ثمة أمر لا بد من تذكره حينما نقرأ رواية «تسعون» للروائى الجزائرى سمير قسيمى، وهو أن جميع الشخصيات التى ذكرها الروائى داخل العمل تُحيلنا إلى ما ذهب إليه الشيخ الرئيس ابن سينا فى نظريته عن الرجل المعلق فى الفراغ، وهى النظرية التى يريد منها إثبات أن الإنسان لا يمكن له أن يكون موجودا بالفعل إلا فى حالة ما أدرك هذا الوجود، أما إذا غاب عنه هذا الإدراك، فوجوده فى هذا الكون كعدمه، أى كأنه الخيال، أو السراب لا تواجد حقيقى له. ولعل العالم الروائى الذى ساقه لنا قسيمى فى روايته يرتبط ارتباطا وثيقا بما ذهب إليه الشيخ الرئيس، حيث نجد جميع الشخصيات الروائية غير قادرة على إدراك ذاتها، اللهم إلا الحياة داخل ماضيها، وكأنها قد انحصرت داخل هذا الماضى، ولم تستطع الخروج منه مرة أخرى، فباتت تحيا فيه إلى الأبد غير قادرة على التواصل مع حاضرها، أو الحلم بمستقبلها. تبدأ الرواية بحسان ربيعى، الموظف فى البريد فى العاصمة الجزائرية الجزائر، حيث يتوقف فى رحلة عودته إلى منزله بعد انتهاء دوامه أمام متسولة، فيعطيها ألف دينار ليستمر فى طريقه غير ملتفت لها، ولكن هذا الحدث البسيط الذى قد لا يلتفت إليه أى إنسان يكون حدثا محوريا يبنى من خلاله الروائى جميع أحداث الرواية، بل يكون هو الحدث المفصلى الذى تنتهى عنده الرواية، حينما نعرف فى النهاية أن هذه العجوز المتسولة هى مليكة أم حسان ربيعى التى تركته وهو لم يزل طفلا، وهربت بعيدا عنه وعن زوجها. وما بين الحدث الأول حينما أعطاها حسان ألف دينار، وبين مشهد النهاية حينما يصطدم بها فى محطة القطار فى الجزائر لتقع أرضا، يدور عالم طويل وثرى من الماضى لجميع الشخصيات، يستطيع قسيمى بذكاء وبراعة تقديم هذا العالم بكل تفاصيله وانكساراته وهزائمه المتتالية، لتكتمل لنا الصورة مشهدا تلو الآخر حتى تكتمل واضحة فى نهاية السرد، حيث حرص الروائى على أن يقدم لنا الحقائق بشكل فيه من الندرة والبطء ما يجعل القارئ مرتبطا بالأحداث حتى النهاية بشكل فيه الكثير من التشويق. يقول جوزيف كونراد: «إن مهمتى التى أحاول تحقيقها.. هى أن أجعلك تسمع، أن أجعلك تشعر، إنها قبل ذلك كله، أن أجعلك ترى»، ولعل هذه المقولة التى قالها كونراد تكاد تنطبق تماما على الكتابة السردية لدى سمير قسيمى فى روايته، فلقد نجح الروائى هنا أن يجعل سرده بالفعل مرئيا لمن يقرأه، حتى إنه سيشاهد الكلمات فى صور حية وكأنها صور تدور أمامه بالفعل، أو كأنه أمام شاشة عرض سينمائى يرى فيها عالم حسان ربيعى، ووالدته مليكة، وأبيه عبدالعزيز، وجده «القريشى»، وخالتى لويزة المحامية التى تولت قضيته وهو صغير حينما تعرض للاغتصاب، بل وهذا الصوت الداخلى الذى يطارد ربيعى طول الوقت مفسدا عليه حياته، جاعلا إياه يحيا على تخوم الجنون. سمير قسيمى هو روائى يمتلك أدواته السردية، ويعى جيدا أنه يمتلك هذه الأدوات؛ ولذلك يتحول لديه السرد الروائى إلى لعبة ممتعة يستطيع خلالها ممارسة جميع تقنيات الكتابة؛ للوصول إلى نهاية حكايته، فهو على طول الرواية يسوق العديد من المواقف غير المفتعلة التى تجعله يعود بالسرد إلى ماضى جميع الشخصيات، ليس فقط إلى ماضى حسان ربيعى، بل إلى ماضى خالتى لويزة، والأم، والأب والجميع، ولعل استخدامه ضمير الغائب والراوى العليم أفاداه أيما إفادة فى مثل هذا اللون من الاسترجاع الذى يتشابه تماما مع الفلاش باك «Flash Back» فى السينما، بل بلغت المهارة بالراوى هنا إلى أن هذا الفلاش باك كان بالفعل يأخذ تقنية سينمائية حينما يقطع الراوى السرد الآنى فجأة؛ كى ينتقل إلى مشهد آخر من الماضى، ثم لا يلبث العودة إلى الحاضر مرة أخرى، وهكذا على طول السرد الروائى فى شكل فيه من التشويق ما يجعل القارئ مرتبطا بالسرد حتى النهاية؛ فنراه حينما كان غارقا فى الماضى يحكى شيئا من حكاية أمه مليكة حينما اغتصبها ابن عمها عبدالعزيز يقول: «قالت مجددا، إلا أن وخز حلقها هذه المرة كان أقل ألما، وكأنها حين نطقت بمصيبتها مرتين تخففت من وزرها، أتراها اعتقدت أنها حين تخبر والدها ستتحرر من مصيبتها للأبد؟! عبدالعزيز ابن عمك؟! سأل مذعورا، ولكنه لو تأمل السؤال، لأدرك أنه كان على علم بخطورته، وإلا لمَ لمْ يخطر على باله إلا ابن أخيه، هذا الذى اتخذه ولدا بعد موت أبيه، هذا الذى ستر أمه وتزوج منها. هزت رأسها فأظلمت عيناه. صمت برهة وقد طأطأ رأسه يبحلق فى الأرض، تماما كما كان يفعل حسان ربيعى، بيد أنه كان، على خلافه، يبحلق فى كتاب بولاتوفيتش، تلك الرواية القاسية، الصريحة فى مقت الوطن الإجبارى». يقدم الروائى فى روايته العديد من القضايا التى تهم المجتمع الجزائرى لاسيما قضية اغتصاب الأطفال، وهى من الأمور المنتشرة فى الجزائر، حيث يؤكد قسيمى على هامش روايته أنه فى الجزائر يتعرض حوالى سبعة آلاف طفل للاغتصاب سنويا، بمعدل أكثر من 19 طفلا كل يوم، وحسب دراسات حديثة، فإن 80٪ من حالات الاغتصاب لدى الأطفال فى الجزائر لا يتم التبليغ عنها، ومن خلال هذه الكارثة التى يعانى منها المجتمع الجزائرى ينطلق قسيمى فى روايته، حيث نعرف فيما بعد أن حسان ربيعى قد تعرض فى طفولته للاغتصاب من حارس المدرسة؛ الأمر الذى أدى إلى مرضه بانفصام فى الشخصية، وهو ما أدى إلى هذا الصوت الداخلى الذى دائما ما يقتحم حياته ويحاول محاورته بشكل مستفز يجعله على تخوم الجنون، لولا العديد من الأدوية المهدئة التى يتناولها للتخلص من هذا الصوت، إلا أن هذه الأدوية قد أدت به فى نفس الوقت إلى العجز الجنسي؛ نظرا لأعراضها الجانبية. هو هنا يحاول جعل حالة الاغتصاب غير قاصرة على حسان ربيعى فقط، ومن ثم عاش حياته بالكامل يعانى من هذا الاغتصاب، فهو الاغتصاب الذى نال أمه مليكة أيضا من ابن عمها عبدالعزيز، ومن ثم بات ابن سفاح، بل امتد هذا الاغتصاب إلى الوطن بالكامل، وبات الجميع مُجبرين على الحياة مُغتصبين من السلطة وما تفعله معهم، ولعل هذه الحالة التى يحياها الشعب الجزائرى من سلطة غاشمة تفعل ما ترغبه، فى حين أن أبناء الوطن بالكامل غير قادرين على التفوه بكلمة، هو ما تعيشه المنطقة العربية بالكامل التى يتشدق حكامها بالديمقراطية والحرية الكاذبة فى حين أنهم يعيشون داخل سجون كبرى يتم اغتصابهم فيها ليل نهار، وربما كان هذا هو السبب الرئيس الذى جعل السلطة دائما فى حالة عدم اهتمام بحديث الناس رغم أن هذا الحديث ضدها؛ فهذا هو المتنفس الوحيد لهم حتى لا ينفجروا فيهم وتثور ثائرتهم. نلحظ من خلال السرد الروائى لدى قسيمى أنه مهموم بالعديد من القضايا التى يبثها من خلال سرده بشكل تلقائى غير متعمد، ومن ثم تعطينا فكرة عن المجتمع الجزائرى الذى يتعامل مع المرأة باعتبارها عبئا أو شيئا لا قيمة له، ومن ثم فهو مجتمع ذكورى بامتياز يحاول الظهور فى شكل مجتمع مدنى متحضر، مثله فى ذلك مثل جميع المجتمعات العربية التى تتعامل مع الأنثى باعتبارها مجرد هباء: «لن يصدقها أحد؛ فهى مجرد أنثى، ضلع أعوج خُلق للمتعة، باب من أبواب النار. لن يصدقها وسيصدر حكمه عليها، وكل رجال القرية الصادقين فى شرفهم سيساندونه ويكتبون فى تاريخهم الرسمى: لم ينجب الحاج القريشى إلا ذكرا، سماه حمد الله عبدالرازق ومات صبيا». وبعد سنين حين يموت القريشى، سيشكك أحد المتعلمين فى التاريخ الرسمى، ويبحث ليجد اسمها مكتوبا على شاهد قبر «هنا ترقد بغير سلام مليكة لا رحمها الله». ثم يسأل عنها، فيقول من ورثوا كتابة التاريخ: «لا تهتم، لم تكن أحدا، لم تكن ابنة أحد»، وكل هذا بسبب تعرض مليكة أم حسان للاغتصاب من ابن عمها، وبالتالى تكون هى المخطئة بينما لا تمكن إدانة الذكر الذى فعل مثل هذا الفعل، وهو ما يؤكده القاضى حينما يحاول «القريشى» الدفاع عن شرف ابنته التى يتهمها المجتمع باعتبارها عاهرة، وأنها حملت سفاحا، ولأن الأب يعلم جيدا أن ابنته مظلومة فهو يعترف على نفسه بأنه هو من ضاجع ابنته واستولدها طفلها؛ كى يُنسب الطفل إليه فى الأوراق الرسمية بحكم المحكمة بعدما رفض عبدالعزيز الاعتراف بأبوة الطفل، فنرى القاضى: «استوى فى مقعده وأضاف: فى كل قضية اغتصاب تُعرض أمامى أزداد يقينا أن الضحية الوحيدة هو المتهم بالاغتصاب، فلولا سلوك المرأة المُغتصبة لما اقترف هذا الجرم، ومع هذا لا سبيل إلا لتطبيق القانون»، وهى نظرة المجتمع العربى بالكامل تقريبا إلى المرأة، وأنها السبب دائما فى كل جرائم الشرف، إن لم تكن السبب فى كل جرائم العالم، بينما الرجل هو الملاك الأخلاقى الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أبدا؛ الأمر الذى يؤدى فى نهاية الأمر إلى جعل المرأة مجرد شىء لا قيمة له فى مجتمعاتنا، بل ومهضومة الحق دائما. ولعل هذه النظرة غير مقصورة على من تتعرض للاغتصاب فقط، بل هناك نظرة أخرى أكثر فداحة للمطلقات باعتبارهن عاهرات، وهى نظرة شائعة فى مجتمعاتنا العربية البائسة حينما يقول حسان عن زوجته: «فهى لم تتزوجنى حبا فى شخصى ولا حتى لتجد لنفسها شريكا فى الفراش كما تحب أن توهمنى. تزوجتنى لأنها سئمت من لقب المطلقة». ونجح قسيمى خلال عذوبة لغته، وتمكنه منها، وأسلوبيته الماهرة فى صياغة الجملة الروائية أن يقدم لنا عالما روائيا ثريا، جميع شخصياته معلقة فى الفراغ، تعيش ماضيها غير قادرة على التكيف مع حاضرها، فقدم العالم ممزقا، كل شخصية فيه ترغب فى الاحتماء داخل نفسها وماضيها هربا من الآخر، فالأم هربت من ولدها القميء الخلقة، ومن زوجها، بعدما هربت فيما قبل من قريتها والعار الذى لحقها، وابن عمها هرب من الجميع بعدما نال لعنات أمه، وبعدما سُجن عمه أبو مليكة لاعترافه بأنه من اغتصب ابنته فى محاولة للحفاظ على شرف ابنته الذى دنسه ابن أخيه، حتى المحامية صديقة الأم التى تولت قضية حسان حينما تعرض للاغتصاب تعيش فى ماضيها وفى أزمة وجود ابنها المثلى الذى يفضل غيره من الرجال على النساء، كل هذا العالم عرضه قسيمى فى لغة عذبة تجعلنا نتوقف أمامها كثيرا فنراه يقول: «فمنذ دقائق اشتد المطر دون أن يبدو أنه راغب فى أن يخف. كان ينهمر وكأن دلاء السماء تقلب تباعا، فيصفع الأرض المبلطة حيث تقف».