بإهداء جميل لابنه الذي منحه ليالي بيضاء ليكتب الرواية، ولأمِّه سادة في قبرها، يستهلُّ الروائي الجزائري سمير قسيمي كتابه الرابع أو مغامرته الروائية الرابعة الصادرة حديثاً عن منشورات الاختلاف بالجزائر والعربية للعلوم ناشرون بلبنان، في 215 صفحة جاءت مختلفة، متفردة، قاسية بعنوان مفاجئ وغريب: "في عشق امرأة عاقر"، إذ وبعد تأمل لوحة الغلاف الجميلة للفنان خالد بوكراع وتلكما العينين الحادتين رغم النقاب الأسود، لا يتطلب الأمر سوي قلب صفحة الإهداء حتي يتضح للقارئ من هي المرأة العاقر التي سنكتشف عشاقها عبر فصول الرواية الثلاثة عشر. جزائرٌ تقف في الحد الفاصل بين البلاد القادرة علي الإنجاب في مقولة المجاهدة جميلة بوحيرد والوطن اللعنة بكل تشبيهات الروائي اليوغسلافي في كتابه "رجال بأربع أصابع". لا أحد ممن كانت لهم فرصة الإطلاع علي أعمال سمير قسيمي السابقة، بداية ب"تصريح بضياع"، "يوم رائع للموت" و"هلابيل" العمل الذي تُطرحُ حولَ تغييبِه عدَّة تساؤلات؟ لا أحد ينكرُ أن للكاتب قدرة مدهشة علي استنطاق شخوص الهامش، أبطالُ حكاياته المتشابكة، المتقاطعة في طريق وحلة تتفرَّعُ لتلتقي من جديد ثم يخفيها الضباب والعتمة كمصير كائنات آدمية تسيرُ نحو حتفها، نحو أملها المعلق كحبلِ مشنقة أو نجاة في آخر المسير. وما من أحد يخرج سالماً من هذه المعمعة المغرية أدبياً، القاتلة في واقعيتها المأساوية حتي وإن كان القارئ الجالسُ في شرفةٍ صباحية يتناول فنجان قهوة بمزاج رائق. ذلك أن سمير قسيمي وبلغة قوية، صادمة ولا تخلو من جماليات الشعر في أكثر من موقع، يروي حكاياته "في عشق امرأة عاقر" ولا شيء آخر يكدِّرُ صفوَ ودهشة هذا الفعل، فعل رواية الحكاية، كتابة الرواية، والغوص عميقاً في وحلِ الواقع ومستنقعاته المترامية الحدود في وطنٍ ممزَّقٍ لا قدرة له علي احتضان أبنائه الذين شردتهم الحياة وساروا في ممراتها الضيقة حد الاختناق دون خيار أو رغبة. في روايته الأخيرة يتجسدُ بشكلٍ واضح وفاء سمير قسيمي لشخوص الهامش كما يسمِّيهم هذا الكاتب الشاب الذي استطاع أن يتخذ له مكاناً في مسار الرواية العربية في ظرفِ سنتين بأربع أعمال متتالية، وفاء لا ينقصهُ ذكاءُ الروائي في سرد وقائعَ قصة عمرها الزمني ساعة ونصف، مختزلاً بمهارة عالية مسار وطنٍ بأكمله طيلة ثلاثين سنة، واضعاً إصبعه علي جراحات كثيرة أدخلت الجزائريين في دوامة عنف لم تكن نهاية سعيدة لمطالب الحرية والعدالة الاجتماعية وتحسين ظروف المعيشة التي انتفض لأجلها شباب أكتوبر 1988 .. والذين كان من بينهم البطل حسان ربيعي. ولكن قبلَ أن نتحدث عن حياة حسان ربيعي التي تتقاطع مع مصائر شخصيات أخري داخلَ الرواية، لا بد أن نشير إلي جرأة سمير قسيمي في اتخاذ مظاهرات يقول أنها اندلعت في 17 نوفمبر 2010 كخلفية سردية شبهها البطلُ بأحداث أكتوبر نهاية الثمانينيات ولا يمكنُ أن نغفل إسقاطها علي ثورات العالم العربي الذي يعيش ربيعه بكل ما يحمل ذلك من آمال ومخاوف وهواجس وأحلام.. ذكاء يحسب للكاتب الذي واصلَ إيمانه بتعدد الأصوات داخل العمل الواحد وقد جمع في روايته "في عشق امرأة عاقر" بين هذه التقنية، تعدد الرواة وتدخله كراوٍ عليم دون تمهيد، مما أضفي علي العمل صفة التحدي والتجريب الواعيين كونَ قسيمي قارئ نهم للأدب العالمي والعربي ومهتم بالسينما والتشكيل. علي مدار صفحات الرواية تتجلَّي جرأة الكاتب في تعرية الواقع، بلغة صريحة، جارحة وتمنحُ شخوص الرواية الحرية المطلقة للتعبير عن مشاعرهم الحقيقية تجاه وطنٍِ وأدَ فيهم كل شيء جميل منذ لحظة الميلاد ونقلَ لهم عقمه عبر محطات العمر المظلمة، والخيبات والهزائم والانكسارات المتكررة حتي لم يعد أحد من هؤلاء يملك وصفاً لملامحه بعيداً عن اليأس والألم والاغتراب الذي كان الحجرَ الأساس للبناء الروائي، بداية بحدوث خللٍ في البرنامج اليومي لحسان ربيعي بسبب تلك المرأة المتسولة بمحطة القطار إلي تعطل هذا الأخير وغرقه في العتمة نتيجة انقطاع الكهرباء وتساقط الأمطار التي رافقتها أخبار عن اشتعال العاصمة بمظاهرات وأحداث شغب. نقرأ في بداية الفصل الأول بصريح العبارة، "غني الدولة الفاحش وفقر الشعب المدقع" .صفحة 9. وبلغة ساخرة: "كانت جميعها الجرائد تتحدث عن وطن رائع مزدهر، عن شعب لا يقسم إلا برأس رئيسه، عن رئيس لا هم له إلا إسعاد شعبه". صفحة 17. وتتوالي الإسقاطات السياسية والاقتصادية علي لسان أبطال الرواية الذين عانوا كثيراً وفي لحظة بوحٍ حقيقية أخرجوا ما ينخر أعماقهم ويشرب ماء عيونهم قبل أن يستبيح دماءهم وأرواحهم في أجساد منهكة ونفسيات مريضة متصدعة كسفن ابتلعها البحر ولفظها حطاما علي شواطئ جزرٍ وحشية مجهولة. وبمضيِّ الصفحات تزداد حدة التشويق ومعها المتعة بتلك اللغة التي حفرها الروائي سمير قسيمي حفراً بين عامية فجائية، سطحية أحياناً وبذيئة جداً أحيانا أخري بقدر شفافيتها وجمالياتها في عدة أماكن سردية تفرضها لغة الحوار بين مجموعة المواطنين المحتجزين بفعل ظروف قاهرة في ذاك الركن من العاصمة، من العتمة، من الكوابيس التي تخرجُ إلي الوجود كطفح جلدي من أعماق النفس ممزوجة بالوحل والبرد والوحدة. وقد تخلي "الوطن الإجباري" عن أبنائه في قصص مأساوية تتكرَّر كل مرة بشكل أعنف. حسان ربيعي يبدو في البدء شخصاً عادياً عدا شكله "الممسوخ" كما لو أن يداً خفية من مزابل التاريخ امتدت وشوهت هذا الكائن الذي بات أقرب إلي "الكلب السلوقي" كما وصفه الروائي وعلي لسانِ أشخاص آخرين كانوا معه في القطار. وضعه المادي جيد إن لم نقل ممتاز ولكنه يتحدث عنه بشكل عابر وكأنه لا يعني له شيئا، وإن كان الأمر سرا يخفيه حسان حتي علي زوجته. التي هي أيضاً "عرفها هكذا" مطلقة من رجلين قبله، ليختبرَ معها حياة لا تخلو من لعنة البلاد المضربة عن الإنجاب ولو وهماً. نقرأ في الصفحة 212 "وهم الحب الذي يشعرون به نحو امرأة لا تعبأ بهم، لا تعطيهم بقدر ما تسلبهم، حتي غدوا دون أن يدركوا وطأة الزمن شعبا مسلوبا من كل شيء، ومع ذلك يختبرون صبرهم علي ذلتهم كل عام، علي أمل أن تحبل المرأة ذات مرة، وتنجب ككل نساء العالم العشق الذي وضعوه فيها، لكنها في كل مرة يقربونها تخذلهم ولا تنجب". شبكة عنكبوت غير مرئية تطوق الهمَّ الشخصي في حياة حسان الطفل "ابن أمه وكل الرجال" .. من عدم الاعتراف به إلي اغتصابه في ذاك القبو المظلم من طرف حارس مدرسته الابتدائية وميلاد "الصوت الغائر فيه" الصوت الذي وفِّقَ في تشكيله سمير روائياً بطريقة احترافية.. إلي فشل المحاكمة وتخلي أمه عنه بعد حفلة وداعٍ سميت كإحالة شعرية ب"العشاء الأخير".. لتتوالي قصص الاختفاء أمام شاشةِ الزمن الغامضة، وظلامِ لياليه الطوال التي لم تكن ليلة 17 نوفمبر إلا قطعة صغيرة منها.. لم تضئها محاولات استعادة الذكريات البعيدة. سمير قسيمي يسردُ بالتفصيل قهرَ المجتمع للفرد. وكيف يحدثُ ما لا يتحمله الخيال علي أرض واقع عبثي من صنع أيدينا؟ أسئلة كثيرة تجرُّ القارئ المتطلب إلي الدخول في شبكة الخيوط تلك، المنسوجة بإتقانٍ يجعلُ من الكاتب صوتاً روائياً عربياً بامتياز له أدواته الخاصة في الكتابة. في عشقها، في الإخلاص لها.. ثلاثون سنة تمضي ويمرُّ الابن بجانب أمه يومياً بعد أن تركته في سن الثانية عشر مع زوج لا حول له ولا قوة. لتكون بعد هذه الثلاثين أضعف مخلوق في نظر الكثيرين يتوسل "عشرة دنانير فقط" .. قبل أن تأتي المصادفة التي افتتح بها الكاتب روايته وتستلم من ورقة مالية بألف دينار لا لشيء، فقط لتتأكد سخرية القدر في وطن ظلَّ الحديث عن سقطاته الفادحة في مستنقعات التخلف والرجعية والاستلاب الخيط غير الخفي مند الصفحات الأولي للرواية.. بين الشاب الذي يشبه "الإثم" و"أمين قرللو" وأمه محامية حسان ربيعي بعد اغتصابه طفلاً وعمال القطار تحدث قصص جانبية تروي عل عجلٍ لتنقل أجواء القطار بعد تعطله في ليل العاصمة المشتعل.. قبل أن يتفرق الجميع كلٌّ إلي مصيره ويمرُّ الثلاثة بجنب بعضهم البعض دون أن يدرك أحد منه من الآخر؟ الابن وأمه التي تخلت عنه ومغتصبُها أو من المفترض أن يكون أب حسان ربيعي. كيف تحافظ المحرمات علي صفتها وسط كل هذا اللبس؟ أمام تشريح متأني وبلغة غير مهادنة، تعري وتفضح جرائم تحدث علنا وفي الخفاء بطلُها الأول إنسان هذا الوطن.. بكل تشوهاته النفسية والأخلاقية وحتي الجسمية .. فالمأساة واحدة بين واقع الحال وحال الواقع مكتوباً بأصابع من دهشةٍ مزجت بروعةِ المشتغل علي نصه ألوانَ الحياة بوحل وسواد وتراب هذه الأرض.. "في عشق امرأة عاقر" لصاحبها سمير قسيمي هي أيضاً تلك "الرغبة الجامحة في النجاة، هرباً من الموت المنتظر وفراراً إلي حياة لا ترغب في أحد" أو كما نقرأ في الصفحة 213.. روايةٌ لكتاب ذكي لا يشرِّح الواقع الجزائري فقط بل يتعدَّاه إلي أوطان عربية أخري.. وكل الشعوب الحالمة بالحرية، المتمسكة بعشق وطنٍ لا علاقة له بالوطن الإجباري المفروض من طرف "حكام متذاكيين" تجاوزهم الزمن والأحداث وما يصنع الشارع اليوم من معجزات وإن لم يلتق جلُّها في سياق تاريخي واحد.. وبين الاغتصاب وانعدام الأمل والسوداوية يولد هذا العشق المستحيل ولو في حب امرأة عاقر.