إعداد: أحمد صوان إشراف: سامح قاسم ينتمي عبد الحكيم قاسم إلى جيل الستينيات.. الجيل الذي تمرد على قواعد الكتابة الكلاسيكية وأعلن رفضه لما سطره جيل العمالقة الذي سبقه، واضعًا قواعده الخاصة وطموحه اللامحدود الذي استمده من ثورة يوليو، إلا أنه لم يكن بارعًا في تسويق نفسه كما فعل آخرون.. لم يستطع التوافق مع السلطة أو التهاون بعيدًا عن أفكاره، التي صاغها في أعماله، والتي قُدِر لها أن تظل مثله لسنوات بعيدًا عن دائرة الضوء التي قفز آخرون ليغمروا أنفسهم بها، بينما ظل هو لسنوات نزيل الغرف المُقبضة. ولد عبد الحكيم قاسم ببيت جده لأمه بقرية ميت القرشي بمحافظة الدقهلية، وحسب الأوراق الرسمية فهو مولود في الأول من يناير عام 1935، ولكنه ذكر في أحد أحاديثه أنه سأل والدته عن تاريخ ميلاده الحقيقي فأخبرته بأنه الخامس من نوفمبر عام 1934، ولكن عامل التليفون في قرية والده التابعة لمركز السنطة بمحافظة الغربية أرجأ قيد الاسم في الدفاتر حتى أول العام؛ وفي سن التاسعة التحق بمدرسة الأقباط الابتدائية بميت غمر، وعاش في بيت جده وكان يعود لأسرته في الإجازات الصيفية، ثم درس في مدرسة الناصر الثانوية بطنطا. في عام 1954 ذهب عبد الحكيم للإقامة في القاهرة، وكان قد أصيب بالملاريا، وعانى من تردي أحواله الدراسية، وكان يسكن بغرفة بإحدى عمارات شبرا؛ وفي العام التالي التحق بكلية الحقوق جامعة الإسكندرية، وتطوع بعدها بعام في الحرس الوطني للدفاع عن مدينة الإسكندرية بعد وقوع العدوان الثلاثي؛ ثُم لم يستطع إكمال دراسته بسبب مرض والده وتدهور أحواله المالية، فترك الجامعة وعاد إلى القاهرة ليلتحق بعمل كتابي في هيئة البريد، ولكنه عاد يكافح حتى استطاع إكمال دراسته والحصول على الليسانس عام 1966، وعمل بعدها موظفًا في الهيئة العامة للتامين والمعاشات. "إن ندوب الجروح في الروح والقلب جردت الكيان من الطموح وأفعمته شوقًا".. في ديسمبر عام 1959 تم القبض على عبد الحكيم بتهمة الانتماء للحزب الشيوعي المصري، وحكمت عليه المحكمة بالسجن خمس سنوات، قضاها في سجن الواحات الذي خرج منه في مايو 1964، وعمل بعدها في مكتبة ركسان أرملة شهدي عطيه الشافعي؛ وعانى من اضطهاد السلطة حتى جاء عام 1974، فسافر إلى برلينالغربية لحضور ندوة، ولكنه استقر بها لأحد عشر عامًا، عاشها في المدينة المنقسمة آنذاك إلى شطرين، وشرع قاسم في الإعداد لأطروحة الدكتوراه عن الأدب المصري، وتحديدًا عن جيل الستينات الذي ينتمي إليه، والمتمرد على قواعد الكتابة الكلاسيكية وقواعد الكبار مثل نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ليُظهر تفرده الإبداعي ورموزه الجديدة مثل إدوار الخراط وإبراهيم أصلان وسعيد الكفراوي؛ إلا أن مشاغل الحياة في برلين، وضياع وقته في البحث عن الرزق -حيث اضطر إلى العمل حارسًا ليلًا لكي ينفق على عائلته- منعته من استمرار أطروحته، إلى أن عاد خالي الوفاض إلى مصر في عام 1985. عاش عبد الحكيم قاسم قبل سفره القرية المصرية بكل أبعادها، وكان أديب نوبل الراحل نجيب محفوظ ينظر إلى كتابته باعتبارها إبداعًا متميزًا -حسبما روى صديقه الروائي سعيد الكفراوي لإحدى وسائل الإعلام الألمانية- وعندما سافر إلى برلين كان بعد صدور روايته الشهيرة "أيام الإنسان السبعة" كانت تلك الفترة كانت دافعًا كبيرًا له، وهو ما ظهر في رسائله التي حكى فيها عن الحفلات الموسيقية والعروض المسرحية التي كان يذهب إليها وكيف اتسع أفقه عبر لقاء مدينة مثل برلين؛ ورغم أنه استفاد كثيرا من المدينة، لكن قاسم شعر خلال وجوده في ألمانيا بالإهانة بسبب طبيعة المهن التي عمل بها. "إن ذلك القدر أبشع من أن يكون خطأ شخصيًا أو تقصيرًا أو غباء، إنه خلل مروع يعصف بالحياة كلها ويحولها أسطورة من القبح والتشوه".. عاد عبدالحكيم قاسم إلى مصر متمسكًا بثقافته العربية التراثية، وأعلن أنه يعتزم إعادة كتابة أشهر رواياته "أيام الإنسان السبعة" لكي ينقيها من الكلمات المصرية العامية؛ لكنه كذلك أن يتوافق بعد عودته مع التغيرات الاجتماعية والسياسية التي حدثت في فترة غيابه؛ وفي عام 1987 قرر خوض انتخابات مجلس الشعب على قائمة حزب التجمع، ولكنه خسر الانتخابات، ثُم أصيب بنزيف حاد في المخ دخل على أثره المستشفى ليخرج بعد أربعة أشهر مُصابًا بشلل في يده اليمنى أعاقه عن الكتابة بنفسه، وظل يملى زوجته ما يريد كتابته حتى رحيله عن عالمنا في 13 نوفمبر 1990. "أترى يبدو في سمته وشارته ما يدل على جروح روحه من عمر طويل قضاه في حبس الغرف المقبضة.. أتراه وصم بلا أمل".. عرفت مصر سطور عبد الحكيم قاسم بداية من عام 1957، عندما كتب أول قصة له بعنوان "العصا الصغيرة"، واشترك بها في مسابقة نادي القصة بالقاهرة لكنها قوبلت بالرفض؛ ثُم بدأ الكتابة الأدبية خلال فترة السجن برواية "أيام الإنسان السبعة"، التي صدرت عام 1969 عن دار الكتاب العربي -وترجمت إلى الإنجليزية عام 1989- وبعدها نُشرت له "الصندوق" في مجلة الآداب اللبنانية، ثُم تتابع النشر في مجلة "المجلة" التي كان يشرف عليها الأديب يحيى حقي في منتصف الستينيات، وأصدر رواية "محاولة للخروج" عام 1978، ثُم حكايات للأطفال "الصغيران وأفراخ اليمامة"، كما صدرت مجموعته القصصية "ديوان الملحقات" في سلسلة مختارات فصول. "إن الذل والإهانة في هذا المكان كائنان في تحول الإنسان إلى شيء مهيض يمكن سحقه في أي لحظة، بدون أن يكون في وسعه الفرار أو المناورة أو الدفاع عن نفسه".. كانت رواية قاسم "قدر الغُرف المُقبِضة" والصادرة عام 1982، واحدة من أهم أعمال أدب السجون في العالم العربي، وقد أعقبها بمجموعته القصصية "الأشواق والأسى" التي ضمت تسع قصص عام 1984؛ ثُم صدر بعد رحيله عام 1991 كتاب "الديوان الأخير" عن دار شرقيات، والذي ضم 17 قصة قصيرة، وعدة فصول من روايته التي لم تكتمل "كفر سيدي سليم"، والمسرحية الوحيدة التي كتبها لإذاعة البرنامج الثاني عام 1988 "ليل وفانوس ورجال"، ثُم صدر له كتاب " كتابات نوبة الحراسة -رسائل عبد الحكيم قاسم"، والذي ضم فيه الكاتب محمد شعير مراسلاته ورسائله التي كتبها بخط يده؛ وربما كان الكتاب هو أشهر ما نُشر عن أدب الرسائل في الأدب العربي الحديث؛ كما كتبت عن أعماله "الخطاب الروائي في أعمال عبد الحكيم قاسم"، وهي أطروحة دكتوراه في الأدب والنقد والبلاغة للباحث رمضان على منصور عبد الواحد الحضري في كلية الآداب جامعة الزقازيق، وصدرت عام 2001.