النجوم السوداء فيها هي الأرجح والأجمل هو الممثل الوحيد للكرة الأمريكية اللاتينية بكل تاريخها وابداعها وسحرها في المربع الذهبي للمونديال حتي لو كان هذا الفريق قد حمل لقب المونديال منذ عقود طويلة بينما تنسحب من العرس الكروي العالمي منتخبات امريكية لاتينية جعلت الكثير من البشر في هذا العالم يعشقون كرة القدم؟. بل ان هناك من المعلقين الكرويين من ذهب الي ان صعود ثلاثة منتخبات اوروبية للمربع الذهبي لمونديال 2010 هي المانياواسبانيا وهولندا مقابل منتخب امريكي لاتيني واحد وغياب القارة السمراء بأكملها فضلا عن آسيا امر يثير تساؤلات حول عدالة الساحرة المستديرة. وواقع الحال ان هذه التساؤلات القلقة قد ترجع الي حد كبير الي عدم القدرة علي التفرقة والتمييز بين النسبي والمطلق.. فالساحرة المستديرة جزء من هذا العالم الذي يخضع للنسبية حتي في عدالته اما العدالة المطلقة فمكانها ليس في الأرض وانما في السماء. ومع ذلك فحتي في اطار نسبية العدالة لابد من ملاحظة ان الساحرة المستديرة تنحاز كلعبة جميلة لكل ماهو جميل ولاتحتفظ في نهاية المطاف في ذاكرتها سوي بكل ماهو اصيل ومبدع بقدر ماتنسي او تتناسي كل ماهو غث ومزيف او فاقد لحرارة الابداع وحميمية الفن. والساحرة المستديرة كما يقول دارسوها تاريخها تراكمي منذ ان ولدت من تربة الابداع والعفوية والبساطة والصدق والبراءة والفطرة السليمة وهي بالضرورة وبحكم النشأة ترفض الانتصارات المزورة وتلعن التواطؤ والتلاعب حتي وان بدا علي السطح الخادع والمخادع ان طرفا ما حقق انتصارا دون جدارة. فحسابات الساحرة المستديرة في كتاب التاريخ وزمنها الفعلي ولحظاتها الحقيقية التي تبقي للأبد في ذاكرتها كابداعات راسخة تختلف بالضرورة عن الاعيب الصغار وحسابات التجار ومنطق البورصة والمكاسب والخسائر الوقتية الزائلة والتي لاتبقي طويلا علي المستطيل الأخضر. وإن كان مونديال 2010 قد سلط اضواء كاشفة علي ظاهرة العنصرية المقيتة في الكرة الفرنسية والتحيزات ضد اللاعبين المنتمين لأصول افريقية فقد وضع الاتحاد الدولي لكرة القدم "الفيفا" تحت المجهر. وبسبب النزعة الواضحة "لتسليع" كرة القدم اي تحويل اللعبة الجميلة لسلعة تتنافي مع طبيعة اللعبة وادارة شئون الساحرة المستديرة بمنطق التجار تعرضت "الفيفا" في هذا المونديال لهجوم غير مسبوق فضلا عن اتهامات بازدواجية المعايير والكيل بمكيالين بينما راح البعض ينقب في ملفات الفساد القديمة ويبحث عن فضائح فساد جديدة في اروقة ودهاليز الفيفا. وانتقد المعلق الكروي مارتين روجرز بشدة خلو الوثيقة الجديدة للمجلس الحاكم للفيفا حول قواعد كرة القدم والتي جاءت في 140 صفحة من كلمة "الغش" معتبرا ان الفيفا يتجاهل بذلك ممارسات تجلت في العديد من وقائع ومجريات مونديال 2010 وبطولات كروية اخري ومن بينها مسألة التلاعب في المراهنات فيما سيؤدي تجاهل هذه الممارسات الي اثارة مشكلة خطيرة تضع الساحرة المستديرة ذاتها في موضع شبهات وشكوك عميقة حول نزاهة اللعبة الأكثر شعبية في العالم. ويري مارتين روجرز ان مونديال 2010 اظهر قدرا كبيرا من عدم عدالة الساحرة المستديرة من حيث نتائج المباريات في رحلة المسير نحو المربع الذهبي للبطولة فيما يتفق معه الحكم الاسكتلندي السابق كيني كلارك معتبرا ان المستطيل الأخضر بات يئن من لاعبين يمارسون الغش والتحايل علي الحكام والتظاهر بتعرضهم لاصابات دون ان يرف لهم جفن. ولعل هذا المعلق الكروي قد شعر بالارتياح عندما سمع المدير الفني لمنتخب اسبانيا فينسنت ديل بوسكي يقول بعد مباراة الماتادور مع منتخب باراجواي والتي فاز فيها فريقه بهدف واحد ليصعد للمربع الذهبي للمونديال :"فريقي لم يلعب جيدا ولابد وان اعترف بأن فريق باراجواي يستحق التحية لادائه في هذه المباراة". بهذا الاعتراف كان المدرب الاسباني احد الكبار في المونديال ..فالكبار وحدهم بعلو الكعب والصدق والاخلاص وارتفاع القامة والهامة هم الذين يكتبون بإبداعاتهم علي المستطيل الأخضر التاريخ الحق للساحرة المستديرة لتحتفظ به الذاكرة الكروية في اعز حوافظ الذاكرة. من هنا لن يكون غريبا هذا الاستقبال الأسطوري من جانب الشعب الأرجنتيني لديجو مارادونا وراقصي التانجو رغم انهم خرجوا من دور الثمانية في مونديال 2010 بهزيمة نكراء امام الماكينات الألمانية التي سحقت الأرجنتين برباعية نظيفة. لكن مثل هذه الهزيمة علي فداحتها لم تكن قادرة علي ان تمحو من ذاكرة الأرجنتينيين حقائق متعددة من بينها ان ديجو مارادونا المدير الفني لهذا المنتخب المهزوم هو الرجل الذي طالما اسعد عشاق الساحرة المستديرة ويعد بامتياز احد اعظم لاعبي كرة القدم علي مدي التاريخ بقدر ماكان مدربا محبوبا من لاعبيه الذين بكوا تحت قدميه عقب الخروج من دور الثمانية في العرس الكروي العالمي. وينطبق ذلك الي حد كبير علي حالة المدرب المصري حسن شحاتة ومنتخب الفراعنة الذي حظي بحب وتقدير المصريين للاعبين ومدربهم وسط شعور جارف بأنهم بذلوا كل الجهد والعرق للمشاركة في العرس الكروي العالمي غير ان الساحرة المستديرة كان لها رأي آخر وحسابات مختلفة.