عكفت قبل كتابة هذا المقال علي قراءة وجهات النظر المعارضة للتعديلات الدستورية التي وضعتها لجنة الخمسين علي دستور عام 2012 المعيب. ورغم القراءة المتأنية لهذه الآراء ورغم تنوعها وتفاوت المواقف التي عبرت عنها ما بين معارضة ومتحفظة فإنها لم تكن كافية في تقديري لرفض هذا الدستور الجديد تقريبا أو التصويت بلا في الاستفتاء الذي سيجري يومي 15,14 يناير المقبل. سأقول نعم للدستور الجديد رغم بعض التحفظات التي اتفق مع الكثيرين حولها, ولكنني لن أكرر هذه التحفظات وسأدخل مباشرة في الأسباب التي تجعلني أقول نعم لهذا الدستور التي يشاركني فيها الكثيرون من المواطنين الذين ينوون التصويت ب نعم في الاستفتاء المزمع إجراؤه قريبا. في مقدمة هذه الأسباب لقبول الدستور والموافقة عليه هو أن هذه التعديلات في دستور 2012 كانت حصيلة توازنات قائمة في مشهد ما بعد 30 يونيو وأطراف هذه التوازنات حاولت إخراج أفضل ما لديها, في حدود مراكز القوة والتأثير التي يمتلكها كل منها, والدستور كوثيقة سياسية قانونية وإن عظمت أهميتها ليست سوي نتاج لمحصلة هذه التوازنات والتي يستعصي القفز فوقها. من ناحية أخري فإن عملية وضع هذه التعديلات والاستفتاء عليها ليست عملية منفصلة عما بعدها, بل هي جزء لا يتجزأ من العملية السياسية الشاملة التي دخلت فيها مصر منذ الثلاثين من يونيو والثالث من يوليو; ذلك يعني أن الدستور جزء من سياق سياسي شامل وخريطة كاملة لبناء المؤسسات واستعادة هياكل السلطات التنفيذية والتشريعية عبر إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية وطرح البرامج السياسية والتنموية للمؤهلين لخوض هذه الانتخابات التنافسية, أما ثاني هذه الأسباب فهو أن هذه التعديلات ورغم أنها جيدة فإنها تبقي رهن الاختبار في الممارسة العملية التي ستتولي ترجمة المبادئ والبنود المضمنة في الدستور إلي تشريعات قانونية وإجرائية تتفق مع روح الدستور وجوهره, وهذه المسألة بالذات تعتمد علي نتائج الانتخابات البرلمانية والرئاسية وقدرة القوي الفائزة فيها علي القيام بعملية ترجمة نصوص ومواد الدستور, إلي قوانين توضع موضع التنفيذ, دون تمييز ودون تفريق, وهذه المعركة تبدو علي درجة شديدة من الأهمية; لأنها تتعلق بإلزامية الوثيقة الدستورية ومصداقيتها, خاصة وأنه قد جري العرف في مصر ما قبل الثورة وما بعدها علي أن القوانين قد تعصف جزئيا أو كليا بروح النصوص الدستورية وقوتها الإلزامية لدي المشرع الوطني. أما السبب الثالث فيتمثل في أن هذا الدستور قد أعاد إلي الأمة روحها التي أوشكت علي أن تفقدها في دستور عام 2012; حيث أكد الدستور الجديد وحدة التاريخ المصري بكافة حقبه وطبقاته من التاريخ القديم والوسيط إلي التاريخ الحديث, وأسس لدولة حديثة تنتهج المواطنة عقيدة وسلوكا, دولة مدنية رغم غياب هذا التوصيف الأخير, وإحلال حكومتها مدنية بدلا منه, ومع ذلك فإن شبح الدولة الدينية الطائفية التي كان يؤسس لها دستور عام 2012 لم يعد يخيم علي مخيلة المواطنين أو علي الأقل ابتعد إلي حين. وضع الدستور مصر في قلب الثقافة المعاصرة والتي تتمثل في مواثيق واتفاقيات حقوق الإنسان في أجيالها المختلفة وضمن مواده المتعلقة بهذه الحقوق التزام الدولة المصرية باحترام وتنفيذ تلك الاتفاقيات والمعاهدات الدولية الخاصة بهذه الحقوق والتي وقعتها مصر, وهو ما يعني أن هذه الحقوق أصبحت أو هكذا ينبغي أن تكون في المستقبل- جزءا لا يتجزأ من التشريعات الوطنية وأن احترامها وتنفيذها يكتسب قوة إلزامية ويستلزم انتهاكها أو خرقها مساءلة قانونية وجنائية. حاول دستور 2012 أن يعيد مصر إلي روح الطائفية والعزلة وأن يتنكر لميراثها الثقافي المتنوع والغني تحت حجج سطحية وواهية لا تصمد لأي نقاش موضوعي, ذلك أن العرب والمسلمين كانوا في طليعة من احتكوا وتفاعلوا ونقلوا واقتبسوا من الحضارات المجاورة الهندية والفارسية واليونانية, لقد عرف الأوروبيون أرسطو من خلال الترجمات العربية, حاول دستور عام 2012 حظر الرجوع إلي الاتفاقيات والمعاهدات الدولية لحقوق الإنسان, كان علي خصومة مع شريعة حقوق الإنسان خصومة سياسية وثقافية وقانونية بسبب الطابع الدوجمائي والطائفي والإيديولوجي لمعتقدات من تم اختيارهم لوضع الدستور باستثناء تلك القوي التي رأت مبكرا إلي أين تتجه عملية وضع الدستور آنذاك. زاوج الدستور بين الثقافة الوطنية المصرية في قسماتها البارزة المتمثلة, في الوسطية والاعتدال والانفتاح والتوازن والتدين الحقيقي وبين الثقافة العالمية الراهنة وخاصة قيمها الإيجابية المتمثلة في احترام الآخر وحرية المعتقد والإعلاء من شأن الكرامة الإنسانية وحظر التعذيب والاتجار في البشر, هذا المزج بين قيم الثقافة الوطنية والثقافة العالمية وبالذات جانبها المتعلق بحقوق الإنسان هو في تقديري أهم إنجاز للجنة الخمسين في الدستور المعدل, وهذا الانجاز من شأنه أن يعزز من منظومة حقوق الإنسان في مصر وأن يعزز من تكيف أجهزة الدولة بالذات الأمنية مع هذه الأوضاع الجديدة والأهم أن يفرض ضرورة إعادة النظر في صورة الغرب والحضارة الغربية فهي ليست بالضرورة شرا مطلقا أو خيرا مطلقا بل ثمة جوانب مشتركة إنسانية وحضارية وقيمية تجمعنا بها. فتح الدستور المعدل أفق التفاعل والاشتباك السلمي والنقدي مع الثقافة العالمية الراهنة وأسقط العديد من الحواجز والمخاوف المتوهمة من الذوبان والمبالغة في الحفاظ علي الخصوصية التي لن تتدعم إلا عبر الانفتاح والاقتباس والتفاعل مع عالم اليوم. ولا شك أن مسار التحول الديمقراطي ليس سهلا أو ممهدا حيث تتوقف المحصلة علي التوازنات والقوي النسبية للأطراف المختلفة في الساحة, كما أنه لا يوجد بالضرورة نموذج واحد أحادي يمكن اقتباسه أو تبنيه واعتماده بل توجد ضرورة لتبني نموذج وطني مؤلف من حصيلة التعرف علي المسارات الأخري في التحول الديمقراطي والتي هي عملية لا تكتمل بخطوة واحدة بل هي خطوات متكاملة, والدستور المعدل ورغم التحفظات هو بلا شك خطوة في هذا الطريق. لمزيد من مقالات د. عبد العليم محمد