« يا ميّ عيدك يوم وأنتِ عيد الزمان.. تقولين إنك تخافين الحب! لماذا تخافينه؟ أتخافين نور الشمس؟ أتخافين مدّ البحر؟ أتخافين طلوع الفجر؟ أتخافين مجيء الربيع؟ لماذا يا ترى تخافين الحب؟» هكذا عبر «جبران خليل جبران»، الشاعر والكاتب اللبنانى المعروف، عن حبه للكاتبة الشهيرة «مى زيادة» في مجموعة رسائل بعث بها إليها ولم يتوقع أن يتم نشرها، لكن تلك الرسائل خرجت للنور بالفعل بعد وفاته، وبالرغم من مرضه بالقلب، فإن حبه ل«مي» كان يخفف عنه، فقد كتب جبران في إحدى رسائله «لست بحاجة إلى الأطباء والأدوية، ولست بحاجة إلى الراحة والسكون، أنا بحاجة موجعة إلى من يأخذ منى ويخفف عني، أنا بحاجة إلى فصادة معنوية، إلى يد تتناول مما ازدحم في نفسي، إلى ريح شديدة تسقط أثمارى وأوراقي. أنا يا «مي» بركان صغير سدت فوهته فلو تمكنت اليوم من كتابة شيء كبير وجميل لشفيت تمامًا.. لو كان بإمكانى أن أصرخ صوتًا عاليًا لعادت إليّ عافيتي، وقد تقولين «لماذا لا تكتب فتشفى لماذا لا تكتب فتتعافى؟». «لا بأس.. إن كلمتى لم تزل في قلبى وهى كلمة حية مجنحة ولا بد من قولها.. لا بد من قولها لتزيل بوقعها كل ما أوجدته ثرثرتى من الذنوب.. لا بد من إخراج الشعلة.. هذا ما يقوله ذاك الذي لم يكتب يومًا إلا الكلمة المجنحة الحية المحيية.. هذا ما يقوله ذاك الذي لم تكن كل كلمة كتبها إلا شعلة منفصلة عن شعلة روحه أي عبقرى لا يخجل بكتاباته السالفة، نظرًا لسرعة التطور المكتسح كيانه؟ إن العبقرية الحقة كثيرا ما تقاس بهذا الخجل الذي ينتاب صاحبها، ولو هو حاز بكتاباته إعجاب العالم». كتب جبران رسالته تلك بعد إصدار كتابه «النبي»، الذي ترجم ل10 لغات، فالحب الذي نشأ بين جبران ومى زيادة حب فريد في تاريخ الأدب، وفى سير العشاق، فالحب بينهم نادر. كان جبران يسير وشبح الموت يطارده في كل مكان، وكان جبران يعلم أنه على موعد مع الموت، فيقول في خطاب آخر «أتعلمين يا مى أنى ما فكرت في الانصراف، الذي يسميه الناس موتًا، إلا وجدت في التفكير لذة غريبة وشعرت بشوق هائل إلى الرحيل، ولكنى أعود فأذكر أن في قلبى كلمة لا بد من قولها فأحار بين عجزى واضطرارى وتغلق أمامى الأبواب». «لا « لم أقل كلمتى بعد، ولم يظهر من هذه الشعلة غير الدخان، وهذا ما يجعل الوقوف عن العمل مرًا كالعلقم، أقول لك يا مي، ولا أقول لسواك، إنى إذا انصرفت قبل تهجئة كلمتى ولفظها، فإنى سأعود ثانية لتحقيق أمنيتي، سأعود لأقول الكلمة التي تتمايل الآن كالضباب في سكينة روحي.. أتستغربين هذا الكلام؟ إن أغرب الأشياء أقربها إلى الحقائق الثابتة، وفى الإرادة البشرية قوة واشتياق يحولان السديم فينا إلى شموس...». يعتبر «جبران خليل جبران» من الأدباء الذين لهم باع طويل في فن المراسلة عند العرب بما تركه من رسائل لفتت نظر الباحثين وأثارت فضولهم، ففى بعض الرسائل، رغم ضياع بعضها، توثقت الصلة بين جبران ومي، ويظهر ذلك من تغيير لهجة جبران في مخاطبة مي، فتدرجت من التحفظ إلى التودد، ومن الإعجاب إلى الصداقة، وتحولت الصداقة إلى حب عام 1919، لكن عندما وصل الحب لأوجه عكرت صفوه سلسلة من الخلافات بينهما، قال عنها جبران «هي معاكسات تحول عسل القلب إلى مرارة»، كما قال «إن الغريب حقًا في هذه الصلة تأرجحها بين الحب الجامح والفتور، بين التفاهم التام، الذي كان يضفى عليهما شفافية روحية تغمرهما بالسعادة، وبين سوء التفاهم الذي كان يؤلمهما ويؤدى إلى القطيعة أحيانًا»، وكان شدة حب كل منهما للآخر يدفعهما للتصالح. لقد دام الحب بين جبران ومى قرابة عشرين عامًا، دون أن يلتقيا إلا في عالم الفكر والخيال، فقد كان جبران مقيمًا في أمريكا، بينما كانت مى في القاهرة، فقد بدأ حبهما عبر الرسائل الأدبية، والأحاديث الفكرية، أذابت المسافة وقربت بين الحبيبين، فكان حبهما أنقى وأكثر شغفًا، ممن قربت المسافة بينهما وعبر حبهما بين طرقات الحياة المملة البغيضة، فأبعدت بينهما. فقد تعارف جبران ومى عن طريق الفكر والنشر في بداية القرن الماضي، بعد أن حققا شهرة في مجال الكتابات الأدبية، فقد كانت مى معجبة بمقالات جبران وأفكاره، فبدأت بمراسلته عقب اطلاعها على قصته «الأجنحة المتكسرة»، التي نشرها في المهجر عام 1912، كتبت لتعبر له عن إعجابها بفكره وأسلوبه، ولتناقش آراءه في الزواج وقيوده، والحب وأطواره، حسب رؤيته في هذه القصة التي قرأتها له. والرسالة التي بعثتها مى لجبران كانت تقول «لا يصح لكل امرأة لم تجد في الزواج السعادة، التي حلمت بها أن تبحث عن صديق غير زوجها، فلا بد أن تتقيد المرأة بواجبات الشراكة الزوجية تقيدًا تامًا، حتى لو هي سلاسل ثقيلة، فلو توصل الفكر إلى كسر قيود الاصطلاحات والتقاليد، فلن يتوصل إلى كسر القيود الطبيعية، لأن أحكام الطبيعة فوق كل شيء، وهذه تعتبر خيانة ولو في مظهرها طاهر». ومن هنا نشأت علاقة الحب بين مى وجبران، وبالرغم من وهج ذلك الحب الذي كان بينهما، فإن جبران كان يخشى التصريح بحبه ل«مي»، فلجأ للتلميح، ورمز إليها ببعض العبارات والصور الجميلة، فلم يناد «مي» ب«حبيبتي» أبدًا، ولم يخاطبها بلغة العشاق المعروفه، لكنه كان يقول لها في رسائله «أنت تحيين فيّ، وأنا أحيا فيكِ» ووصف علاقته بها بقوله «إنها أصلب وأبقى بما لا يقاس من الروابط الدموية والأخلاقية». وبعد أن باح لها بحبه، أخذ يرجوها أن تحرق رسالته إذا لم تجد لبوحه ذلك الصدى المرجو في نفسها فكانت «مي» في حياة «جبران» الصديقة والحبيبة الملهمة، وكانت همزة الوصل بينه وبين وطنه، وأكثر ما أعجبه فيها عقلها المتفتح، الذي بدا جليًا في مقالاتها وكتبها، وقد أحب فيها حبها له، وإعجابها بشخصيته وإنتاجه الأدبى والفني، بالرغم من أنها كانت تنقده في مقالاتها بمصر. أحبت مى جبران حبًا كبيرًا، لكنها ترددت كثيرًا في التعبير عن حبها، فقد كان جبران يعيش في عالم متحرر من القيود الشرقية، أما مى فقد كانت مغلولة القلب والقلم بسبب البيئة المحافظة في المجتمع الذي كانت تعيش فيه، وعانت مى صراعًا نفسيًا حادًا في حبها لجبران، مما سبّب لها الشقاء ولجبران العذاب والإرهاق. وعندما تجاوزت مى الخامسة والثلاثين من عمرها، استجمعت كل شجاعتها وكتبت أجمل رسالة حب. «جبران!.. لقد كتبت كل هذه الصفحات لأتحايد كلمة الحب.. إن الذين لا يتاجرون بمظهر الحب ينمى الحب في أعماقهم قوة ديناميكية رهيبة، قد يغبطون الذين يوزعون عواطفهم في «الللاء السطحي» لأنهم لا يقاسون ضغط العواطف التي لم تنفجر، ويفضلون تضليل قلوبهم عن ودائعها، والتلهى بما لا علاقة له بالعاطفة، يفضلون أي غربة، وأى شقاء (وهل من شقاء وغربة في غير وحدة القلب) على الاكتفاء بالقطرات الشحيحة. واستدركت في رسالتها قائلة «ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إنى لا أعرف ماذا أعنى به ! ولكنى أعرف أنك «محبوبي»، وأنى أخاف الحب، أقول هذا مع علمى بأن القليل من الحب كثير.. «الجفاف والقحط والللاء بالحب» خير من النزر اليسير، كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا، وكيف أفرط فيه؟ لا أدري، الحمدلله أنى أكتبه على ورق ولا أتلفّظ به، لأنك لو كنت حاضرًا بالجسد لهربت خجلًا بعد هذا الكلام، ولاختفيت زمنًا طويلًا، فما أدعك ترانى إلا بعد أن تنسى.. حتى الكتابة ألوم نفسى عليها أحيانًا، لأنى بها حرة كل هذه الحرية.. قل لى ما إذا كنت على ضلال أو هدى.. فإنى أثق بك، وأصدق بالبداهة كل ما تقول..! وسواء كنت مخطئة فإن قلبى يسير إليك، وخير ما يفعل هو أن يظل حائمًا حواليك، يحرسك ويحنو عليك.. غابت الشمس وراء الأفق ومن خلال الأشكال والألوان حصحصت نجمة لامعة واحدة، هي الزهرة، أترى يسكنها كأرضنا بشر يحبون ويتشوقون؟ ربما وُجد فيها من هي مثلي، لها جبران واحد، تكتب إليه الآن والشفق يملأ الفضاء وتعلم أن الظلام يخلف الشفق وأن النور يتبع الظلام، وأن الليل سيخلف النهار والنهار سيتبع الليل مرات كثيرة قبل أن ترى الذي تحبه... فتتسرب إليها كل وحشة الشفق، وكل وحشة الليل، فتلقى القلم جانبًا لتحتمى من الوحشة في اسم واحد: جبران!.. مى زيادة» فرح جبران كثيرًا برسالة مى التي كانت تحمل معها مشاعر الحب الطاهر، فرد جبران على رسالة مى برسالة حب مطولة بدأها ب»يا ميّ عيدك يوم ** وأنتِ عيد الزمان». ارتاحت مى لهذه اللهجة، وتشجعت على مداعبته في الحديث، والإفضاء إليه بما في نفسها وهمومها، وكان همها أن يبقى جبران حبيبها الأوحد لتدوم تلك الشعلة الزرقاء منهلًا للنعيم والنور في حياتها.. وأصبحت مى شديدة القلق على صحة جبران في سنوات عمره الأخيرة كما يبدو جليًا في رسائله إليها، وقد وصف جبران أسلوبها ورسائلها فقال إنها «كالنهر الرحيق الذي يتدفق من الأعالى ويسير مترنمًا في وادى أحلامي، بل كقيثارة تقرّب البعيد وتُبعد القريب، وتحوّل بارتعاشاتها السحرية الحجارة إلى شعلات متقّدة، والأغصان اليابسة إلى أجنحة مضطربة». ربما يكون أهل مى وبعض المقربين منها قد اطلعوا على صلتها بجبران في حياتها، حسبما يقول بعض الأدباء، لكن المرجح أنها كانت حريصة على إخفائها عن الناس جميعًا، وأبقتها سرًا دفينًا في نفسها، حتى ذلك اليوم الذي فجعت بموته عام 1931، فبعد انقضاء شهر على وفاته، اعترفت ميّ لقرائها بوجود مراسلة طويلة بينها وبين جبران، فعبرت مى عن حزنها على جبران، فضمت فقرات قصيرة من رسائله إليها، مصورة غربتها وغربته في الوجود بعبارات مؤلمة فكتبت «حسنًا فعلت بأن رحلت! فإذا كان لديك كلمة أخرى فخير لك أن تصهرها وتثقفها وتطهرها لتستوفيها في عالم ربما يفضل عالمنا هذا في أمور شتى...».