لم يأت سيد ولا كمال. كتبت: «والذئبُ مُتَهمٌ منذ القِدم، دون سائر الحيواناتِ، بالغدرِ والعدوان وشدّةِ البأسِ والبَراعةِ فى الفَتك». كتبت: «والذئابُ عند اجتماعها لا ينفر أحد منها، إذ لا يأمن على نفسه من البقية، وإذا نامت واجهت بعضها البعض، حتى قالوا ينام بإحدى عينيه خائفًا من باقى الذئاب أن تفترسه وهو نائم، فهى تعرف أنه إذا أصيب أحدها بجراٍح أكلته البقية». أعترف بأننى منذ اليوم الأول لانتقالى إلى العمل بالمجلة، حاولت اكتساب صداقة الجميع، سواء من المحررين الجدد، أو القدامى، حتى السعاة، والعاملين فى أقسام التنفيذ. كان طبيعيًا أن أخطئ الطريق إلى بعضهم، وأنجح مع البعض الآخر، لكننى للحقيقة لم أحب غالبيتهم، ولم أر فيهم غير مجموعة من صغار المتآمرين والمتحايلين على الحياة، يغلبهم ضعفهم، لكنهم إذا أحسوا بقليل من السلطة نكَّلوا بكل من يوقعهم حظهم العكر تحت أيديهم. ربما تظن أول الأمر أنهم مغلوبون على أمرهم كما ظننتُ، لكن أيامًا قليلة من الوجود بينهم تكفى لكشف ما تحت أسطحهم جميعًا. كان خليل هو أول المنكشفين لى، فلم يكن بحاجة إلى دهاء مصيلحى، ولا ادعاءات منى.. هو أقدم محررى المجلة، أعطته ناهد قسمًا لا يجرؤ أى من بقية المحررين على منافسته فيه، ليس لقدرات مهنية يتفوق بها على زملائه، ولكن تنفيذًا لأوامر صريحة منها، وممارسات فعلية بتحويل المواد التى تصلها من أى منهم إليه لمراجعتها إذا كانت تحوى أى معلومات تخص القسم، بدعوى أنه أدرى من الجميع بالوسط الذى يعمل فيه.. ولقدرات خاصة لم يصل بقيتهم بعد إليها، رغم أنهم جميعا يعرفون أنه وسيطها فى الاتفاق مع شركات الإنتاج، لنشر أى مواد إعلانية يريدون نشرها كمادة تحريرية مع صورة على صفحة الغلاف.. تتلخص مهمته فى تسلم موضوع الإعلان، ثم نسخه بخط يده، وتسليمه كمادة تحريرية خاصة، بعدها يحصل على الفُتات الذي يلقونه إليه مقابل كل غلاف، بينما يضاف إلى رصيدها المصرفى ما كانوا سوف يدفعونه لو تم نشر الموضوع تحت عنوان «مادة إعلانية» أو «مادة تسجيلية»، ودون صورة رئيسية على غلاف المجلة. وخليل شاب على مشارف الأربعين، سافر بعد تخرجه فى الجامعة إلى دولة الإمارات بحثا عن فرصة عمل، اضطر من أجلها إلى تزوير جواز سفر لا يشير إلى حصوله على مؤهل جامعى، حتى يتمكن من العمل فى أى مهنة متاحة، وهناك عمل كنادل بمقهى شعبى فى مدينة أبوظبى يديره صحفى مصرى كمصدر إضافى للدخل، كانت هى الفرصة الوحيدة المتاحة أمامه للعمل، بعد أن ظل ضيفًا على شقيقته وزوجها قرابة العام. بالمقهى، كان حاتم ورضا ووليد، وغيرهم كثير من الصحفيين المصريين المقيمين بالمدينة، والذين جعلوا منه مكانًا بديلًا للوطن، يلتقون فيه لتدخين الشيشة فى الهواء الطلق، وتبادل الحكايات والمعلومات والأخبار.. وللتحدث بالعامية المصرية التى يضطرون غالبًا إلى هجرها طوال النهار.. تودد إليهم، حتى أصبح على معرفة بتفاصيل حياة كلٍ منهم.. لم يتردد فى تقديم مساعدةٍ يقدر عليها لأيٍ منهم.. تأخيرُ حِسابٍ، أو دفعُ أجرة التاكسى لقادم لا يملك عملاتٍ صغيرةٍ، أو مُفلسٍ لا يريد أن يعرف الآخرون سره.. شراءُ السجائر لمدخنٍ لا يريدُ قطع حديثه مع رفاق المساء، تجهيز مائدة الفول المدمس والبصل الأخضر والخس أو الخيار والطماطم، لقادمٍ مُبكرٍ يقتله الحنين إلى إفطارٍ شعبى، إخفاءُ زجاجةِ مشروبٍ كحولى لمدمنٍ تَغلبهُ الرغبةُ فى السُكر، ولا تسمح القوانين المحلية بتناوله فى غير الأماكن المخصصة له، تسليمُ متعلقاتٍ بين اثنين لا تتفقُ مواعيدهما.. أو نقلُ حكاياتٍ بين طرفين لا تربطهما مودة.. تقديم أذنٍ منصتةٍ لقادم فى غير موعده يريد أن يحكى، محاولةُ الإصلاحِ بين رفيقين فرقت بينهما مشاجرة حول لعبة الطاولة، فامتدت إلى تبادلِ اتهاماتٍ، وسُباب، فتطورت إلى قطيعة كاملة.. وهو بالمناسبة سيناريو كثيرُ الحدوث، هنا وهناك. هكذا عرف الملحقُ الإعلامى للسفارة المصرية فى أبوظبى، تفاصيل حياةِ مواطنيه الصحفيين المقيمين فى المدينة، وهو أستاذ جامعى لا علاقة له بالصحافة ولا الإعلام، إلا إذا اعتبرنا أن التقارير الأمنية يمكن أن تندرج بين فنون التحرير الصحفى، فالحق أنه كان موهوبا فيها منذ التحاقه بكلية الإعلام، وحتى تعيينه بهيئة الاستعلامات، ومكافأته على خدماته برحلة الإمارات تلك. وهكذا وجد خليل لنفسه مصدرَ مساعداتٍ ماليةٍ إضافية، تساعده على الانفصال عن بيت أخته وزوجها.. كان ما يتركه له الملحق الإعلامى، بعد تدخين حجرٍ من الشيشة أو حجرين على الأكثر، مع كوبٍ من عصير البرتقال الطازج، يكفى لإطعامه لخمسة أيام، وكل ما عليه هو أن يجيب على سؤال واحد، «ما أخبار فلان؟». لم يتساءل عن غرابة المواعيد التى يحضر فيها إلى المقهى وحيدًا، مرة، أو مرتين فى كل أسبوع، ودائمًا ما تتركز فى فترة الظهيرة، حيث الجميع فى أوقات الدوام الرسمى، ما عداه.. فى البداية، لم يسأل عن اسمه، أو طبيعة عمله.. كانت ملابسه الرسمية، والأنيقة دائمًا، وصوته الخفيض، وسيارته الفاخرة النظيفة طوال الوقت، كافية جدًا لمنحه لقب «الباشا».. بمجرد ظهور سيارته عند مدخل الشارع الجانبى القصير، يجهز له الشيشة بأفضلِ ما يستطيع، يجددُ ماءها، ويُنظفُ مخارج الهواء بها، لتكون بين يديه، هى والمبسم البلاستيكى المغلف بمجرد جلوسه إلى طاولته المفضلة عند الزاوية اليسرى لحديقة المقهى، ليقف منتظرًا إشارة البدء فى رحلة الكواليس والحكايات، والتى غالبًا ما تكون بسؤالٍ يبدو عابرًا عن أخبار «فلان». أحيانًا ما كان يأتى فى المساء، لكنه فى هذه المرات لا يكون سخيًا كعادة الظهيرة، وكأنها رسالةٌ مشفرةٌ إلى من يهمه الأمر، فجلساته المسائية لا يكون فيها وحيدًا، وغالبًا ما يتحلقُ حوله الموجودون بالمقهى من الصحفيين، ولا يجلس بينهم أكثر من ساعة واحدة، أو أقل، ولا يكون بها مكان لحكايات أو تفاصيل. رسالةٌ وصلت إلى صاحبها، فلم يعد ينتظر إشارة البدء، بل صار ينطلق فى رحلة الحكى حسب الجديد، وما يظنُّ أنه ربما يثيرُ اهتمام ضيفه على مائدة الكلام.. أدركَ خليل أن مصيره مُرتبطٌ بحجرى الشيشة الصباحيين، وكوب البرتقال، بحكايات المساءِ التى لا ينبغى أن تفوته، أو ينسى تفاصيلها.. ويحصل فى مقابلها على مائة درهم كاملة حين تأتى الظهيرة. عامٌ أو يزيد، طلب بعدها من «مختار باشا» أن يساعده فى الحصولِ على عملٍ أفضل، يتناسبُ مع مؤهله الجامعى.. فقال له الخبير فى اصطياد المتعاونين، وتقديمهم إلى مكتب الحرس، منذ سنوات الجامعة، إن ما يحصل عليه من «بعض زبائن المقهى» يفوقُ أجر نظيره ذي المؤهل العالى.. وإن تركه للعمل بهذا المقهى تحديدًا، ربما يكون مغامرة غير مأمونة. فما كان منه إلا أن كان أكثر وضوحًا، فقال بإصرارٍ واضح: «ومن قال لك يا باشا أن هناك ولو تفصيلة صغيرة لن يصلك خبرٌ بها». ضحك مختار من وقاحةِ محدثه، لكنه لم يغضب، بل ابتسم بهدوء، وقال له «دعنا نرى.. واللى فيه الخير يقدمه ربنا». لم يتحدثا بعدها فى الأمر، لكن الإشارة جاءته من رضا، المحرر بمكتب أبوظبى لصحيفة إماراتية تصدر فى دبى، والذى جاءه بعدها بنحو أسبوعين. كان قدومه، على غير المعتاد، فى نفس التوقيت الذى اعتاد مختار القدوم فيه. جلس إلى نفس الطاولة، وطلب أن يعدَّ له «شيشة» كتلك التى يعدها لمختار باشا تمامًا. لم يكن رضا ممن يوليهم خليل اهتمامًا، فابتسم وقال له مداعبًا: - وهل هناك أحد مثل مختار باشا؟ فارتسمت على وجه الثانى ابتسامة باهتة وهو يقول: - دعنا نحاول ياعم خليل.. صمت قليلًا، ثم سأله قبل أن ينطلق لمتابعة عمله: - أتريد العمل فى الصحافة يا خليل؟ - أتمنى يا باشا. ضحك رضا ضحكة واسعة وهو يقول بدهشة: _ أها.. أخيرًا قررت أن تمنحنى اللقب. - أنا خادم لأكل عيشى يا رضا باشا.. ألسنا جميعًا هكذا؟ اتسعت ضحكة رضا، وهو يقول له: - أحضر الشيشة والشاى، وتعال لنحكى قليلًا. قال له إنه موهوبٌ فى الحكى، والاستماع إلى حكايات الآخرين، وأن ذلك ربما يساعده كثيرًا إذا حافظ على ولائه «لأكل عيشه». قال له: «هل تعرف أن مختار باشا لم يعمل فى أى صحيفة، ولم يكتب خبرًا واحدًا طوال حياته؟ لكنه كان دائمًا يعرف ماذا يريد، وكيف يصل إليه». سأله: هل تعرف ماذا تريد يا خليل؟ فارتسمت علامات الجدية على وجهه، وهو يقول لمن أدرك أنه سيده الجديد: - أعرف جيدًا أننى لا أريد أن أظل عامل المقهى.. وربما أكون مفيدًا بصورةٍ أفضل إذا ساعدتنى فى العمل بالصحافة. ابتسم رضا، وتمتم بصوتٍ يكادُ يصل إلى أذن محدثه الذى جلس قدامه لا يقدر على مقاطعةٍ، ولا يعرف ماذا يدور فى رأس محدثه الذى جاءه على غير توقع: - إذن دعنا نرى ماذا يمكننا أن نفعل.. و«اللى فيه الخير يقدمه ربنا». أسبوعان جديدان مرا قبل أن يصل رضا فى نفس التوقيت غير المعتاد، ويجلس إلى ذات الطاولة، ثم يعطيه رقم هاتف إماراتى، ويخبره أنه رقمٌ خاصٌ بأحد كبار المستثمرين المصريين الهاربين من سداد ديونهم للبنوك. طلب منه أن يهاتفه، ويخبره بأنه يعمل بذات الصحيفة، ويريد إجراء مقابلة معه لتوضيح موقفه من القضايا التى تلاحقه بسببها البنوك، والرد على ما يُوجَه إليه من اتهامات. قال له إنه سوف يوافق على إجراء المقابلة، بل والتصوير معه، وربما يعطيه مكافأة سخية بعد النشر.. ثم وضع فى يده ألف درهم إماراتى، وقال: - بعد تحديد موعد المقابلة، اذهب واشترِ بدلة وقميصًا جديدين، أو قل لى لأذهب معك لشرائهما، إن كنت لا تجيد الاختيار، لكن لا تنس أن تسددها لى بعد وصول المكافأة. سحب خليل كرسيًا، وجلس فى مواجهة من تأكد أنه سيده الجديد قائلا: - وفوقها الفوائد أيضًا يا باشا.. لكن.. هل ستساعدنى فى نشر الحوار؟ ارتفع صوت ضحكات رضا عاليًا وهو يقول له: - لست أنا من يجب أن تسأله كثيرًا يا خليل.. أنت تنفذ ما أقوله لك فقط، اذهب الآن وأحضر حجرًا جديدًا، وغدًا سوف نراجع معًا أسئلة الحوار. هكذا دخل خليل مكتب الصحيفة واسعة الانتشار فى دول الخليج، مكللًا بانفرادٍ تناقلته الصحف المصرية والعربية، ونشرت وكالات الأنباء الدولية تقارير مُفصلة بأهم محتوياته، بعد تصريحات رجل الأعمال باستعداده للعودة إلى مصر، والاتفاق مع البنوك والحكومة. ساعده رضا على كتابة الحوار، وتقديمه إلى إدارة التحرير بالجريدة، دون أن يذكر لهم طبيعة عمله، وظروف إقامته، فرحبت به، بل ونشرت إشارةً إليه فى صدر صفحتها الأولى، كما أفردت له صفحتين كاملتين داخل ملحقها الاقتصادى. كانت المكافأةُ التى حصل عليها من الصحيفة ورجل الأعمال أكبر بكثير من أى تصوراتٍ ذهب إليها خياله، والتى بناها على حكايات زبائنه بخصوص هدايا رجال الأعمال للمحررين، وضيوف مؤتمراتهم الصحفية، والتى لم تكن تزيد علي ساعة «روليكس»، أو مظروف يحتوى بضعة آلاف من الدراهم، أو حقيبة جلدية فاخرة تحتوى علي بعض منتجات شركاتهم. هذه المكافأة، ساعدته على سداد ديونه كافةً، بما فيها سُلفةُ سيده الجديد، ودفعُ إيجار شقة «ستديو» جديدة.. ومنها دفع تكاليف سهرة سُكرٍ لثلاثةٍ من أفضلِ زبائنه، ومعهم صاحب المقهى الذى وافق على منحه إجازة لمدة شهرٍ يوفق خلاله أوضاع إقامته، واستصدار جواز سفرٍ جديدٍ، يتناسب مع مرحلةٍ جديدةٍ ينتقلُ فيها من خانة الخادمٍ إلى الزميل. عامٌ جديد، ظل خلاله على ذلك الوضع، توصل له رضا إلى اتفاقٍ عمل بموجبه كمحرر بالقطعة بمكتب أبوظبى، يكتب تقارير يساعده رضا فى إعدادها، ويسلمها إلى المكتب، وتنشرها الصحيفة.. لم يشغله ضعف المقابل المالى الذى تدفعه، فقد كانت هدايا رجال الأعمال المحليين، والمؤتمرات الصحفية كافية لجعله يُعيد التفكير فى كل تفاصيل حياته، ورؤيته للعمل بالصحافة، ولإمكانيات الاستفادة من فترة بقائه بالدولة.. فعمل على تخطيط وإدارة الحملات الإعلانية لمن يعرفهم من رجال الأعمال، ونشرها كمادة تحريرية فى الصحف المحلية والعربية، مستغلًا علاقاته التى تكونت بالمقهى، وحاجة روادها لأى زيادة مالية، دون اهتمام بطبيعة ما يسلمونه من مواد، أو مواعيد نشرها. ولأن دوام الحال هو المحال عينه، فقد وصلت إلى إدارة الجريدة الإماراتية تفاصيل رحلته إلى مكتبها، وأنه ليس سوى وسيط لرجال الأعمال يدفعون له، فأوقفت التعامل معه. لم يهتم كثيرًا بالأمر، فقد كان العام الذى قضاه فى العمل باسم الجريدة كافيًا لفتح الكثير من الأبواب أمامه، ومنها بالطبع الانتقال إلى صحفٍ ومطبوعات أخرى أكثر درًا للربح، إلا أنه لم يكن بحاجة إلى الانتظار أو حتى المحاولة. وقتها كانت ناهد ضيفة على أحد المهرجانات الفنية فى العاصمة الإماراتية. وفى بهو الفندق الكبير، على شاطئ الخليج، رتب له مختار لقاء ب«ناهد» التى كانت تبدأ عامها الثالث فى رئاسة تحرير المجلة.. اشتكت لهما من تراجع التوزيع، وضعف الإعلانات، فقال لها مختار عن علاقات خليل القوية برجال الأعمال المقيمين فى الإمارات، ونجوم الغناء والفن، وشركات الإنتاج، واقترح عليها تنظيم مهرجان غنائى كبير ترعاه المؤسسة، ويتكفل خليل بتدبير الاتفاق مع شركات الإنتاج، والرعاة، لتوفير التمويل اللازم، بشرط انتقاله إلى العمل معها، وتعيينه مباشرة بعد انتهاء المهرجان. قال لها إن مهرجانًا مثل هذا سوف يغطى تكاليف طباعة المجلة وأرباحها لأعوامٍ، وسيضمن لها البقاء فى مقعدها، ورضا الرجل الكبير.. لمعت عيناها، لكنها لم تُعط ردًا.. قالت: لنرى.. اتركاني أفكر فى الموضوع.. واللى فيه الخير يقدمه ربنا. ابتسما معًا.. فها هى كلمةُ السر الغامضة تنطلق من فمها. «واللى فيه الخير يقدمه ربنا».