إن فقراء الأقباط أهم من المبانى والرخام والتكييفات والرحلات، لأن إشباع الفقراء هو أمر إلهى.. الفقراء هم الذين يعيشون في مستوى مالى واجتماعى أقل من العادى، ومع ذلك هم يكفون أنفسهم بالقليل الذي عندهم ولكن في اكتفاء ويدبرون أنفسهم في ضيق وفى ضغط على مصروفاتهم، أما المحتاجون فهم فقراء ولا يجدون الكفاية مطلقًا وهم في عوز إلى ضروريات الحياة، إما بصفة عامة في كل أيامهم، وإما في ظروف خاصة.. هكذا دائما يقول البابا الراحل شنودة الثالث. ويضيف البطريرك الراحل في إحدى مقالاته النادرة عن الفقراء: «مهما اكتفى الواحد منهم بإيراده الضعيف فإنه يصبح محتاجًا في حالة زواج ابنته أو في حالة مرضه أو مرض أحد من أسرته أو في دفع المصروفات الدراسية لواحد من أبنائه.. وما أشبه الحالات التي يصبح فيها محتاجًا أيًا كان راتبه الشهرى، وهنا يضطر إلى الاستدانة ولا يستطيع أن يسدد ما عليه». وفى الوقت الذي علمنا فيه أن البابا تواضروس الثانى بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية أعطى تعليمات للأساقفة بتكليف الآباء الكهنة لزيارة المسجونين في العيد وتفقد أحوالهم ومشاركتهم الاحتفال بعيد الميلاد من خلال ممارسة الأسرار الكنسية مثل «التناول»، حيث من المقرر أن يذهب بعض الكهنة إلى مختلف السجون لتوزيع «القربان المبارك» عليهم. وقبل أيام من الاحتفال بعيد الميلاد، قام البابا تواضروس بمقابلة مسئولى خدمة أخوة الرب «الفقراء» بالإيبارشيات على مستوى الكرازة المرقسية، واستعرض أحوال الفقراء، ومشروع قاعدة بيانات أخوة الرب، الذي سيسهم في تطوير الخدمة الكنسية. بينما قامت خدمة «الراعى وأم النور» التي يرأسها ويشرف عليها المستشار أمير رمزى، بالتزامن مع الاحتفال بأعياد الميلاد والكريسماس بتوزيع ملابس العيد على ما يقرب من 16000 طفل من أطفال من سن عام إلى سن 18 عاما. وحرصت الخدمة التي تهتم بفقراء الأقباط في إيبارشيات محافظات الصعيد وتشمل (بنى سويف والمنياوأسيوط وسوهاج وأسوان) فيما يقرب من 120 مركز توزيع يتجمع فيه الأطفال. وقام أيضا خدام «الراعى وأم النور» من القاهرة بتوزيع الملابس على الأطفال في كل مركز توزيع ويكون سبب فرح وسعادة للجميع للخدام قبل الأطفال. في المقابل، لم ينس وقفته منكسرا خاضعا قبل أيام قليلة سبقت العيد منذ عام مضى، بعد أن وقف ساعات طويلة أمام لجنة البر بالكاتدرائية، حاملا بين ذراعيه طفلته، التي جاءت إلى الدنيا بمرض خطير في الدم.. كان أمله كبيرًا بحجم أنين ابنته التي تيتمت لحظة ولادتها، لكن السماء لا تمنح أبناءها كل ما يريدونه.. لم يكن القدر رحيما -بالقدر الكافى- حتى ينظر إلى حالة الفقير بعد أن رحلت زوجته وابنته، التي فقدها بسبب ضيق الحال وضيق ذات اليد، وتحول العيد إلى مأتم، لا يستدعى إلا تذكر لحظات العجز والخنوع. في الجهة المقابلة من منشية ناصر، وفى أحد أحواش مقابر الغفير، يعيش راضى حنين 52 سنة، القبطى الذي نزح مع أسرته من أسيوط منذ أكثر من 20 عاما، فقد تزوج في سن متأخرة وأنجب 3 أبناء: «نسيم»، «وجدى» و«رومانى» لم يستطع تعليمهم، فخرجوا إلى حياة لا يجيدون فيها شيئا إلا مهنة والدهم في جمع القمامة. «حنان» طفلته الوحيدة، ظلت عاما كاملا تئن من «لوكيميا الدم»، التي هزمت جسدها الصغير، بعدما فشل الأب في توفير تكاليف علاجها، فذهب إلى الكاتدرائية يطلب العون من لجنة البر بالكنيسة، لكن الإجابة كانت «مفيش فلوس»، يقول «راضى»: «السنة اللى فاتت قبل العيد بكام يوم، بنتى اتولدت بالمرض الوحش، وأمها ماتت وهى بتولدها، لكن هنعمل إيه نصيبنا ولازم نرضى بيه». ويتابع: «العين بصيرة والإيد قصيرة، هجيب فلوس منين أجرى على علاجها، يدوبك اللى جاى على قد اللى رايح، استلفت من كل اللى حولي، لحد ما عرفت أن الكنيسة فيها لجنة للغلابة اللى زينا، وهيقفوا جمبى، وهيعالجوا بنتى». المفاجأة التي تلقاها «راضى» بعد أن قال له أحد الخدام بغضب، إن خزينة اللجنة خاوية على عروشها، وأبلغه ضمنيا «بأن يبحث عن حل آخر»، أفقده صوابه وانفجر في بكاء طويل، هال جميع المتابعين للمشهد البائس، لكن ما البيد حيلة، يحكى بأسى مستعيدا تلك الليلة السوداء، على حد وصفه: «أول ما عرفت إنهم مش هيساعدونى، حسيت بطعنة في قلبى، هودى البت فين، ولا هعالجها إزاى، ماكنش كفاية عليا موت أمها!». حاول «راضى» كبت غيظه وحسرته، فلم يكن غيظه وألمه بسبب وفاة ابنته فقط، وإنما تتقطع أوصاله غضبا، بسبب المعاملة المهينة التي وجدها، يتابع حديثه: «إحنا من العيد للعيد بنستنى المعونة دى، وبنبقى فاكرين أن الكنيسة هتساعدنا وتقف جمبنا، لكن اللى حصل ما كنش موت بس، لا كان خراب ديار وإهانة وذل، وإحنا مالناش إلا ربنا». من جانبه قال الأنبا مكاريوس، الأسقف العام للمنيا: «ننشط الآن حركة العطاء بمناسبة اقتراب أعياد رأس السنة والميلاد المجيد، ومن بين المسئوليات الأساسية للكنيسة خدمة الفقراء والمحتاجين بكل نوع وفى أيام آبائنا الرسل كان الناس يأتون بعطاياهم عند أقدام الرسل، كما قال الإنجيل المقدس: «وَيَضَعُونَهَا عِنْدَ أَرْجُلِ الرُّسُلِ، فَكَانَ يُوزَّعُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ كَمَا يَكُونُ لَهُ احْتِيَاجٌ». وأضاف مكاريوس: «إن الكاهن يمثل المسيح بين الشعب هكذا الكنيسة هي بيت الله، فمن الطبيعى إذًا أن يحصل الفقراء والمحتاجون على احتياجاتهم من الكنيسة ومن يد الأب الكاهن، والذي يفعل ذلك في أبوة وحنو، فهو أبوهم»، مشيرًا إلى أن هذه العلاقة المباشرة في التوزيع تعضد علاقة الكاهن بالشعب أما أن يحصل الفقراء على احتياجاتهم من الجمعيات والمؤسسات والأفراد بشكل منفصل وبمعزل عن الكنيسة والآباء فإن ذلك يباعد بين الطرفين، وربما يرسخ فكرة أن الكاهن غير مؤتَمَن على الفقراء، أو مقصر في خدمتهم، حتى ولو كان هناك هامش من الضعف والتجاوز عند بعض الكهنة فإن هذا ليس مبررًا لتجنيب الكنيسة. وأكد أسقف المنيا، أن الكنيسة هي المؤسسة الثابتة، وهى أقدر على تحديد احتياجات الناس وتدبيرها، وقد يشتمل هذا التدبير على التعاون مع أطراف أخرى، على أن كل ذلك يتم في النهاية تحت مظلة الكنيسة.