شهدت نحو 30 دولة إفريقية في تسعينيات القرن الماضي حشدا كبيرا لشعوبها بهدف الدفاع عن حقوقهم الدستورية حيث تشكلت حركات على نطاق واسع للمطالبة بدمقرطة أنظمة الحكم التي كان يغلب على معظمها آنذاك الطابع العسكري ، ونظام الحزب الواحد ، والأنظمة الديكتاتورية. وأجرت صحيفة "لوموند" الفرنسية حوارا مع مامودو جازيبو، أستاذ العلوم السياسية بجامعة مونريال في كندا حيث كشف عن رأيه فى هذا الصدد قائلا إن الدول الإفريقية بدأت هذا التحول الديمقراطي إبان نهاية حقبة الحرب الباردة في ظل مطالبة قوية بالتغيير تفشت سريعا وكأنها عدوى طالت الكثير من الشعوب. أما اليوم فإن تعبئة مثل هذه الحشود تتم وفقا لما تمليه الظروف الراهنة وأحيانا تحركها أهداف معينة ، إنها تحدث في الغالب مع اقتراب إجراء الانتخابات للتصدي لمحاولات التلاعب بالدستور. ومن ثم فإن الأمر يتعلق فقط بالحفاظ على المكتسبات التي نالتها تلك الشعوب وعدم الرجوع إلى الخلف. وأضاف جازيبو ، وهو متخصص في مسارات دمقرطة الدول الإفريقية، في حواره مع الصحيفة الفرنسية - على هامش مشاركته في "المؤتمر الأوروبي السادس حول الدراسات الإفريقية" الذي عقد في باريس هذا الاسبوع تحت عنوان تعبئة الشعوب في إفريقيا - أن هناك فرقا واضحا بين الليبرالية السياسية وإقامة نظام ديمقراطي. وإذا اعتبرت ظاهرة الليبرالية وكأنها تمثل الانفتاح على التعددية الحزبية وإصدار الصحف الخاصة والحق في تشكيل الجمعيات، فإن عددا ضئيلا من الدول الإفريقية لايزال بمنأى عن تلك الظاهرة ومن بينها إريتريا وسوازيلاند. وفيما يتعلق بالمطالبة بالحقوق السياسية وما إذا كانت المحرك الرئيسي لتعبئة الشعوب الإفريقية، يقول مامودو جازيبو – الذي تعود أصوله إلى النيجر – إن الأحداث التي جرت في التسعينيات من القرن الماضى من أجل تحقيق الديمقراطية وقعت في أعقاب ما يمكن تسميته سنوات "العقد الضائع"، وبعبارة أخرى الفشل الاقتصادي وإفلاس الدول والتشكيك في قدرة المؤسسات الدولية وخططها للإصلاح الهيكلي. ومن ثم فإن البعد الاقتصادي كان في جوهر الحركات التي تشكلت حينذاك حتى ولو أصبحت المطالب فيما بعد سياسية. ويؤكد أستاذ العلوم السياسية بجامعة مونريال في كندا أن تنمية الطبقات المتوسطة تعتبر في أحيان كثيرة ترياق ناجع للشفاء من الاستبداد لأن مثل هذه الطبقات لا تتهاون إزاء حرمانها من الحريات. ولا ينبغي أيضا التقليل من آثار 25 عاما مضت من الممارسات الهزيلة في مجال التعددية الحزبية، لاسيما وإن كثيرين من الذين انتفضوا اليوم عاشوا تلك السنوات. وتوجد حاليا هياكل وتنظيمات سياسية لم تكن قائمة في تسعينيات القرن الماضي حينما لم تكن هناك أحزاب سياسية متعددة في كثير من الدول الإفريقية. وبشأن اقتراب إجراء الانتخابات في العديد من الدول ومنها الكونغو وجمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا، يرى جازيبو أن جمهورية الكونغو الديمقراطية دولة مفككة لا تقوى مؤسساتها على النهوض. ولا يعتقد أن الرئيس جوزيف كابيلا يملك الوسائل التي تمكنه من البقاء في الحكم، ومن المحتمل أن تسلك البلاد نفس الطريق الذي سلكته بوركينا فاسو العام الماضي ما إذا تشبث كابيلا برأيه. أما بالنسبة للوضع في الكونغو - برازافيل ، فإنه يبدو أقل وضوحا إذ يعتقد الرئيس دنيس ساسو - نجيسو أن بمقدوره البقاء في السلطة لأنه ربما يعول كثيرا على أن الشعب الكونغولي لا يزال يشعر بالصدمة النفسية جراء الحرب الأهلية التي أعادت ساسو – نجيسو إلى الحكم عام 1997 ، إلا أنه يعاني أيضا من ثغرات مشابهة لما تعرض له رئيس بوركينا فاسو السابق بليز كومباوري الذي اضطر للاستقالة في أكتوبر الماضي إثر احتجاجات عنيفة ضد ترشحه لفترة رئاسية خامسة. إذ بدأ بعض المقربين منه يتخلون عنه. وفيما يخص رواندا ، قد تحدث مفاجأة سارة بقبول الرئيس بول كاجامي التنحي عن السلطة لاستمرار الاستقرار الذي تنعم به بلاده ، لكن ما إذا تشبث كاجامي بالحكم فإن احتمال حدوث احتجاجات يبدو ضعيفا للغاية. ومن أهم العوامل الحاسمة التي تتحكم في مصير حشود المواطنين الأفارقة ضد السلطة ، هو مدى تماسك القائمين على الحكم إذ كلما كانوا متحدين فيما بينهم ، كان بوسعهم الصمود طويلا أمام تلك الحشود. وهو ما يراهن عليه الرئيس بيير نكورونزيزا في بوروندي، على سبيل المثال. وهناك عامل أخر ألا وهو الانقسامات العرقية والإقليمية التي كلما ازدادت عمقا ، بات من الصعب تعبئة المواطنين انطلاقا من هويتهم الوطنية. ومن المؤكد ضرورة عدم تشجيع الانقلابات بيد أنه حينما ينتهك رئيس منتخب مثل نكورونزيزا القوانين، فإنه يفقد شرعيته. العامل الثالث الذى اشار اليه الباحث الكندى هو الجهاز الأمني الذي يجعل من شبه المستحيل الإطاحة بالمؤسسات القائمة ما إذا كان قويا وقادرا على قمع المتظاهرين. فقد نجح الجيش في بوروندي في إفشال انقلاب نادى به المتظاهرون ضد الرئيس نكورونزيزا. وأخر تلك العوامل يتمثل في الدعم الخارجي بكافة أشكاله للسلطة القائمة، وكان دعم الولاياتالمتحدةالأمريكية للرئيس البوروندي إبان الانقلاب الأخير الذي تعرض له قد ترك أثرا سيئا، إنها مساعدة لم يتوقعها نكورونزيزا نفسه وكل من يساندونه. وحول جهود مكافحة إرهاب الجماعات الإسلامية المتشددة في إفريقيا وما إذا كان ذلك سيعمل على إعادة تشكيل خريطة الدعم الغربي لأنظمة الحكم في عدد من الدول بحيث تجعل تطلعات شعوبها إلى الديمقراطية في المرتبة الثانية بعد القضاء على الإرهاب ، يؤكد مامودو جازيبو في حواره مع صحيفة "لوموند" الفرنسية أن الغرب يعطي الأولوية الآن لمحاربة الإرهاب ، موضحا أن الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز ينظر إليه دائما على أنه سد منيع في وجه الإرهاب. وفي تشاد أيضا ، عاد الرئيس إدريس ديبي إلى صدارة المشهد لأنه يشكل رقما مهما في المعادلة الأمنية بالنسبة للغرب. ويعتقد جازيبو أن الغرب سيفضل الاستقرار في المنطقة عن أي شيء آخر. وقال إن الحركات الإسلامية المتطرفة تتوغل في إفريقيا ولا يمكن التنبؤ بكيفية الخروج من هذا المأزق خلال العقد القادم، فقد تسبب التدخل الغربي في العراق وليبيا وسوريا بحدوث فراغ ساعد على إقامة تنظيمات مثل الدولة الإسلامية والقاعدة، وفي مثل هذه البيئة ، يصعب ضمان الحريات. وعندما يكون نظام الحكم القائم مستبدا أيضا، فإن هذا المزيج - الذي يجمع بين غياب الحريات واستبداد السلطة - يعمل ضد انبثاق الديمقراطية.