التوحيد والعودة إلى المنفعة الذى سعى إلى الدين هو الإنسان، والذى يمارس شعائره هو الإنسان، والذى هبطت من أجله الرسالات هو الإنسان. والإنسان وهو يمارس حياته على الأرض وجد فى الدين قوة عظيمة للأخلاق، وانفتح له عقله وقلبه وتمكن منه، ووجد فيه نجاته فى الدنيا والآخرة، لكنه يمارس ذلك كله على الأرض ومن ثم يستطيع به أيضًا أن يحقق الكثير من أهدافه. أى يمكن أن يستغل الدين نفسه فى سعيه على الأرض ويحوله من وازع أخلاقى إلى طريق للثروة أو السلطة. ولقد حدثت فى تاريخ البشرية عشرات من الحالات التى رفعت فيها راية الدين من أجل أطماع بشرية، وسوف يظل يحدث ذلك للأسف، ونظل نرى رايات الدين ترتفع من أجل الثروة والسلطة فى الدنيا رغم ما يبدو من حديث عن الآخرة. لقد صار الدين هو الوتر الحساس فى الطبيعة البشرية التى رأت فيه من قديم الأزل ضامنًا لحياتها وموحدًا لصفوفها، فهو يعد بالجنة التى هى فى الروح والوجدان أفضل من الأرض. هكذا سعى الإنسان إلى الدين، ولكن راح يستغله خارجًا به عن حدود الأخلاق التى هى الهدف الأسمى له. الحروب الصليبية كانت كذلك. كانت حروبًا استعمارية رغم أنها رفعت رايات الدين، وإسرائيل كذلك. أبشع أشكال الاستعمار. وحدث ذلك فى إفريقيا بشكل واسع. فكل حركات الاستعمار لإفريقيا وتجارة العبيد تمت تحت راية الدين الذى أعطى الرجل الأبيض لنفسه فيها الحق فى السيادة. وهناك محطات أخرى لا تختلف إلا انها تمت داخل البلد الواحد. إخناتون فى مصر مثلا ومحاكم التفتيش فى أوروبا فى العصور الوسطى، وحالتنا العربية الآن وفى القلب منها حالتنا المصرية. وتستحق كل واحدة حديثًا على حدة.. صار الدين أعظم ما سعى إليه الإنسان أسهل ما يمتطيه فيما بعد من أجل السلطة! كانت ثورة إخناتون هى أول ثورة على تعدد الآلهة على الأرض. وأول دعوة إلى إله واحد، وإخناتون لم يكن رجل دين بل كان ملكًا. فرعونًا. هو أمنحتب الرابع الذى تولى عرش البلاد عام 1370 ق.م. خلفا لأبيه امنحتب الثالث. لم يكن لدعوته إلى التوحيد معنى دينى فقط لكنه رأى أن تعدد الآلهة آعطى كهنة المعابد قوة استخدموها بدورهم من أجل الثروة والجاه وبلغ بهم الأمر من القداسة أن صاروا يقدمون للناس التعاويذ السحرية التى تنجيهم من حساب الآخرة وتضمن لهم الفوز بالنعيم فيها والنفاذ من العقاب مثل صكوك الغفران فيما بعد إبان العصور الوسطى المسيحية. لقد صار للأمور الدينية عمال وموظفون وحرفيون صارت لهم قوة روحية ومادية فكان التوحيد ضربة قاصمة لهؤلاء جميعًا، فلم يعد بوسع الكهنة بعد ذلك الانفراد بالأموال المربوطة على القرابين فى المعابد، ولم يعد للصناع فرصة لبيع التعاويذ التى اعتادوا على بيعها أمام المعابد ولا تماثيل الآلهة المختلفة أوزوريس وآمون ورع وغيرها، ولم تعد هناك تجارة لشواهد الجبانات التى تحمل صور الآلهة أو نقوشها كما لم يعد بوسع الكهنة إعادة ترتيل التمثيليات عن المأساة الأوزورية ولا أن يشترك معهم فى ذلك الناس من زوار المعابد. لقد ظهر فى مصر دين جديد إلهه هو الشمس «آتون» لا يحتاج إلى كل هذا ولا إلى هذه الأشكال القديمة من المعابد ولا إلى هذا التشخيص للآلهة. وكان طبيعيًا أن يتجه كل هؤلاء الذين أضيروا من الديانة الجديدة، التى لم يعد لها تجسيد ما مما هو على الأرض، إلى الاتحاد من أجل أن يحافظوا على مواقعهم وثرواتهم وسلطاتهم الروحية التى مكنتهم من تبوأ موقع القداسة فى الحياة ويناهضوا هذا الدين الجديد، وبالفعل نجحوا فى إسقاطه وفرضوا مرة أخرى عبادة الآلهة المختلفة والعودة إلى النفوذ الروحى بما يجلبه من نفوذ اقتصادى وسياسى واجتماعى مميز واعتبروا ما فعله إخناتون تخريبًا جرى على أرض مصر وخطيئة لا تغتفر رغم أنه لم يكن كذلك. لقد جاء ذلك فى بيان واضح لتوت عنخ آمون الفرعون الصغير ابن إخناتون من أخته الذى تولى الحكم بعده. لقد فرض عليه الكهنة ما يريدون فى البيان، فقال فى وصف نفسه إنه الحاكم الذى قام بأعمال عظيمة لوالد كل الآلهة آمون، وإنه أصلح كل ما كان مخربًا، يعنى المعابد القديمة التى ألغاها إخناتون حتى صارت بعد ذلك آثارًا خالدة، وقال أيضا إنه قد محيت من أجله الخطيئة فى الأرضين، يعنى أرض مصر كلها، وخطيئة إخناتون، وبذلك دامت العدالة. والحقيقة أن ما فعله إخناتون كان العدالة الحقيقية لكن هكذا كانت الحركة الدينية المضادة تخفى الأهداف السياسية والاقتصادية للمستفيدين دون النظر إلى أن ما فعله إخناتون يتسق مع تطور ورقى العقل، ويحافظ على وحدة المجتمع فوق الأرض. لقد صار الدين للأسف إلى موضوع آخر. صار سلعة وطريقًا إلى السيطرة. ولم يكن هؤلاء الذين فعلوه كذلك مستعدين أن يفرطوا فى مكاسبهم فأعلنوا أنهم لن يفرطوا فى الدين!