ترتبط الأبعاد السياسية بالأبعاد الثقافية والاجتماعية على نحو جدلي؛ فالسياسة لا تمارس ولا تستمد فاعليتها إلا في إطار ثقافي اجتماعي متعين، والتمييز بين هذه المستويات المختلفة في الواقع، أي التمييز بين السياسي والثقافي والاجتماعي، هو مجرد تمييز أكاديمي إجرائي تخصصي، يتم لاعتبارات عملية، أما الواقع فيكشف عن ترابط وتفاعل هذه المستويات كل منها مع الآخر على نحو يكشف عن انتظامها في نظام متكامل. البعد الثقافي في التعديلات الدستورية: تستحق مصر بعد الموجات الثورية المتلاحقة منذ 25 يناير عام 2011 ضد التسلط والتسلطية بكافة أشكالها الدينية وغير الدينية، دستورًا يليق بمكانة مصر وثقافتها، ويضع مصر في مكانتها الريادية التي حظيت بها عبر تاريخها القديم والوسيط والحديث. ولن يكون بمقدور المشرع الدستوري المصري وضع مثل هذا الدستور أو التعديلات الدستورية المزمع إدخالها على دستور عام 2012 المعيب؛ إلا إذا ارتكز على خريطة معرفية للثقافة المصرية والعالمية، بمقدورها أن تستخلص القيم والمبادئ المضمنة في الثقافة المصرية والثقافة العالمية الراهنة، وأن تستطيع هذه الخريطة المعرفية أن تميز وبوضوح بين هذه القيم والمبادئ، خاصة تلك المتضمنة في الثقافة العالمية، وبين الاستخدام والتوظيف السياسي لها، بين طابعها الكوني والعالمي، وبين اندماجها في مشاريع الهيمنة والسيطرة الكونية، والذي لا ينبغي أن يفضي إلى تجاهلها ونفي طابعها الإنساني الشامل. تمكنت مصر في تاريخها الحديث والمعاصر من تشكيل نماذج حضارية وسياسية تؤثر فيما حولها وتقدم قدوة للاحتذاء والاسترشاد بها من قبل الدول العربية المحيطة، فمنذ بدء الاحتكاك بالحضارة الحديثة ومع محمد علي تشكلت إرهاصات النهضة الأولى، والتي تمثلت في اقتباس الوافد الحضاري الجديد واستيعابه تدريجيًا، والاحتفاظ في نفس الوقت بالخصوصية الثقافية والحضارية الإسلامية وطوعت هذه الخصوصية لاستيعاب الجديد في البيئة الوطنية. واستمرت هذه المعادلة طوال القرنين التاسع عشر والعشرين عبر مراحل تطور النهضة المختلفة، وتعاقب الأجيال، وفي النصف الثاني من القرن العشرين تمكنت ثورة التحرر الوطني بزعامة عبدالناصر من تشكيل نموذج تحرري وطني بمضمون اقتصادي واجتماعي متقدم، وفق سياق عصره ومن بعد رحيله تمكنت مصر بزعامة السادات من تأسيس نموذج السلام والانفتاح الاقتصادي والتعددية المقيدة. وهكذا يفترض أن تواصل مصر مسيرتها بعد ثورتها في وضع تعديلات دستورية قد تفضي إلى وضع دستور جديد أو تقتصر على بعض التعديلات في دستور 2012. ولن يكون بمقدور مصر أن تحتفظ بالقدرة على تشكيل نموذج جديد، إلا عبر استلهام هذه التعديلات لروح وقيم الثقافة المصرية عبر تبني مقاربة ثقافية شاملة تتميز بالإحاطة والنظرة المتعمقة. هذه المقاربة الثقافية ينبغي أن تستلهم القيم الثقافية التي تميز ثقافة المصريين في تطورها عبر الزمن والتاريخ؛ ألا وهي قيم الوسطية والاعتدال والقابلية لاستيعاب الجديد والوافد بصيغة معينة والقدرة على التفاعل والاقتباس ورفض العزلة والأحادية وقبول التنوع والاختلاف ورفض التطرف والغلو والتعصب وتجاوز النصية والحرفية وتزكية الحكمة والإيمان. وإذا كانت هذه هي القيم التي تميز الثقافة الوطنية المصرية فإن الثقافة العالمية الراهنة ومع تطور العولمة وانهيار الحدود بين الثقافات، وتشكل حضارة عالمية واحدة وثقافات مختلفة، تتميز هي الأخرى بقيم حقوق الإنسان والديمقراطية والحق في الثقافة على الصعيد الفردي والجماعي، على مستوى المشاركة في إنتاج الثقافة أو التمتع بمنتجاتها، وكذلك قيم تدعيم الانتماء المشترك إلى الإنسانية. إن هذه القيم والمبادئ المضمنة في الثقافة الوطنية والثقافية العالمية من الممكن استحضارها واستدعاؤها في صلب التعديلات الدستورية المقترحة والمزمع إدخالها على دستور عام 2012، حتى تكون هذه التعديلات بمستوى طموحات الشعب المصري وبمستوى ومكان مصر في الماضي والحاضر.