شيخ الأزهر يقدم واجب العزاء في الدكتور أحمد عمر هاشم بمسجد الشرطة (صور)    ارتفاع جديد بأسعار الذهب.. وعيار 21 يقترب من 5500 جنيه    وزير فلسطيني: لا بديل عن "السلطة" في غزة ونعوّل على مؤتمر الإعمار بالقاهرة    الضفة.. إصابة فلسطيني برصاص جيش الاحتلال الإسرائيلي قرب القدس المحتلة    أرقام حسام حسن مع منتخب مصر بعد التأهل لكأس العالم    المقاولون العرب يهنئ منتخب مصر على التأهل لكأس العالم    7 نوفمبر.. نظر أولى جلسات الاستئناف المقدم من رئيس حى شرق الإسكندرية    رفض استئناف البلوجر شاكر محظور على حبسه احتياطيا 45 يوما في اتهامه بغسل أموال التيك توك    "أرواح فى المدينة" تحتفل بذكرى انتصارات أكتوبر بالأوبرا    مقبرة للعدو.. كيف تحطمت أسطورة خط بارليف بعزيمة القوات المسلحة؟    نهضة بركان يتعرض لضربة قوية قبل مواجهة بيراميدز في السوبر الأفريقي    عدم اكتمال الجمعية العمومية غير العادية لسحب الثقة من مجلس الإسماعيلي    دعوى أمام القضاء الإداري لوقف نشر صور متهمات وقاصرات جرائم الآداب    على السجادة الحمراء.. استقبال مهيب لبوتين في دوشنبه    حبس 3 أشخاص بتهمة الاتجار في المخدرات بالبحيرة    مقتل طفل وإصابة 3 أشخاص إثر تجدد خصومة بين طرفين في سوهاج    نبيلة مكرم: التحالف الوطني نموذج فريد للحماية الاجتماعية على أرض الجيزة    جائزة نوبل في الكمياء 2025.. عالم عربي بين الفائزين    رحمة أحمد تنضم ل«نصيب»بطولة ياسمين صبري    زاهي حواس: كنت على ثقة بفوز العناني بمنصب مدير عام اليونسكو(فيديو)    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 8-10-2025 في محافظة الأقصر    تكريم خطباء الاوقاف والازهر بمدينة السرو من قبل مركز الشباب    جامعة أسيوط تنظّم يومًا علميًا للتعريف بوحدة التأهيل الرئوي ودعم منظومة علاج أمراض الصدر بصعيد مصر    مدير مستشفيات قصر العيني يتفقد مستشفى أبو الريش الياباني ويشيد بالالتزام    ريال مدريد يكشف تفاصيل إصابة مدافعه.. وشكوك حول لحاقه بالكلاسيكو    شهر رجب يتكرر للمرة الثانية فى عام واحد ب 2025    فوز «العنانى» التاريخى    تقرير دنماركي: يس توروب وقع على عقود تدريب الأهلي 3 سنوات    خالد سليم وعبد الباسط حمودة يجتمعان فى دويتو ليلة مِ اللى هيا    إثيوبيا يعبر غينيا بيساو ولا تغيير فى ترتيب مجموعة مصر بتصفيات المونديال    هيئة الدواء: دستور الدواء المصرى يواكب التطورات العالمية للصناعة    "التحالف الدولي" يعيد تموضع قواته في سوريا لمواجهة بقايا "داعش"    ندوة تثقيفية لجامعة أسيوط الأهلية حول "الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان ودور الجامعات في تعزيزها"    تكاثر السحب الممطرة على هذه المناطق.. الأرصاد الجوية تكشف حالة الطقس في القاهرة والمحافظات    ضبط سائقي سيارتين سمحا لأطفال بالجلوس فوق النوافذ خلال زفة فى القليوبية    إصابة شخصين فى حادث انقلاب سيارة ملاكى فى إحدى ترع الغربية    محافظ أسيوط: استمرار حملات النظافة المكثفة ورفع المخلفات من شوارع ديروط    وكيل «تعليم البحيرة» يشهد ندوة «التعليم بين تحديات الحاضر ورهان المستقبل»    أحمد عمر هاشم.. تعرف على أبرز 10 معلومات عن جهوده الدعوية    «نادية عمارة» تكشف الأسس الشرعية والاجتماعية لاختيار شريك الحياة    محافظ الجيزة يعتمد حركة مديري ووكلاء الإدارات التعليمية    وزارة الاتصالات: تنفيذ برنامج عالمى لأكاديمية إتش بى للابتكار فى مدارس WE    استئصال ورم ليفى يزن كيلوجرام من أذن تيس بالطب البيطرى جامعة القاهرة    انطلاق برنامج مصر جميلة لاكتشاف المواهب الفنية والأدبية بالوادي الجديد    أسعار الدواجن بأسواق الإسكندرية تصل إلى 80 جنيها للكيلو    علاج 1928 مواطنا مجانا ضمن قافلة طبية بقرية في الشرقية    الأهلي يستعد للمشوار الأفريقي بكتيبة غيابات    الإحصاء: 36.8 % زيادة بقيمة المبالغ المودعة فى صندوق توفير البريد 2024 / 2025    رجال لا يكررون الخطأ مرتين.. 4 أبراج تتعلم بسرعة من التجارب    وزيرة التضامن تترأس اجتماع اللجنة العليا للأسر البديلة الكافلة    عزاء الدكتور أحمد عمر هاشم اليوم بمسجد الشرطة بالتجمع الخامس بعد صلاة المغرب    موقف عصام صاصا بعد اتهامه فى مشاجرة وصدور حكم بالحبس سنة مع إيقاف التنفيذ    وفد لبنانى يزور هيئة الاعتماد والرقابة للاطلاع على تجربة مصر بالإصلاح الصحى    بن جفير يقتحم الأقصى مجددًا وسط توتر أمني في عيد العرش اليهودي    «الشكاوى الحكومية» تتلقى 13.5 ألف شكوى واستغاثة صحية    يد - بعثة الأهلي إلى المغرب للمشاركة في بطولة إفريقيا    أكسيوس: ويتكوف وكوشنر يصلان شرم الشيخ للانضمام لمفاوضات إنهاء حرب غزة    سعر سبيكة الذهب اليوم الأربعاء 8-10-2025 بعد الارتفاع الكبير.. بكام سبيكة ال10 جرام؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عشق الأدباء.. رسائل لا تفنى
نشر في البوابة يوم 05 - 11 - 2015


إعداد: أحمد صوان
إشراف: سامح قاسم
يحوي التاريخ العديد من رسائل الحب التي ظلت باقية بعد أن فنى أصحابها، والتي سجّل فيها كلٌ منهم ما أراد أن يبثه لمعشوقه، وتعذر عليه لبُعد المسافة أو استحالة التلاقي؛ فصارت آثارًا للعشق الممزوج بروعة الأدب، واستحقت أن تأخذ مكانها بين الصنوف الأدبية التي يخوض فيها مؤرخو هذا الفن؛ ربما كان أولها ما كتبه دوق أورليانز الفرنسي تشارلز أول رسالة حب في العيد لمحبوبته من سجن خارج لندن، حينما وقع في الأسر خلال إحدى المعارك عام 1415.
وبالخوض في رسائل الحب التي كتبها كبار الأدباء لمن أحبوهم، نجد كلماتها تُجسّد العديد من المعاني؛ مثلما وصف كافكا لمعشوقته ميلينا يسينيسكايا الصحفية التشيكية وهو يُراسلها بقوله "كتابة الرسائل تعني أن تعري نفسكَ أمام الأشباح، وهو شيء لطالما كانوا ينتظرونه بفارغ الصبر. كتابة القُبل فيها لا يعني أنها ستصل إلى مكانها المقصود، بينما على العكس، يتخطفها الأشباح على طول الطريق؛ وكذلك أرسل لها متحدثًا عن عذابه " "نصحتك بالأمس بعدم الكتابة إليّ يوميًا، وما يزال هو ما أراه اليوم وسوف يكون هذا خيرًا لكلينا، ومرة أخرى أعود إلى هذا الاقتراح اليوم، وفوق ذلك فإنني أطلبه بمزيد من الإلحاح - فقط، أرجوك يا ميلينا ألّا تلتزمي بهذا الاقتراح، بل اكتبي إلى يوميًا، على الرغم من ذلك، قد تكتبين في اختصار شديد، رسائل أقصر من الرسائل التي ترسلينها إلى الآن، سطرين فقط، أو سطر واحد، المهم هو أن حرماني من هذا السطر الواحد، سيكون معناه عذابي الرهيب"؛ وتارة أخرى خاطبها لائمًا على تأخرها في إرسال خطاباتها " "ولاأزال لم تصلني رسالة عما قاله لك الطبيب، أنت أيتها العربة البطيئة، أنت أيتها الكاتبة السيئة للرسائل، أنت أيتها المشاغبة، أنت أيتها العزيزة، أنت - حسنًا، ماذا بعد؟ لا شيء، سوى أن أستلقي هادئًا على صدرك".
وكان كافكا المضطرب العلاقات قابل عام 1920، وقد بلغ السابعة والثلاثين، وفي إحدى مقاهي براج قد تعرف على ميلينا جيسينكا التي كانت في العشرين من عمرها، وأرادت أن تترجم إلى التشيكية، مجموعة مؤلفاته مثل المحاكمة والمسخ؛ فكانت البداية حوار أدبي، أشعل بسرعة لافتة شغفًا تضمنته رسائلهما، وهو الشعور الذي بدأ سعيدا، ثم سرعان ما جف نبعه وتحول إلى آلام ويأس، وعندها كتب كافكا "ميلينا، ينبغي الانتهاء من هذه الرسائل المترنحة، لقد حولتنا إلى مجانين، فلا يمكنني، على أية حال، الاحتفاظ بزوبعة داخل غرفتي"، وكان ذلك بعد أن تواردت باستمرار كلمة "ضجر" بين طيات مراسلاته مع ميلينا.
هناك كذلك الرسائل التي بعثها الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوّا إلى الحب الوحيد في حياته أوفيليا كيروز، وكانت تبلغ وقت هذه الرسائل تسعة وعشرين عامًا، بينما كان هو في الأربعين من عمره، ومن فرط المشاعر التي حوتها كلماته أرسلت له "أفكر فيك كثيرًا، في التقليل من فتى، يعبدني.. سأكون صريحة معك، أخشى أن لا يدوم حبك لي طويلًا. بلى فرناندو لم تفكر قط في أن تكون لديك أسرة، أطلب منك أن تقول لي"؛ فعاد يُرسل إليها "أن الذي يحب بصدق لا يكتب رسائل شبيهة بالتي يكتبها محامي. الحب لا يتأمل الأشياء بعمق، ولا يعامل الآخرين كمتهمين"..
وكانت علاقة بيسوّا بحبيبته مُعقدة للغاية، فكانت الفتاة التي تنتمي إلى عائلة برجوازية تقيم في لشبونة؛ وتعرفت إلى الشاعر الكبير في أواخر عام 1919 في أحد المكاتب التجارية، حيث كانت أوفيليا البالغة آنذاك تسعة عشر عامًا، تقدمت للبحث عن وظيفة بصفة سكرتيرة، بينما كان بيسوّا لا يزال في الحادية والثلاثين ويعمل بدوام جزئي بصفة مترجم رسائل تجارية إلى اللغة الإنجليزية؛ وبعد مرور أشهر قلائل، طلب الشاعر، الذي وجد نفسه عاشق لأول مرة في حياته، الزواج منها بصورة دراماتيكية في ظهيرة يوم من الشتاء، عندما كانا وحدهما في المكتب؛ وكانت أوفيليا التي تملّكها الذعر بعض الشيء قد سرّها ذلك المشهد الرومانسي والمسرحي المبالغ فيه.
وتظل العلاقة لمدة عشرة أشهر بصفتهما خطيبين، ثُم تتوالد المشاكل بينهما وكانت تقف حائلًا بينهما، منها وجود شخصية ألفارو دي كامبوس، الذي أقلق العاشق كثيرًا -حيث كانت هناك أيضًا رسائل من دي كامبوس إلى أوفيليا- وكانت ترى فيه إنسانًا مكروهًا، فقد كتبت في يونيو 1920 "لا أحبه، أنه سيئ"؛ ولكن في نوفمبر لم يعد العاشقين يلتقيان ببعضهما البعض.
وبعد مرور تسع سنوات عادا لتجمعهما الصدفة من جديد، بعد أن أضحت أوفيليا امرأة في الثامنة والعشرين من عمرها، وبيسوّا صار من المدمنين على الكحول، ولم تعد تتحدث عن الزواج، بينما يحاول هو الإبتعاد عنها، وفي نهاية المطاف، تتحول الرسائل إلى مونولوج يائس خاص بها تطلب فيه بلا جدوى أن يكاتبها، قبل أن تحدث القطيعة بينهما في أواخر عام 1929.
وفي عام 1935، وقبل وفاته بأشهر، التقت عيون بيسوّا بأول كتاب منشور له وهو على قيد الحياة "رسالة" الذي أرسله إلى حبيبته، وبعد مضي سنواتٍ على ذلك، روت أوليفيا بنفسها "في يومٍ ما، طرق أحدهم الباب، وراحت الخادمة لتفتحه. وإذا برجلٍ يجلب كتابًا. عندما فتحته، عرفت أنه رسالة مرفق بإهداء، وعندما سألت عمن جلبه، ومن خلال وصف الفتاة، أدركت أن ذلك الشخص كان فرناندو بنفسه؛ هرعتُ إلى الباب، غير أنني لم أجده".
هناك أيضًا تلك العلاقة التي ربطت الكاتب هنري ميللر بالأديبة أناييس نن، والتي كشفتها رسائلهما المتواصلة، فكما أرسل ميللر إليها متحدثًا عن عشقه "ليتك تكونين معي على مدى أربع وعشرين ساعة، تراقبين كل إيماءاتي، تنامين معي، تأكلين معي، تعملين معي، هذه الأمور لا يمكن أنْ تحدث. عندما أكون بعيدًا عنك أفكر فيك باستمرار، فذلك يُلوِّن كل ما أقول وأفعل، ليتكِ تعرفين كم أنا مُخلص لك! ليس فقط جسديًا، بل وعقليًا، وأخلاقيًا، وروحيًا. لا شيء يُغويني هنا، لا شيء على الإطلاق. إنني منيع ضد نيويورك، وضد أصدقائي القُدامى، وضد الماضي، ضد كل شيء. للمرة الأولى في حياتي أنا منغمس تمامًا في كائن آخر، فيك. في استطاعتي أنْ أتخلّى عن كل شيء من دون أنْ أخشى الإرهاق أو الضياع. عندما كتبتُ في مقالتي بالأمس لو أني لم أذهب إلى أوربا إلى آخره، لم أكن أقصد أوربا، بل أنتِ. لكني لا أستطيع أنْ أجهر بهذا للعالم في مقالة. إنَّ أوربا هي أنتِ. لقد استوليتِ عليّ، أنا المكسور وأنتِ التي جعلتني كاملًا ولن أتداعى أبدا – وليس هناك أدنى قدر من الخطر من وقوع هذا"؛ وأرسلت له هي الأخرى "أرجوك أن تفهم، هنري، أنا في تمرّد كامل على عقلي، عندما أعيش، أعيش بالنبض، بالعاطفة، بالحرارة البيضاء. عقلي لم يكن معي حين مشينا معًا بجنون في شوارع باريس، غافلَين عن الناس، عن الوقت، عن المكان، عن الآخرين. وعقلي لم يكن موجودًا عندما قرأت دوستويفسكي لأول مرة في غرفة الفندق، وضحكت وبكيت في الوقت ذاته، ولم أستطع النوم، ولم أعلم أين كنت.. بعد كل هذا، أريدك أن تفهمني، حين يخرج كل أساس، كل وعي، كل تحكّم، من ذاتي، بعد هذا أبذل جهدًا عظيمًا لأنهض من جديد، ليس لأتخبّط مرة أخرى، ليس لأستمر في العذاب أو الاحتراق، وأقبض على كل الأشياء: جون ودوستويفسكي، وأفكّر ولكن لماذا عليّ أن أبذل جهدًا كهذا؟ لأنني أخاف أن أصبح مثل جون، لدى شعور تجاه الفوضى الكاملة. أريد أن أكون قادرة على العيش مع جون في جنون مطلق، ولكنني أريد أيضًا أن أتمكن من فهم الفوضى بعد انتهائها، من فهم كل ما عشته".
كانت بداية هذه العلاقة في أحد أيام عام 1931 عندما زار الروائي الأمريكي صاحب كتاب "مدى السرطان" بيتَ الكاتبة ذات الجذور الإسبانية المقيمة آنذاك في مدينة لوفيسين الفرنسية، وتوطدت العلاقة بينهما أدبيًا وشخصيًا وتواصلت حتى وفاة أناييس عام 1977؛ وكان ما بينهما علاقة قوية واستثنائية، جمعت بين الصداقة والحب والجنس طوال فترة طويلة، فكانت صديقة ومُحسنة إليه ومُعيلة. ويبدو جليًا من الرسائل مدى عمق العلاقة بين الإثنين؛ لقد شارك ميللر نن حياتها وعملها وغرفتها وفراشها، كان يتغلغل تحت جلدها وكانت تتغلغل تحت جلده، حتى يكاد المرء لا يصدّق أن هذه العلاقة قد انتهت؛ وقد مثل الترسل الحبلَ الذي قوى عرَى علاقتهما سواء في أزمنة غضب الواحد منهما من الآخر أو في خلال ابتعادهما في المكان، وعدت هذه العلاقة أيقونةً في تاريخ علاقات الكتاب الغربيين المعاصرين.
يتماثل هذا العشق وأكثر مع عشق الأديبة مي زيادة إلى حبيبها القاطن بالمهجر الشاعر جبران خليل جبران، التي لم تدعها الحياة تُقابل حبيبها أبدًا فكتبت له "لقد كتبت كل هذه الصفحات لأتحايد كلمة الحب إن الذين لا يتاجرون بمظهر الحب ودعواه في المراقص والاجتماعات، ينمي الحب في أعماقهم قوة ديناميكية قد يغبطون الذين يوزعون عواطفهم في اللألأ السطحي، لأنهم لا يقاسون ضغط العواطف التي لم تنفجر، ولكنهم يغبطون الآخرين على راحتهم دون أن يتمنوها لنفوسهم، ويفضلون وحدتهم، ويفضلون السكوت، ويفضلون تضليل القلوب عن ودائعها، والتلهي بما لا علاقة له بالعاطفة. ويفضلون أي غربة وأي شقاء "وهل من شقاءٍ في غير وحدة القلب؟" على الاكتفاء بالقطرات الشحيحة".
جبران كذلك كتب لها قائلًا "منذ كتبت إليك حتى الآن وأنتِ في خاطري، ولقد صرفت الساعات الطوال مفكرًا بكِ مخاطبًا إياكِ مستجوبًا خفاياك مستقصيًا أسراركِ، والعجيب أنني شعرت مرات عديدة بوجود ذاتك الأثيرية في هذا المكتب ترقب حركاتي وتكلمني وتحاورني وتبدي رأيها في مآتيَّ وأعمالي.
أنت بالطبع تستغربين هذا الكلام وأنا أستغرب حاجتي واضطراري إلى كتابته إليك، وحبذا لو كان بامكاني معرفة ذلك السر الخفي الكائن وراء هذا الاضطراب وهذه الحاجة الماسة قد قلت لي مرةً ألا إن بين العقول مساجلةً وبين الأفكار تبادلًا قد لا يتناوله الإدراك الحسي ولكن من ذا الذي يستطيع نفيه بتاتًا من بين أبناء الوطن الواحد.. إن في هذه الفقرة الجميلة حقيقة أولية كنت فيما مضى أعرفها بالقياس العقلي أما الآن فإني أعرفها بالاختيار النفسي؛ ففي الآونة الأخيرة قد تحقق لي وجود رابطة معنوية دقيقة قوية غريبة تختلف بطبيعتها ومزاياها وتأثيرها عن كل رابطة أخرى فهي أشد وأصلب وأبقى بما لا يقاس من الروابط الدموية والجينية حتى والأخلاقية، وليس بين خيوط هذه الرابطة خيط واحد من غزل الأيام والليالي التي تمر بين المهد واللحد، وليس بين خيوطها خيط غزلته مقاصد الماضي أو رغائب الحاضر أو أماني المستقبل فقد تكون موجودة بين اثنين لم يجمعهما الماضي ولا يجمعهما الحاضر.. وقد لا يجمعهما المستقبل".
وكانت زيادة في السادسة والعشرين حين أرسلت لجبران مبدية إعجابها بكتاباته في عام 1912، وأجاب جبران عليها وأرسل لها رواية "الأجنحة المتكسّرة" التي كان قد نشرها في نيويورك، وكتبت له أنّها لا توافقه على آرائه وخاصة في الزواج؛ وبدأت بينهما مراسلات استمرت تسعة عشر عامًا لم يلتقيا فيها أبدًا، وأرسلت ميّ صورتها لجبران في سنة 1921، فرسمها بالفحم وأرسلها لها، وتحولت العلاقة بينهما من الإعجاب الأدبي إلى صداقة روحية ثمّ إلى حب.
وكان قلب زيادة قد ظل مأخوذًا طوال حياتها بجبران خليل جبران وحده، رغم أنهما لم يلتقيا ولو لمرة واحدة، ودامت المراسلات بينهما لعشرين عامًا منذ 1911 وحتى وفاة جبران بنيويورك عام 1931؛ واتخذت مراسلاتها صيغة غرامية عنيفة، وكان هو الوحيد الذي بادلته حبًا بحب، وإن كان حبًا روحيًا خالصًا وعفيفًا؛ ولم تتزوج مي على كثرة عشاقها، فكان "جبران خليل جبران" حب مي الأبدي، وقد تعذر اللقاء بينهما طوال حياتهما، ولكن الرؤية لم تكن لتمنعهم من انجراف عواطفهم وتبادل أحاديث الهوى عبر الرسائل البريدية، التي كانت بمقاييس عصرهم تأخذ وقتًا طويلًا، فبعد أن انتظرت دون جدوى، حضور جبران إلى القاهرة، لملمت كل شجاعتها، وكتبت له.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.